وينتصر حدس التحاكم التبادلي للشعوب

ماجد الشّيخ

تفتح الانتفاضات الشعبية الجارية اليوم على مسرح العديد من دول العالم، ولا سيما في بلادنا، من تونس إلى مصر.. إلى.... إمكانية العمل على تطبيق عقد جديد مختلف عن كل العقود السابقة، بقيت مغيبة ومغفلة طوال عمر الأنظمة السلطوية والشمولية، وهي ما يمكن أن ندعوها نظرية "التحاكم التبادلي" بين الأنظمة وشعوبها. فيؤكد نهوض الشعوب وانتفاضها السلمي بمواجهة قمع وإرهاب الأجهزة الأمنية للأنظمة، وفشل البنى الحزبية، ضرورة تصحيح وتدقيق تحليلات أفكار التغيير والإصلاح، تلك التي استعصت طوال عقود من السنين في العديد من البلدان التي حكمت وتحكم فيها سلطات فردية أو عائلية، احتجز خلالها التطور الطبيعي، في ذات الوقت الذي كان يُعاد النظر في كامل البنى الاقتصادية والاجتماعية والطبقية، لتتماشى مع بنية السياسة الحاكمة للنظام السياسي الذي استعاد فيه حلوله "التخليقية" لاستمراره، واستمرار عصاباته المافيوية في التحكم بثروات البلاد، كما وبالفضاء العام، وبالسياسة، وبالاقتصاد والتجارة والمصارف وكل ما يدر من أموال، وتحويل البنى الطبقية العليا إلى مالكة للسلطة في مجالها الموازي لملكية السلطة السياسية، وهي تتحول إلى "مالك خاص" لكل ما هو جامد ومتحرك داخل حدود الدولة.

 لهذا لم تجد المادة الأساسية للانتفاضات الشعبية من الناس العاديين، حتى غير المسيّسين منهم، سوى أن تستجيب لنظرية وحدس "التحاكم التبادلي"، وهي تخط بالعريض حلم تغيير ممكن، وحلم ديمقراطية مباشرة، يحكم الناس فيها على نظامهم بالبقاء أو بالرحيل، فالدولة والوطن أهم من أي نظام، وقد دللت خبرة الشعوب والأمم، أنه لا يمكن التعاطي مع أي نظام إلاّ كونه "الموظف العام" لدى الناس، وليس العكس، وما يحصل في ظل هيمنة الأنظمة الشمولية الأوتوقراطية والثيوقراطية والاستبدادية، أن الناس كانت مادة "التمادي السلطوي" في الحكم عليهم، بما أرادت وتريد الأدوات السلطوية الحاكمة، دون وازع من مسؤولية ضمير أخلاقي أو سياسي.

 ولئن كانت الشعوب عموما، أكثر احتياجا اليوم إلى عقد سياسي اجتماعي جديد، فلا شك أن عقد "التحاكم التبادلي" بين الدولة وشعبها هو الأوفر حظا في ديمومة إقامة نظام خدمة سياسي واجتماعي، محدد زمنيا بفترة أو فترتين لا ثالث لهما، ولا توريث لأي شخص أو أشخاص يمثلون النظام الاعتباري للدولة، فليس من هم للدولة ولا من هموم الوطن، أن يواصل الاستبداد حكمه على ما افترضت شخصيات رئاسية اختزلت النظام والدولة والوطن بشخصها، واختزلت مصالح الناس كمجتمع وطبقات بمصالح أفرادها أو أفراد عائلاتها، والمحيطين بها من الأقرباء والأنسباء والشركاء المافيويين وعصاباتهم المتسلطة على السلطة، وعلى رقاب ومصالح الناس.

 الاستبداد بهذا المعنى تحاكم فردي أو سلطوي، لا يمكنه أن يكون تبادليا، من هنا تشكل مطالب الانتفاضات الشعبية أحد أهم أدوات استعادة "التحاكم التبادلي" إلى أصحاب الحق؛ ليس في استعادة حقهم في السلطة، واختيار السلطة، بل في استعادة حقهم المسلوب من قبل السلطة في أن تكون ناتج خياراتهم هم، لا ناتج خيارات التزوير والتزييف والفرض القسري من قبل قوى خارجية إقليمية أو دولية، أو حتى قوى محلية تملك المال وجاه السلطان للتحول إلى "سلطة دائمة" جراء امتلاكها المال والوكالات والشركات، وقدرتها على ممارسة السمسرة والبيع والشراء دون حسيب أو رقيب، في تزويج حرام للمال والسلطة، والطلاق الحلال البائن بين القيم والأخلاق والسلطة.

 في التجربتين التونسية والمصرية حتى الآن، أمكن ملاحظة توجهات الانتفاضتين الشعبيتين السلمية، حتى في مواجهة عنف وإرهاب القوى الأمنية وفوضاها المنظمة وغير المنظمة، والمجرمين من البلطجية والعناصر الفاسدة من المجتمع، وفي التجربتين كذلك يمكن تقدير دور المؤسسة العسكرية بانحيازها إلى الوطن والدولة، وإن لم تعلن طلاقها البائن مع النظام، وإسنادها مطالب الشعب، حتى وهي تنتظر حسم الأمور، من دون أن تجرؤ على تسريع مثل هذا الحسم، على الرغم مما يمكن تأويل أو تفسير موقفها سلبا أو إيجابا لصالح "تحاكم" لم يحسم خياراته التبادلية بعد.

 في التجربتين التونسية والمصرية كذلك، انحصرت شعارات المنتفضين في إسقاط النظام كحد أعلى، وفي تحديد مطالب داخلية لها علاقة بالحريات وحقوق الانسان، ومعيشية تتعلق بالأجور وارتفاع الأسعار والبطالة والتشغيل.. إلخ من مطالب حياتية يومية وإستراتيجية بعيدة المدى، ولكن دون الخوض في أي شعارات قومية عربية ضد إسرائيل أو دول الغرب، ليس لنقص في قومية المنتفضين، ولكن لتصويب وحصر شعاراتها أكثر في ما هو مباشر من أهداف ومطالب شعبية.

 الملاحظة الأهم والجديرة بالاعتبار والاهتمام في التجربتين الانتفاضيتين التونسية والمصرية، غياب الشعارات الاسلاموية وعدم تركيز التيارات الدينية على مسألة الشريعة، على ما أعلن راشد الغنوشي في تونس بعد عودته إلى بلاده، ما يؤكد أن المطلوب وفي كل الأحوال بناء دولة مدنية حديثة، يكون "التحاكم التبادلي" فيها هو سيد الأهداف العليا للشعوب التي تنتفض اليوم على أنظمتها المتكلسة، إذ من الاستحالة اليوم وغدا النكوص بأهداف التحديث والعلمنة وتدمير قوانين الأحوال الشخصية المتقدمة التي أقرت في عهدي بورقيبة وبن علي، للمطالبة بعودة أو استعادة "الشريعة" لتحكم جمهورا متعددا ومتنوعا، ومجتمعات لا تشكل "الشريعة" بالنسبة لها همها الرئيس، في وقت تفرض هموم "التحاكم التبادلي التعاقدي"، إحدى أبرز المهام الرئيسة لشعوب كشعوبنا المنكودة بأنظمة استبداد أبوية حديدية، لم ترد أن ترحل من دون أن تغرق أوطانها ودولها بالأحمر القاني.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 14/شباط/2011 - 10/ربيع الأول/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م