الزلزال التونسي المصري وبداية افول الدكتاتورية

د. نجاح العطية

يتفق معظم الخبراء السياسيون في شؤون عالمنا العربي على ان الانتفاضة الشعبية التونسية والمصرية هي نتاج طبيعي لافرازات المقدمات الموضوعية المتراكمة التي تكونت وفق الاملاءات السياسية المطلقة للحاكم العربي الفرد ونظام حكمه في بلادنا العربية التي تخيم على عروش الحكم فيها انظمة غير شرعية اتت عن طريق قيام نخبة (العسكريتاريا) بالانقلابات العسكرية او الصفقات الدولية المشبوهة لايصال الحاكم العربي رئيسا او ملكا او اميرا الى سدة الحكم في ظل غياب التطبيق العملي لمفهوم الدولة الحديثة وغياب البعد الارتكازي لمبدأ شرعية الدستور وغياب الحريات العامة نتيجة غياب مبدا فصل السلطات وعدم وجود الدورات الانتخابية الرئاسية التنافسية حيث ان الحاكم العربي شرعن لنفسه قانون الالتصاق بكرسي الحكم مدى الحياة بل تعدى ذلك في النظم الجمهورية في عالمنا العربي ان شرعنوا بدعة توريث الكرسي الى الابناء ومنها على سبيل المثال النظام المصري والليبي واليمني والسوري وهذه تعتبر من اغرب واكثر المفارقات المضحكة المبكية في عالمنا السياسي المعاصر ناهيك عن الانظمة الملكية او الاميرية المتوارثة والتي يكون فيها الحاكم هو السيد المسود على السلطات الثلاثة وهو القوة المطلقة بلا حدود فوق الدستور الذي يفصل وفق اهواء ورغبات هذا الحاكم الجاثم على صدور الجماهير المستضعفة.

وفي ظل غياب الخطط الاقتصادية المرنة وعدم وجود الستراتيجيات الواضحة لمبدا توزيع الثروة العامة وغياب تحقيق العدالة الاجتماعية واقتصار امتلاك الثروات على نسبة 5% من نسبة الاثرياء الى جانب النسبة الباقية من عامة الشعب وهي 95% من الفقراء الذين تضيق بهم الارض بما رحبت في معظم البلدان العربية بالاضافة الى موضوعة تشكل غاية في الاهمية تتعلق بقضية غياب التكافل الاقتصادي الكتلوي بين دول العالم العربي حيث ان هذا العامل مغيب تطبيقيا على ارض الواقع العملي منذ نشوء الدول العربية بعد اتفاقيات سايكس بيكو بداية القرن المنصرم وحتى اللحظة بعد مرور اكثر من قرن على تقطيع اوصال تركة الدولة العثمانية وترسيم الحدود بين هذه الدول المستحدثة الامر الذي يجعل من الدول العربية عبارة عن كيانات متباعدة متفرقة كانها جزر عائمة متباعدة لايجمعها برنامج او خطة او رابط او قاسم سياسي اقتصادي على ارض الواقع الجيوسياسي في عالمنا المعاصر.

 وبذلك تكون الشعوب الفقيرة في هذه الدول هي الخاسر الاكبر نتيجة غياب التكافل الاقتصادي ناهيك عن سوء او غياب التخطيط التنموي الاقتصادي طوال فترة الستين عاما الماضيه بسبب غياب البعد العلمي في التخطيط وغياب الارادة السياسية لانظمة الحكم العربية التي يسود الاعم الاغلب منها انظمة شمولية دكتاتورية لا يهمها سوى تسخير خزائن المال العام لزيادة ارصدتها عن طريق السطو وسرقة المال العام وايداعه في البنوك الغربية الامر الذي ادى الى شل عملية النهوض بالواقع الاقتصادي لهذه البلدان.

 بالاضافة الى ذلك فان غياب المفهوم النظري والعملي التطبيقي لمفهوم التداول السلمي للسلطة والمرتبط عضويا بغياب الدستور والمؤسسات الدستورية وغياب الحريات العامة ومن بينها حرية التعبير عن الراي وسياسة تكميم الافواه وتوظيف اسلوب عبادة الفرد الحاكم وتطبيق سياسة القبول بالامر الواقع وتكريس سياسة القمع والتغييب القسري دون مدة محدودة وقد تمتد سنوات طويلة في المعتقلات والسجون التابعة للانظمة في ظل تغييب دور القانون والسلطة القضائية واحلال قانون حالة الطواريء المعمول به منذ ثلاثين عاما في مصر على سبيل المثال الواقعي الحي وغيرها الكثير من العوامل التي تعكس الواقع البشع الذي تعيشه الشعوب المقهورة في بلدان عالمنا العربي ذات الموارد والخيرات المتنوعة والكثيرة والتي لايرى المواطن من اثرها اي ريع كي يحسن من مستواه المعيشي ويجعله في دوامة الفقر والبحث المتواصل عن لقمة العيش وهو في اشد حالات الياس والاحباط.

