التعددية وقبول الآخر في المنظور الإسلامي

رؤى من فكر الامام الشيرازي

عبد الكريم العامري

 

شبكة النبأ: أراد الإسلام حسن تعامل المسلمين مع غيرهم من الكفار والمشركين ومن أشبه ليطلع الآخرون على عقائد المسلمين وأعمالهم وشعائرهم وأخلاقهم، حتى يرغبوا في الإسلام عقيدة وعملا، حيث إن الإسلام جميل في كل شؤونه، فإذا رآه غير المسلم حرضه على المقارنة والمفاضلة بين الإسلام وما هو عليه وانجذب إليه ضمن مقتضيات حسن العلاقة بينهما.

من خصائص ذلك في هذا التعامل أنه يؤدي الى تبادل المصالح والأفكار والسلوك والمنافع وتقوية الصلات سواء كان الطرف الآخر غير المسلم. من الكفار الذميين، أو المعاهدين، بل وحتى المحاربين في بعض الصور، وقد اقتبس البعض هذا الأسلوب الرائع فسماه بالوحدة الوطنية أو ما أشبه، وقد كان الأمر على هذا الحال منذ فجر الإسلام بين المسلمين ومختلف الكفار.. من هنا نرى أن الكفار كانوا يدخلون في دين الله أفواجا.

يذكر المرجع الديني السيد محمد الحسيني الشيرازي ما نصه: عن أبي عبد الله (ع) أن النبي محمد (ص) قال: (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه وعلي أولى من بعدي) فقيل له: ما معنى ذلك؟ فقال: قول النبي(ص): (من ترك دينا أو ضياعا فعلي، ومن ترك مالا فلورثته) فالرجل ليست له على نفسه ولاية إذا لم يكن له مال وليس له على عياله أمر ولا نهي إذا لم يجر عليهم النفقة، والنبي (ص) وأمير المؤمنين (ع) ومن بعدهما ألزمهم هذا فمن هناك صاروا أولى بهم من أنفسهم، وما كان سبب إسلام عامة اليهود إلا من بعد هذا القول من رسول الله (ص) وإنهم آمنوا على أنفسهم وعلى عيالهم.

نعم قد جعل الإسلام علاقة المسلمين بغيرهم قائمة على أسس عقلية أخلاقية وعلى أكمل وجه، مبنية على السلم والسلام وبعيدة كل البعد عن العنف والإرهاب، وهذا مما يؤدي بالنتيجة الى إحلال السلام وتأصيله و يرشدنا المرجع الديني السيد محمد الى جملة من تلك الأسس:

أولا: المساواة

فقد قال سبحانه وتعالى بالنسبة الى عموم العلاقة بين المسلمين وغيرهم ما سبق من قوله: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) الحجرات / 13، فلم يخصص الله سبحانه وتعالى هذا الحكم بالمسلمين فحسب، بل يشمل المسلمين والكفار، فكلهم متساوون في الإنسانية وما يرتبط بها من القوانين.

كما أن المسلمين متساوون في حقوقهم وواجباتهم العامة إلا إذا كان هناك استثناء لجهة، مثلا الوظائف العامة في الدولة الإسلامية كلها للجميع فلا يحق أن يقول الحاكم، أعطي هذه الوظيفة لعربي دون عجمي، أو لأبيض دون أحمر، أو للمدينة الفلانية دون المدينة الفلانية، إلا إذا كان شخص أكفأ من شخص آخر حيث تعطى الوظيفة للأكفأ، وقوله تعالى: (إن أكرمكم عند الله اتقاكم) الحجرات / 13.

العمل يحتاج الى العلم والأمانة في الحفظ، فإذا كان أحد شخصين له الكفاءة دون الآخر قدم الأول، وهذا ضد التساوي وإنما من جهة خارجية انضمت الى أحدهما دون الآخر، فإن الإنسان لا يسلم الأمور الصغيرة الى من ليس له حفظ أو إذا كان له حفظ لكنه ليست له أمانة فكيف بالكبيرة؟! وكيف بوظائف الدولة العامة، وغيرها من سائر المعاملات؟!

