قيل سابقاً عن شعب مصر إنّه كنهر النيل يبقى هادئاً خامداً لكن
حينما يثور فإنّه يحدث الطوفان. ما يحدث في مصر الآن هو تأكيدٌ لذلك،
وهو إثبات أنّ إرادة شعب مصر لم تنم وإنّما كانت معصوبة العينين
واليدين، وهاهي الآن تكسر قيودها وتحرّر نفسها من سلاسل الخوف بعدما
وصلها شعاعُ نورٍ من شمس الإرادة الشعبية التي بزغت مؤخّراً في تونس.
ومهما كان هناك من ملاحظات وتساؤلات مشروعة على ما حدث في تونس وعلى
ما يحدث في مصر، فإنّ هذه التطورات المهمّة الجارية الآن على أرض العرب،
تحمل إيجابيات كثيرة أهمّها تحطيم جدار الخوف النفسي الذي كان يفصل بين
المواطن وحقوقه في الوطن، ومن ثمّ إعادة الإعتبار لدور الناس في عمليات
التغيير المطلوبة بالمجتمعات بعدما كانت في السابق حكراً إمّا على
المؤسسات العسكرية أو المراهنة على التدخّل الخارجي.
أيضاً، أهمّية ما يحدث الآن هو إحياء الأمل لدى عامّة العرب بإمكان
التغيير وعدم الاستسلام لليأس القاتل لأحلام الشعوب بمستقبل أفضل.
وهناك إيجابية أخرى مهمّة لما نشهده الآن من حيث تراجع الطروحات
الانقسامية في المجتمعات العربية، والتي سادت في الفترة الأخيرة بأشكال
طائفية ومذهبية، فإذا بالتطوّرات الجارية تصحّح طبيعة هذه الانقسامات
لتجعلها بين حاكم ظالم وحكومات فاسدة من جهة، وبين مواطنين ومحكومين
مظلومين ينتمون لكل الطوائف والمذاهب والعقائد، من جهة أخرى.
لكن هذه المتغيّرات السياسية، التي تحدث الآن في مصر وفي المنطقة
العربية، لا يمكن النظر اليها دون الالتفات أيضاً إلى استمرار "ثوابت"
الصراع العربي/الإسرائيلي في محيط هذه المتغيّرات، وإلى استمرار
التنافس والصراع الدولي والإقليمي على الهيمنة المنشودة على الأرض
العربية وعلى ثرواتها ومواقعها الإستراتجية شرقاً وغرباً، كما لا يمكن
ترقّب نتائج هذه التطورات من دون الحذر ممّا جرى حدوثه مؤخّراً من
قرارٍ بسلخ جنوب السودان عن شماله، ومن إثارةٍ مفتعلة لأحداث عنفية
طائفية في مصر وفي بلدان عربية أخرى.
لذلك هو أمر مهمٌّ جداً أن لا يتمّ فصل المسألة الديمقراطية
والعدالة الاجتماعية عن قضايا الوحدة الوطنية والتحرّر من هيمنة الخارج
والتأكيد على الهويّة العربية للأوطان وللمواطنين في عموم البلاد
العربية.
فالإدارات الأميركية المختلفة كانت مع الديمقراطية في العراق ولبنان
والأراضي الفلسطينية المحتلة بمقدار ما تكون هذه "الديمقراطيات" منفصلة
عن قضية التحرّر الوطني وعن مسألة الهوية العربية. وستكون الإدارة
الأميركية الآن مع الديمقراطية في تونس ومصر وغيرهما بمقدار بُعد هذه
"الديمقراطية" عن المسّ بالسياسات الخارجية التي كانت عليها الحكومات
السابقة في هذه البلدان، وبما لا يؤثّر سلباً على العلاقات التي كانت
قائمة بين هذه البلدان وبين إسرائيل!.
