مساحة الحرية عندما تضيق

رؤى من فكر الامام الشيرازي

عبد الكريم العامري

 

شبكة النبأ: إن الله سبحانه وتعالى هو الخالق، ذو القوة المتين، والجبروت والسلطان، كما قال سبحانه: (هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) الحشر /24.

ومع ذلك كله خلق الإنسان مختارا ونسب إليه المشيئة، حيث قال تعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) الكهف/ 29.

وقال تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا أربابا من دون الله) آل عمران / 64.

من خلال مجموع هذه الآيات يعرف أصل حرية الإنسان، وأن لها أكبر المساحات في الإسلام وأنه ليس لغير الله على البشر من سلطان، وحينما يتحرر الضمير من شعور العبادة والخضوع والانقياد لغير الله سبحانه وتعالى، يأتي دور سائر الحريات الممنوحة للإنسان في مختلف معاملاته وسائر شؤونه الفردية والاجتماعية وغير ذلك.

بمعنى آخر إن الحرية في النظرية الإسلامية ليست بمعنى الانطلاق غير المحدود بفعل المحرمات وترك الواجبات حتى لا يقف عند حد ولا يعبأ بالقيم ويتمرد على المجتمع، وإنما تعني الانطلاق البناء الذي يتطلع الى فضائل الخير في أرجاء النفس والفكر والعقل والمجتمع فيبني ولا يهدم ويقوم المعوج فيذهب الى المزيد من التقدم ويطلب الحق والعدل دائما، كما يطلب المساواة في موضعها.

فليست هناك مساواة مطلقة، كما أنه لا تصح الحرية المطلقة حتى وإن كانت على حساب الآخرين، وإنما لكل واحد منها منطقه خاص به، فإذا تحولت الحرية أو المساواة في غير منطقة العدل، فإن ذلك يسبب فسادا.

فالحرية تعني أن كل إنسان حر في كل شيء، ماعدا المحرمات والواجبات، حيث إن المحرمات يلزم تركها، والواجبات يلزم فعلها، وذلك رعاية لمصلحة الإنسان نفسه أو بني نوعه، ومن المعلوم أن الواجبات والمحرمات بإزاء سائر الحريات شيء قليل. حيث نلاحظ رياح التغيير تعصف بالأنظمة العربية، لو انها وعت ذلك مبكرا لحقنت الدماءن وسادت المساواة وعم الخير.. تلك الحقوق الأساسية للإنسان المسلم وغير المسلم، التي كفلها الدين الإسلامي الحنيف.

مفهوم الحرية:

الحرية في الإسلام ليس معناها الانغمار في الشهوات الطائشة أو الهوى المتبع أو تهدف غرضا غير نبيل توجب سلب حقوق الآخرين. فالوجدان محرر من العبودية والخضوع والانقياد لغير الله سبحانه وتعالى سواء كان أصناما بشرية أو أصناما حجرية، وقد قال الإمام الحسين(عليه السلام) للحر بن يزيد الرياحي في يوم عاشوراء: (ما أخطأت أمك إذ سمتك حرا فأنت حر في الدنيا وسعيد في الآخرة).

وقد قال الإمام علي (عليه السلام) في يوم الخندق وهو يصرع عمرو بن عبد ود أحد صناديد العرب:

لا تحسبن الله خاذل دينه... ونبيه يا معشر الأحزاب

في أبيات المقطوعة أصلا كما يشير السيد محمد الحسيني الشيرازي، بيان لمصير الإنسان الذي حباه الله بالعقل وقدرة التمييز، فيصبح أسير هواه حتى يعود صريعا في سبيل الحجارة التي لا تكون عاقلة ولا مبصرة ولا سميعة ولا عليمة ولا فاعلة، إنما يعبد ما لا يضر ولا ينفع، وقد كان أمير المؤمنين (ع) دعاه الى الإسلام قبل أن يصرعه لكنه أصر على السفاهة والتزم بما لا يؤيده عقل ولا منطق ولا ضمير ولا حتى عاطفة، مما سبب له ذلك المصير الأسود والعاقبة الوبيلة.

والحرية شيء طبيعي وفطري، إذ يتشوق إليها كل إنسان حتى وإن وقع في أزمة أو ما أشبه ذلك.

حرية الروح:

من اللازم على الإنسان أن يتمتع بحرية الروح وقوة النفس، فلا يقع ضحية المال، أو الجاه أو الشهوة الجنسية أو السلطان أو الحسب أو النسب، فإن كل ذلك خلاف الحرية، فإذا وجد الإنسان نفسه خاضعا بتأثير أي أمر من تلك الأمور وأشباهها فإنه لا يتمتع بحرية كاملة حيالها، كما قال عيسى بن مريم (عليه السلام) لأصحابه: (إنكم لن تنالوا ما تريدون إلا بترك ما تشتهون وبصبركم على ما تكرهون).

وهذه الحرية من ميزات الدين الإسلامي، حيث يجعل الروح حرا أمام كل الشهوات.

قال الإمام علي (ع): (إياكم وغلبة الشهوات على قلوبكم فإن بدايتها ملكة ونهايتها هلكة).

وقال (ع): (مملوك الشهوة أذل من مملوك الرق).

وقد قال أحد الفلاسفة لأحد الملوك: أنت عبد عبدي، ولما استفسر عن السر، قال: إن شهوتي عبدي وخاضعة لي وأنت عبد للشهوة فأنت عبد عبدي.