ثانيا: الحرية

إن الحرية الإسلامية للجميع، مسلمين وغير مسلمين، من الواضح أن تكون الحرية في إطار الأخلاق والفضيلة والتقوى وعدم الإضرار بالغير، كما هو شأن المسلم، بعيدا عن الهوى والرياء والتفاخر وحب الذات والأنانية والجاه والسلطان والمال ونحو ذلك، ولا يكون ذلك إلا بالتعددية في الظاهر، وبالخوف من الله سبحانه وتعالى في الباطن، فإن الإيمان رقيب غريب في باطن الإنسان لا يتركه يحيد عن جادة الحق والصواب والخير العام.

الحرية التي قررها الإسلام ليست خاصة بالمسلمين بل تشمل أهل الكتاب والكافرين أيضا، منها: الحرية الدينية، الحرية الفكرية والثقافية، الحرية العلمية والعملية، مضافا الى الحريات الأخرى التي منحت لهم كالحريات الاجتماعية والتجارية والاقتصادية وغيرها.

ثالثا: الرعاية

لم يقف الإسلام عند حد رعاية الكفار فيما لهم من الحقوق، بل كان يرعاهم حتى لو أساءوا أو لم يكن لهم من الحقوق شيء.

في حديث صفوان الذي كان للكفار كوزير الدفاع، أن الرسول (ص) لما أراد أن يذهب الى غزوة حنين، طلب منه أن يعيره مائة من الدروع، فقال صفوان: أغصبا يا محمد؟

فقال النبي (ص): (بل عارية مضمونة).

قال: لا بأس.

مع العلم أن النبي (ص) كان هو المسيطر والفاتح، وكان يتمكن أن يأخذ الدروع بالقوة أو يصادرها كما يفعل غيره من الفاتحين.

رابعا: حسن المعاملة

شواهد المعاملة الحسنة مع الملل المتواجدة في بلاد المسلمين كثيرة، وفي الحديث أن رسول الله محمد (ص) قال: (السلام تحية لملتنا وأمان لذمتنا).

تحية المسلمين التي تؤلف بين القلوب وتقوي الصلات، وتربط الإنسان بأخيه هي السلام، قال رسول الله (ص): (أولى الناس بالله ورسوله من بدأ بالسلام).

 بذل السلام وإفشاؤه جزء من الإيمان، كما عن الإمام علي بن أبي طالب (ع) قال: (ثلاثة من حقائق الإيمان... وبذل السلام لجميع العالم). وقد جعل الله تحية المسلمين بهذا اللفظ، للإشعار بأن دينهم دين السلام، والأمان.

وكثرة تكرار لفظ السلام على هذا النحو، مع إحاطته بالجو الديني النفسي، من شأنه أن يوقظ الحواس جميعها، ويوجه الأفكار والأنظار الى المبدأ السامي العظيم المبني على السلم والسلام.

هذا ما يشمل خيره غير المسلمين أيضا، فيشكل أسس المعاملة الحسنة معهم.

ومن شواهد المعاملة الحسنة: الصحيفة التي وادع فيها النبي(ص) اليهود وذلك لما هاجر النبي(ص) الى المدينة وأقام أول مجتمع إسلامي هناك، كتب صحيفة معروفة في السير والتواريخ بصحيفة المدينة، تحدثت هذه الصحيفة عن علاقة المسلمين فيما بينهم، ثم علاقتهم مع بطون اليهود المقيمين آنذاك في المدينة المنورة، مما يعطي درسا في كيفية التعايش السلمي بين المواطنين.

في التاريخ أن ابن عباس كان مجاورا ليهودي وكان يهتم بالإحسان إليه كما كان يهتم بسواه مراعاة لحرمة الجوار، فالقريب له حرمة، والجار له حرمة، والزوجان لهما حرمتهما، والصديق له حرمة، وإن كان أحدهما مسلما والآخر غير مسلم، فإن الإسلام يحث على مكارم الأخلاق وإعطاء الحقوق ورعاية الآخرين سواء كان مسلما أو غير مسلم، فهم كلهم في نظره سواء.