إنّ القضايا التي تُحرّك الشارع المصري الآن، كما كانت في تونس وكما
هي الآن في الأردن، تتمحور حول "الإصلاحات السياسية والاقتصادية"
وقضايا الغلاء والفقر وفساد الحكم وانعدام فرص العمل أمام الجيل
الجديد، وهي كلّها مسائل مرتبطة بالسياسة "الداخلية"، وهذا ما تدركه
واشنطن ولا تمانع من تغييره. فما يهمّ الحاكم في واشنطن ليس من يحكم في
بلدان المنطقة، بل بقاء هذه البلدان تسبح في الفلك الأميركي وبالوفاء
بالالتزامات التي كانت عليها الحكومات السابقة تجاه أميركا وتجاه
إسرائيل أيضاً.
من المهمّ أن لا ننسى كيف وصل الرئيس حسني مبارك للحكم. فهو قال ليل
الجمعة الماضي في كلمته "أنّ الأقدار شاءت ذلك"، وهو طبعاً يقصد اغتيال
الرئيس السابق أنور السادات يوم 6 أكتوبر من العام 1981، وكان حسني
مبارك حينها نائباً للرئيس. وذلك ربّما يُفسّر سبب امتناع الرئيس مبارك
طيلة ثلاثين عاماً عن اختيار نائبٍ له!! لكن اغتيال السادات لم يؤثّر
على السياسة الخارجية المصرية ولا على المعاهدة مع إسرائيل ولا على
العلاقات الخاصّة مع واشنطن!!.
إنّ موقف الولايات المتحدة تجاه بلدان المنطقة العربية الآن سيكون
كما كان تجاه دول أوروبا الشرقية في مطلع التسعينات: تشجيع على التغيير
الداخلي وبناء حكومات ديمقراطية شرط إقامة علاقات خاصة مع واشنطن
والحلف الأطلسي. المشكلة بالنسبة لواشنطن في المنطقة العربية أنّ معظم
الحكومات فيها تسير في الفلك الأميركي لكن بلا ضمانات داخلية باستمرار
هذه الحكومات نتيجة مشكلتيْ الاستبداد والفساد، وهاهي واشنطن الآن، في
موقفها من انتفاضة مصر، تستفيد من تجربتها مع انتفاضة تونس عندما
تجاهلت لأسابيع ما كان يحدث ثم حاولت استدراك ذلك من خلال قول السفير
فيلتمان مساعد وزيرة الخارجية الأميركية بأنّ ما حدث في تونس نموذج مهم
لكل المنطقة!!.
الشباب العربي في مصر استفاد أيضاً من تجربة الشباب العربي في تونس
واتّبع أساليب التحرّك نفسها وأدوات التواصل ذاتها وعدم انتظار الأحزاب
والحركات السياسية من أجل المبادرة والتحرك والانتفاضة ضدّ النظام
الحاكم.. كلُّ ذلك هو بالأمر الجيد والمهم، لكن الثورات وحركات التغيير
ليست هدمَ ما هو موجود فقط بل هي بناءٌ لما هو مطلوب، وهذا يعني عملياً
ضرورة الربط والتلازم بين الفكر والقيادة والأسلوب.
حتى الآن لم تتّضح ماهية "الأفكار" ولا طبيعة "القيادات" التي تقف
خلف "الأساليب" الجيّدة التي يقوم بها الشباب العربي المنتفض في تونس
ومصر وغيرهما. إذ لا يجوز أن يرضى هولاء الشباب الذين يضحّون الآن
بأنفسهم أن تكون "أساليبهم" السليمة هي لخدمة أفكار ومشاريع وقيادات
غير سليمة تسرق تضحياتهم وإنجازاتهم الكبرى وتُعيد تكرار ما حدث في
السابق في المنطقة العربية من تغييرات كانت تحدث من خلال الانقلابات
العسكرية أو الميليشيات المسلحة ثم تتحوّل إلى أسوأ ممّا كان قبلها من
واقع.
إنّ الديمقراطية السليمة والعدل السياسي والاجتماعي مطلوبان فعلاً
في دول المنطقة، بل في أنحاء العالم كلّه، والحاجة ماسّة لهما كذلك في
مجال العلاقات بين الدول، وفي ضرورة احترام خيارات الشعوب لصيغ الحياة
الدستورية فيها، وفي عدم تدخّل أيّة دولة (كبرى أو صغرى) في شؤون الدول
الأخرى.