وقد تعرض القرآن الحكيم الى بعض أمثال هذه القيم الزائفة حيث قال سبحانه: (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين * قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون * وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون * والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون * قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) سبأ 35 ـ 39.

فالكرامة ليست للمال، ولا للسلطان، ولا للعشيرة، ولا للمكانة الاجتماعية وإنما الكرامة للتقوى، فكلما زادت تقوى الإنسان زادت كرامته وكذلك يصح العكس، هذا بالنسبة الى العقل والمنطق في الدنيا، أما بالنسبة الى الآخرة فلا تبقى قيمة إطلاقا إلا قيمة الحق والعدل وسائر الواقعيات.

الحرية السياسية:

لم تعط أرقى الحضارات مبدأ الحرية حقها، وإنما طبقت منها ما يتلاءم مع مصالحها الضيقة، ومع ذلك نجد المسلمين في واقعنا المعاصر تركوا الحريات الإسلامية ـ التي فيها خير وسعادة ـ الى القيود التي (ما أنزل الله بها من سلطان) يوسف/ 40 والنجم/ 23...وسبب ذلك لهم التأخر، الشأن الذي لم يكن مسبوقا في تاريخ الإسلام الطويل إطلاقا، وإنما جاءت هذه التبعية للغرب والشرق منذ أقل من قرن فذاقوا وبال أمرهم حيث سقطت سيادتهم وسعادتهم واستقلالهم، وحرموا من الحرية الممنوحة من قبل الإسلام. الحرية السياسية في الإسلام لا تقل أهمية في نشر السلم والسلام في المجتمع عن الحرية الدينية ومن مصاديقها الانتخابات.

حق الانتخاب:

حق الانتخاب لكل فرد، رجلا كان أو امرأة، صغيرا أو كبيرا، فإن الطفل يمكنه المشاركة بالانتخابات عبر وليه.. إنه من الحقوق السياسية التي شرعها الإسلام للإنسان.

فقد جعل الإسلام لكل فرد من المسلمين حق ان يعطي رأيه وأن ينتخب من يريده في رئاسة الجمهورية وما أشبه.

نعم الإمامة تعين من قبل الله تعالى، لأن الإمامة كالنبوة هي خلافة الله في الأرض ومشروطة بالعصمة والعالم اللا دنيوي، يقول الله تعالى: (إني جاعلك للناس إماما) البقرة/ 124. من هنا تتميز الإمامة والنبوة بالمعاجز التي لا يقدر البشر عليها.

لكن في غير منصب النبوة والإمامة، الإنسان مختار في انتخاب من يراه صالحا في إدارة أموره، وله الحق أيضا في أن يساهم بنفسه في إدارة شؤون الدولة والأمة، وقد يكون ذلك واجبا عقلا إذا توقف الواجب عليه من باب المقدمة، فحق انتخاب رئيس الدولة وما أشبه حق مكفول لكل فرد من أفراد المجتمع، حتى للصغار حق الرأي والانتخاب لكن حيث لا يتمكنون من مزاولة ذلك بأنفسهم فيشاركون عبر وليهم الشرعي.

فالحريات السياسية بمختلف مصاديقها هي حق مشروع لكل إنسان، من المشاركة في الدولة، والترشيح، وإبداء الراي، وحقوق المعارضة، وتشكيل الأحزاب والتجمعات، وإصدار الصحف والمجلات، والبث عبر الإذاعات والتلفزيونات وما أشبه. كل هذه مما يضمن السلم والسلام السياسي، أما العنف والإرهاب والقمع والظلم والاستبداد فإنها تنافي السلم والسلام. نستخلص مما ذكره السيد محمد الحسيني الشيرازي في كتابه(السلم والسلام) إن النظرية السياسية الإسلامية توجب على الحكومة:

1ـ يلزم على الحكومة تطبيق السلم ومراعاة السلام مع الشعب، فلا يجوز استخدام العنف مع الشعب أو غيره، إلا فيما قرره الشارع وبالمقدار المقرر فقط.

2ـ يلزم على الحكومة مراعاة السلم مع المعارضة، سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم دينية، فلا يجوز مصادرة حرياتها من الإعلام والصحف والتجمعات وما أشبه.

3ـ يلزم على الحكومة أن تجعل سياستها الخارجية مبنية على السلم والسلام.

4ـ يلزم على الحكومة أن تسعى لشمول السلم والسلام عموم المجتمع وأفراد الشعب وأن تكون هي المشجعة لذلك والبانية لأسس السلام مع الأقليات الدينية وغيرها، مع عدم ارتكاب أعمال عنف توجب ضرر الآخرين كالتفجيرات والاغتيالات... قال الله تعالى: (ادخلوا في السلم كافة) البقرة/ 208.

5ـ يجب على الحكومة مراعاة المتظاهرين، تعدد أحزاب المعارضة، مبدأ الاستشارة، وضع القوانين المناسبة والقضاء الجيد، حرمة اعتقال الأبرياء، حرمة التجسس على الرعية كما قال الله تعالى: (ولا تجسسوا) الحجرات/ 12.

6ـ ينبغي نشر الوعي والاهتمام بالخدمات كافة.

نستنتج من هذا؛ على الحكومة أن تنشر برنامجها السياسي ليطلع عليه الشعب، وليلتزم به السياسي، وخلاف ذلك يوجب تغيير الحكومة بالطرق السلمية، لأنها أخلت بالمواثيق والعهود، وأساءت استخدام السلطة، وهذا ما جرى في العراق ويجري في تونس ومصر.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 12/شباط/2011 - 8/ربيع الأول/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م