أي شعب إذا ما أسقط الخوف من حساباته، فلا يمكن لأية قوة إسكاته.
وإذا ما تمكن من كسر قيوده واستنشاق عطر الحرية، فلن يتجرأ أي مستبد
جبّار من تقييده مجددًا. إن للحرية طعمٌ لا يستشعرها إلا من نال شرفها،
ولا يدركها إلا الطامحون والعاملون والمضحّون. العبيد لا يحققون
الإنجازات، والمقيّدون بالأغلال لا يتمكنون حتى من إنقاذ أنفسهم،
الأحرار وحدهم فقط من يمكنهم تحقيق المستحيل، والطيران بالشعوب في
الأعالي، وإنجاز طموحاتها الوطنية، هذه الحقيقة سطرها التاريخ.
الشعوب التي فجرت الثورات ونالت حقوقها خطت خطوات نحو الرقي
والتقدم. لقد خاب ظن الذين ادعوا ويدعون "إن الحرية لا تعطي خبزًا"!
وأن الاقتصاد لا ينمو في ظل الحرية والديمقراطية! وقد لا نستغرب من بعض
الإعلاميين الموالين للأنظمة حينما يشبهون الحرية والديمقراطية
بالفوضى. ألم يقل رأس النظام في مصر بأنه يخشى من الفوضى إذا ما رحل
الآن؟!! وكأن بلاده طيلة الثلاثين عاماً من حكمه كانت تعيش في بحبوحة
من النعيم وأجواء من الحرية والأمن والاستقرار!! الطغاة الذين وصلوا
إلى الحكم بالحبل الشرّي وليس السرّي يعتبرون أنفسهم آلهة، وشعوبهم
مجرد عبيد وجدوا فقط لخدمتهم والتضحية بأنفسهم في سبيل راحة أسيادهم؛
لكي يتفرغوا هم لنشر الفساد والخراب وسرقة المال العام.
لكن الله جلّت قدرته يُمهل ولا يُهمل، وهو مُسبّب الأسباب، وهو
الذي يجعل لكل شيء سببًا. الفساد والظلم والفقر والاستبداد تعتبر
جميعها أسبابًا مهّدت للثورة في تونس ومصر، فقد أحدثت الشرارة الأولى
على أيدي الشباب. وحدهم الشباب وليست القيادات والأحزاب وأساتذة العلوم
السياسية كانوا السبب في إحداث التغيير في تونس ومصر، وكانوا وقودها.
وهم الذين أبدعوا في إيجاد الثقب في جدار الخوف ما أدى إلى تشققه
تدريجياً ومن ثم انهياره بالكامل، ونجم عنه خروج الجماهير عن صمتها
والنزول إلى الشوارع للمطالبة بحقوقها.
اليوم تُعجّ شوارع مصر ووزاراتها ومؤسساتها بالمسيرات والإضرابات من
قبل الموظفين والنقابات العمالية، يطالبون جميعًا بحقوقهم وتحسين
ظروفهم المعيشية. فلولا الحرية لما استطاع هؤلاء المستضعفين المجاهرة
بحقوقهم الأساسية .. هذا الصمت الذي طال ثلاثة عقود. ولولا الحرية لما
استطاع الآلاف من أساتذة الجامعات الخروج في مسيرات نحو ميدان التحرير؛
للتعبير عن تضامنهم مع مطالب الشباب.
ولولا الحرية لما استطاع الصحفيون والإعلاميون المساندون للثورة
القيام بالاعتصام أمام مقرّ نقابتهم يطالبون بإسقاط نقيب الصحفيين
الموالي للسلطة. إذاً الحرية هي وحدها التي تزيل الكمامات عن الأفواه،
والغشاوة عن الأعين، وتطلق المبادرات، وتنشط حركة الحقوق في الجماهير،
وتحثها على التشبث بمطالبها حتى تنال حقوقها وفق القانون.
في مقابلة مع BBC من ميدان التحرير بوسط القاهرة تقول "دينا سالم"
فتاة ذي عشرين ربيعاً: "إنني لا أنتمي لأي حزب أو تيار سياسي، لكنني
أنتمي لإنسانيتي". ما أروع الكلمات، وأجمل الدروس التي تفوح هذه الأيام
من أفواه الشباب الذين فجروا "ثورة الغضب" في 25 يناير. هذه الشريحة
الشبابية استطاعت أن تكسر القيود، وتثور على الظلم والاستبداد بعفوية
وفق فطرتها الإنسانية. استطاعت أن تكسر حاجز الخوف فتمكنت الجماهير من
الخروج إلى الشوارع والميادين.
ان تجربة الثورتين التونسية والمصرية، وتجارب الكثير من الثورات
الشعبية أثبتت أن الأوطان لا تُبْنى ولا تنمو إلا في ظل الحرية أولاً،
ووفق قاعدة العدالة والإنصاف، والتداول السلمي للسلطة، والتوزيع العادل
للثروة واحترام حقوق الإنسان ثانياً. |