وقد حرض الإسلام على زيارتهم وعيادة مرضاهم وتقديم الهدايا لهم ومبادرتهم البيع والشراء وسائر المعاملات، هكذا عمل المسلمون طوال التاريخ الإسلامي، مع غير المسلمين سواء كانوا من أهل الكتاب أو غير أهل الكتاب، وقد ثبت أن النبي (ص) مات ودرعه مرهونة عند يهودي في دين على الرسول (ص) لليهودي.

خامسا: الحماية والدفاع عنهم

كفل الإسلام لأهل الكتاب وغيرهم حريتهم الدينية وحمايتهم ومساواتهم مع المسلمين بشرط أن يدفعوا الجزية لدولة الإسلام، كما يدفع المسلمون حقوقهم الشرعية من الخمس والزكاة وما أشبه.

ومعنى الجزية مشتقة من الجزء، بمعنى أن جزء من أموال الكفار يؤخذ منهم، مقابل حماية الدولة لهم، ومقابل ما تهيؤه الدولة لهم من الخدمات كالمدارس والمعاهد والطرق والمطارات والقطارات وما أشبه ذلك من المنافع العامة.

بل أحيانا جعل التزامات غير المسلمين أقل من التزامات المسلمين، كما يدل على ذلك نظام الضريبة في الإسلام.. حيث إن الخمس والزكاة ضرائب مرتفعة بالنسبة الى الجزية، أما الجزية فهي ضريبة منخفضة جدا.

أما بالنسبة لحمايتهم فقد وردت جملة من الروايات في ذلك ومنها ما ورد عن رسول الله (ص) أنه قال: (من أخذ شيئا من أموال أهل الذمة ظلما فقد خان الله ورسوله وجميع المؤمنين).

وفي الآية الكريمة قول الله سبحانه وتعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)الممتحنة/ 8ـ9.

وخلاصة العلاقة حسب رأي المرجع الديني السيد الشيرازي التي تربط بين المسلمين وغيرهم من المذاهب والملل في البلاد الإسلامية بجملة من النقاط بعد أن رأينا كيف حقق الإسلام المساواة بين الذميين والمسلمين، فكان لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم:

1ـ عدم إكراه أحد منهم على ترك دينه أو إكراهه على عقيدة معينة، يقول الله سبحانه وتعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) البقرة/ 256.

2ـ من حق أهل الكتاب أن يمارسوا شعائر دينهم: فلا تهدم لهم كنيسة، لا يكسر لهم صليب.

3ـ ترك لهم الإسلام ما أباح لهم دينهم من الطعام وغيره، ما دام ذلك جائزا عندهم ولم يتظاهروا في المجتمع الإسلامي.

4ـ لهم الحرية في قضايا الزواج والطلاق والنفقة حسب دينهم، ولهم أن يتصرفوا كما يشاؤون فيها، دون أن توضع لهم قيود أو حدود إلا ما حدده الشرع الإسلامي مثلا، إذا حصل تزاوج بين المسلمين وأهل الكتاب.

5ـ حمى الإسلام كرامتهم، صان حقوقهم، جعل لهم الحرية في الجدل والمناقشة في حدود العقل والمنطق، مع التزام الأدب والبعد عن الخشونة والعنف.

6 ـ ساوى بينهم وبين المسلمين في القوانين العامة للبلاد.

7ـ حكم الإسلام بطهارة أهل الكتاب وأحل طعامهم والتزوج بنسائهم، وجواز التعامل معهم.

8ـ يحبذ الإسلام زيارتهم وعيادة مرضاهم، وتقديم الهدايا لهم، وقضاء حوائجهم، ويسمح بمبادلتهم البيع والشراء ونحو ذلك من المعاملات.

9ـ يحرض الإسلام على السعي لهدايتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن دون إي إكراه.

10ـ منحهم الإسلام حرية الحوار والنقاش والمحاجة مع علماء المسلمين، كما هو الشاهد في كتاب الاحتجاج للعلامة الطبرسي (قدس سره).

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 15/شباط/2011 - 11/ربيع الأول/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م