إنّ الديمقراطية هي وجهٌ من وجهي الحرّية، وهي صيغة حكم مطلوبة في
التعامل بين أبناء البلد الواحد، لكنّها ليست بديلة عن وجه الحرّية
الآخر، أي حرّية الوطن وأرضه من كل هيمنة خارجية.
للأسف، فإنّ الواقع العربي ومعظم الطروحات الفكرية فيه، والممارسات
العملية على أرضه، لا تقيم التوازن السليم المطلوب بين شعارات:
الديمقراطية والعدالة والتحرّر ومسألة الهوية العربية.
فمعيار التغيير الإيجابي المطلوب في عموم المنطقة العربية هو مدى
تحقيق هذه الشعارات معاً.
إنّ البلاد العربية هي أحوج ما تكون الآن إلى حركة جيل عربي جديد
تتّصف بالديمقراطية والتحرّر الوطني والعروبة. حركة تستند إلى توازن
سليم في الفكر والممارسة بين شعارات الديمقراطية والتحرّر الوطني
والهوية العربية، حركة شبابية تجمع ولا تفرّق داخل الوطن الواحد، وبين
جميع أبناء الأمَّة العربية..
إنّ قلب العرب جميعاً الآن على مصر وهم معها ومع حركتها للتغيير،
وكلّهم أملٌ بأن تعود مصر لدورها الريادي العربي وأن تتحرّر مصر من
قيود "كامب ديفيد" التي كبّلتها لأكثر من ثلاثة عقود فأضعفتها داخلياً
وخارجياً.
مصر لها الدور الريادي في التاريخ القديم والحديث للمنطقة، ومصر لا
يمكن أن تعيش منعزلة عن محيطها العربي وعمّا يحدث في جناحيْ الأمّة
بالمشرق والمغرب، فمصر هي في موقع القلب، وأمن مصر وتقدّمها يرتبطان
بالتطوّرات التي تحدث حولها. فالاختلال بتوازن مصر وبدورها يعني
اختلالاً في توازن الأمّة العربية كلّها، وهذا ما حصل فعلاً بعد وفاة
جمال عبد الناصر وبعد معاهدة كامب ديفيد.
جسد الأمة العربية يحتاج الآن بشدّة لإعادة الحيوية النابضة في قلبه
المصري، في ظلّ أوضاع عربية كانت تسير من سيء إلى أسوأ، ومن هيمنة غير
مباشرة لأطراف دولية وإقليمية إلى تدخّل مباشر في بلدان الأمّة، بل في
احتلال بعضها كما حدث أميركياً في العراق، وإسرائيلياً في لبنان
وفلسطين، وغير ذلك على الأبواب الأفريقية والآسيوية للأمّة العربية
التي بدأت كياناتها الكبرى بالتصدّع كما هو حال العراق والسودان.
الأمّة العربية قبل هذه الإنتفاضات الشبابية كانت تعيش كابوس خطر
تقسيم كلّ قطر على أسس عرقية وإثنية وطائفية ومذهبية. وكانت الأمّة
تخشى على نفسها من نفسها أكثر ممّا يجب أن تخشاه من المحتلّين لبعض
أرضها والساعين إلى السيطرة الكاملة على ثرواتها ومقدّراتها.
فضعف جسم الأمّة العربية كان من ضعف قلبها في مصر، ومن استمرار عقل
هذه الأمّة محبوساً في قوالب فكرية جامدة يفرز بعضها خطب الفتنة
والانقسام بدلاً من التآلف والتوحّد.
حبّذا لو تكون حركة الشباب العربي الآن من أجل كسر هذه القوالب
المتحجّرة، وأن يتمّ وضع أهداف فكرية مشتركة لما تحتاجه الأمّة الآن من
عناصر لنهضة عربية جديدة، وأن يتمّ استخلاص الدروس والعبر من تجارب
الماضي، بإيجابياتها وسلبياتها معاً، وأن تكون حركة الشباب العربي
اليوم بداية لعودة الوعي والروح إلى الأمة كلّها.
*مدير مركز الحوار العربي في واشنطن
Sobhi@alhewar.com |