عن سيرة القهر والخنوع... المثقفون يصلون متأخرين

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: عيناك متعبتان وانت تلاحق تلك الكلمات السوداء على اسطح البياض الناصع.. من جهد التحديق في عتمة الحروف ام من جهد التفكير؟

الاولى تقود الى الثانية.

سفنك تشقّ طريقها في دروب البحر المالحة.. هنا مرفأ للاستراحة قبل ان تهب عليك العاصفة القادمة.. تتوغل عميقا.. بوصلتك من شك وتساؤل.. تصل محطم الانفاس زائغ النظرات.. تنتبه الى نفسك.. لازلت لم تبرح مكانك.. لكنك تتذكر للتو انك تحدثت بعدد من اللغات، وتعرفت على فلان وفلان من بلدان عديدة ووصلت الى تخوم الجغرافية القصوى.

كم مرة في اليوم، في الاسبوع، في الشهر، في السنة الواحدة تقوم بمثل هذه الرحلات ؟ لا يستطيع حراس الحدود اعتراضك ولست بحاجة الى جواز سفر او تاشيرة دخول.. ورغم هذا انت في سفر دائم، لا تحط رحالك ولا تستريح الا لتبدأ رحلة جديدة.. انت هو انت، في الصفحة الاولى، ولكنك لست انت في الصفحة الاخيرة.

شيء يشبه البرق يضرب اعصابك ويستفز تفكيرك يستبيح كل هدوء ممكن قد تتسلح به.. تطير امامك الاف الفراشات، زرقاء، بيضاء، الوان قوس قزح، تتلبد سماءك بالغيوم، امطرت، تروي جدب الروح، تنعش احاسيسك، تدميك، تشهق فرحا، تبكي من شدة الحزن.

انت لست انت، في مكانك تمارس هذه الطقوس العجيبة، جزر من اللذائذ والاكتشافات.. يا الله، كم هي ممتعة وشاقة تلك الرحلة الى تخوم المجهول.. تحس باصابعك ترتعش وانت تضع الكتاب من بين يديك.. لقد عدت للتو من رحلة جديدة تقطعها كل يوم برفقة تلك الصفحات، انها صفحات كتاب، اي كتاب، وهي متعة القراءة والتساؤل والاكتشاف والابحار في اعماق الزمن والتاريخ والحاضر والمستقبل وفي اعماق نفسك الانسانية.

كتب كازانتزاكي صاحب رواية (زوربا): ربما كانت الكتابة لعبا في عصور اخرى ايام التوازن والانسجام لكنها اليوم مهمة جسيمة لم يعد الغرض منها تسلية العقول بالقصص الخرافية او مساعدة هذه العقول على النسيان بل الغرض منها تحقيق حالة من التوحد بين جميع القوى الوضاءة التي لاتزال قادرة على الحياة حتى ايامنا الانتقالية هذه والغرض ايضا تحريض الانسان على بذل قصارى جهوده لتجاوز الوحش الكامن في اعماقه..

المثقفون وصلوا متأخرين

الحدث المصري يفرد عباءته على المساحة العربية سياسة واقتصادا وثقافة واجتماعا.. وقبله الحدث التونسي، كان مخاض ولادة للحدث المصري.

في هذا الحدث المستمر وصل المثقفون متاخرين.. سبقهم الحمالون الذين يذرعون الارصفة، وصباغي الاحذية، والعاملون بالاجرة اليومية.. كانوا يجلسون في مقاهي الشعر والادب.. يرتشفون اقداح الشاي بالنعناع واكواب القهوة.. ينظّرون للحداثة، ذلك الوهم الجميل، ويناقشون بعضهم في التنوير.. يؤسسون قواعد الحوار او قواعد الاشتباك فيما بينهم وبين النقاد.. صدرت طبعة جديدة من ديواني.. هل قرأتها؟ يجيبه: لم تصلني نسخة منك.. يكتب اهداءه بخط جميل على الصفحة الاولى.. الى صديقي الناقد الكبير اهدي مجموعتي الشعرية.. يتصفحها الكبير ويتمتم باعجاب : مجموعة رائعة.

العامل المتعب يقف على الرصيف يحرق لفافة تبغه من نوع رديء..لايفهم من حديثهما شيئا.. انها رطانة بالنسبة اليه.. انهم مثقفون.

حيونة الانسان

يرى ممدوح عدوان في كتابه (حيونة الانسان) ان عالم القمع المنظم منه والعشوائي الذي يعيشه انسان هذا العصر هو عالم لا يصلح للانسان ولا لنمو انسانيته.. بل هو عالم يعمل على (حيونة الانسان) اي تحويله الى حيوان.

ويضيف : ان تصورنا للانسان الذي يجب ان نكونه امر ليس مستحيل التحقق حتى وهو صادر عن تصور فني او ادبي، ولكن هذا التصور يجعلنا حين نرى واقعنا الذي نعيشه، نتلمس حجم خسائرنا في مسيرتنا الانسانية، وهي خسائر متراكمة ومستمرة طالما ان عالم القمع والاذلال والاستغلال قائم ومستمر وستنتهي بنا الى ان نصبح مخلوقات من نوع اخر اسمه (الانسان) او كان يطمح الى ان يكون انسانا.

ومن دون ان يعني هذا بالضرورة تغيرا في شكله.. ان التغير الاكثر خطورة هو الذي جرى في بنيته الداخلية والنفسية.

في كتابه (تأصيلا لكيان) يكتب محمود المسعدي:

يتردد الانسان متأرجحا بين منازل مختلفة.. فمن الناس من لا يختلف كثيرا عن الحيوان، ومنهم من يبقى طوال حياته يتخبط في البهيمية احساسا وشعورا وتصورا وحياة ومسؤولية.. ومنهم من يرتفع عن ذلك درجة او درجات.. ومنهم من قد يصل في الارتفاع الى ان يشرف على افق عالم الملائكة او عالم الالهة.

يعود ممدوح عدوان الى طرح هذا التساؤل في كتابه:

كم فقدنا من كرامتنا وتضامننا الانساني واحساسنا بانسانيتنا حتى صرنا نتعود الاذلال المحيط بنا ولغيرنا ؟ وحتى صرنا نقبل هذا العنف والتعامل غير الانساني الذي نعامل نحن به او يعامل به غيرنا على مرأى منا في الحياة، او حين نقرا عنه، او نراه على شاشات التلفزيون (وسنتجاهل اننا نحن نعامل غيرنا احيانا بهذه الطريقة : اولادنا او مرؤوسينا او الذين يقعون بين ايدينا من اعدائنا مثلا او السجناء الذين بين ايدينا)..

وينعكس تعودنا على هذا الاذلال في اننا صرنا نعدّ ان تعذيب السجين امر مفروغ منه..لم نعد نتساءل عن اثر ذلك التعذيب في السجين الضحية حتى بعد خروجه من السجن.. كما اننا لم نعد نتساءل عن اثر التعذيب في منفذه.. وهل يستطيع بسهولة ان يعود الى حياته اليومية العادية بعد خروجه من غرفة التعذيب كما لو انه خرج من المرحاض ليستانف حياته..

وعلى هذا المنوال يشرّح الكاتب شخصية الانسان وهو يحث خطاه الى ان يكون حيوانا تسوقه تلك البهيمية وذلك التعود على امتهان الكرامة والاذلال.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 8/شباط/2011 - 4/ربيع الأول/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م