وهنالك عامل مهم يقف على راس تلك العوامل مجتمعة وهي العقلية الصنمية المتخلفة للحاكم الدكتاتور في الاعم الاغلب من بلداننا العربية تلك العقلية الكهفية المنغلقة والمليئة بالعقد النفسية السايكوباثية المريضة جدا وعلى راسها عقدة الفرعنة والتعالي على الشرائح الواسعة من الجماهير المسحوقة اقتصاديا واجتماعيا بالاضافة الى النخب المثقفة الواعية فهو دائما يعيش في برج عاجي بعيدا عن هموم وتطلعات وطموحات الشعب وشرائحه المختلفة بل ان المعطيات الموضوعية المنطقية تؤكد ان اخر شيء يستجلب اهتمام هذا الحاكم وتفكيره هو هموم الشعب ومعاناته وكل ما يعنيه هو البقاء ملتصقا على كرسي الحكم حتى الموت فلم نسمع او نقرا عن حاكم عربي واحد تنازل عن كرسي السلطة بملء ارادته الا بانقلاب عسكري يطيح به وباركان حكمه سوى استثناءات قليلة منها تنازل الرئيس عبد الرحمن سوار الذهب الذي اطاح بالرئيس السوداني السابق الدكتاتور جعفر نميري عام 1985م عن طريق انقلاب عسكري ثم سلم السلطة سلميا بعدها الى رئيس اخر ناهيك عن التجربة السياسية الحديثة في العراق بعد سقوط النظام البائد عن طريق الاحتلال الامريكي والتي يتم فيها تسليم الحكم عن طريق الانتخابات البرلمانية وفق الدستور العراقي.

ان الانتفاضة الشعبية في تونس والتي هي في طريقها لان تأتي اكلها ونتائجها المبشرة بالخير لشعب تونس الابي الذي نهض محطما كرسي الدكتاتور الهارب سيء العابدين و الذي مازال رافضا بقاء ازلام حكمه على سدة الحكم الجديد والانتفاضة المصرية الجبارة المستمرة والمتوقدة حتى هذه الساعات والتي تصرخ الحناجر المصرية فيها مطالبة بسقوط الصنم الدكتاتور حسني مبارك و ضرورة رحيله عن ارض مصر بسبب سياسته القمعية الرعناء وخططه الاقتصادية الفاشلة والتي وسعت الهوة الخيالية بين الاغنياء المترفين من سارقي ثروة الشعب والفقراء المعوزين الذين ضاقت عليهم الارض بما رحبت وكذلك ما يجري من تظاهرات في اليمن والاردن والتي سارعت انظمة الحكم فيها الى محاولات ترقيعية وتخديرية لاسكات صوت الرفض لبقائها لدى شعوبها من خلال دعم بعض انواع السلع الحياتية وزيادة رواتب الموظفين في ظل ازمة التضخم التي تعاني منها اقتصاديات تلك البلدان وهذه الزيادات الوهمية التضخمية لاتعني شيئا في ظل تواتر الازمات الخانقة وغياب وجود الحلول المنطقية لتلك الازمات.

كل هذه المجريات تشكل انعكاسا وصدى واقعيا رصينا للانتفاضات التي قام بها الشعب العراقي المظلوم على مدى اكثر من خمس وثلاثين عاما من تسلط زمرة البعث الصدامي على مقاليد الحكم في العراق على الرغم من التعتيم الاعلامي الواسع وتغييب الحقائق الناصعة وتشويهها بشكل متعمد عن تلك الانتفاضات الشعبية العراقية كل تلك العقود خوفا من سريان نار الانتفاضات العراقية وقتها في هشيم بلدان العالم العربي ولا ينسى خبراء التاريخ السياسي كيف هب الحاكم المصري حسني مبارك مرتجفا ومعه الملك السعودي كي يعملوا بشكل سريع لمنع الولايات المتحدة من توفير الارضية المناسبة لنجاح الانتفاضة الشعبانية العراقية وذلك بعد اخراج قوات النظام العراقي من الكويت وهزيمة ذلك النظام في تلك الحرب المدمرة.

وهي ايضا تمثل انعكاسا سريعا لانتفاضة الشعب التونسي وما احدثته هذه الانتفاضة من صدمة لحكام التسلط الدكتاتوري ومن كسر حاجز الخوف لدى بقية شعوب عالمنا العربي المليء باغرب واعجب واقذر انواع الانظمة الكرتونية ذات الوجه المقنع البشع ذو الصبغة التوتاليتارية البوليسية المخابراتية والتي اكل عليها الدهر وشرب في عصر عالم القرية الصغيرة وثورة سرعة المعلومات عبر الانترنيت ومواقع الفيسبوك والتويتر والوسائل الحديثة الاخرى وبهذا تتحقق مصداقية المسرى الواقعي لنظرية الدومينو الامريكية في انتقال مجرى الاحداث والانتفاضات من بلد الى بلد اخر يعاني شعبه نفس المعاناة والتسلط الفردي للحاكم الظالم المستبد في مناطق النفوذ الامريكية ذات الاهمية الخاصة وهكذا دواليك ضمن ظاهرة الفعل ورد الفعل في تلك النظرية.

نعم ان الاحداث هذا اليوم في تونس ومصر واليمن تنطبق عليها كليا هذه النظرية والاحداث هذه تثبت ان الشعوب اقوى من الطغاة اذا صحت هذه الشعوب المستضعفة من نومها وغفوتها وامتلكت سلاح الارادة الواعية المنظمة وتثبت ايضا ان عصر تحرر الشعوب من تسلط الطغاة قد ابتدأ في دول عالمنا العربي بعدما غيب بشكل مؤقت دور الشعوب في صناعة الاحداث السياسية في منطقتنا وان عجلة التغيير تسير وفق سنة التاريخ والفطرة البشرية ولن يستطيع احد من حكام الكهوف الحاليين ان يوقفها (وان غدا لناظره لقريب) صدق الله العلي العظيم.

* كاتب وباحث في الشؤون الدولية

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 1/شباط/2011 - 27/صفر/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م