أولويات المعارضة السياسية في الدول العربية

د. خالد عليوي العرداوي/مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

تمثل أغلب الأنظمة السياسية القائمة في البلدان العربية في الوقت الحاضر ذلك النمط من الأنظمة التي شكلت امتدادا لجيل الاستقلال من الاستعمار الغربي القديم او الجيل اللاحق له، وهي بهذا الوصف استندت في كسب الشرعية لممارساتها السياسية إلى حزمة من الشعارات البراقة وأحيانا المضللة ذات البعد الداخلي او الخارجي.

 فداخليا كثيرا ما حاول حكامها تصوير أنفسهم على إنهم حماة الاستقلال والوحدة والتحرر لبلدانهم من المستعمرين المحتلين وعملائهم الذين نهبوا ثرواتها وجعلوا شعوبها تحت وطئ الثالوث المقيت المتمثل بالفقر والمرض والجهل، وإنهم قادة التنمية الاقتصادية والبديل الحقيقي - حسب قولهم- لبناء دولة قوية مستقلة ينعم أبناؤها بالرفاه والكرامة الإنسانية.

 وخارجيا شغل الحكام شعوبهم بشعارات رنانة تتمحور حول قضايا مهمة يأتي في مقدمتها القضية الفلسطينية والصراع العربي- الإسرائيلي، والوحدة العربية، ومقاومة الامبريالية العالمية وعدم الانحياز الدولي..

 أثبتت الأيام أنهم أكثر من أساء إليها وضيع حقوق العرب والمسلمين فيها، لكن استغلال هذه الشعارات كان مناسبا جدا للعمل على ديمومة هذه الأنظمة واتهام معارضيها بخيانة الوطن والمواطن والتنازل او الاستسلام والتخاذل لمصلحة الأعداء، بل حتى المعارضة كانت عندما تضع برامجها السياسية تجد نفسها أسيرة لهذه الشعارات فتتبادل التهم مع الحكومات استنادا لمدى فهمها وتصورها لها.

إن هذا الوضع السياسي للبلدان العربية تغير في الوقت الحاضر جملة وتفصيلا، مع تغير المتغيرات الدولية من مثل انتهاء الحرب الباردة وانكشاف عورات وخفايا دكتاتورية السلطة في الدول العربية، والتطور التكنولوجي وما قاد إليه من انفتاح ثقافي على العالم، وتنامي الوعي السياسي المجتمعي الرافض لسلب الحقوق والحريات، وفشل برامج التنمية، وتعاظم مشكلة الفساد السياسي وما يترافق معه من فساد مالي واداري، وتقادم العهد بحجة الاستعمار الأجنبي وتحميله مسؤولية الواقع المزري الذي يعيشه المواطن العربي، وتحييد الصراع العربي – الإسرائيلي مع تراكض الحكام العرب لتطبيع علاقاتهم مع إسرائيل، وفشل مشروع الوحدة العربية وتهافت مقولات القوى السياسية التي رفعت شعارها..

 إن كل هذه المتغيرات الوطنية والدولية حملت معها انقلابا عميقا في أولويات المواطن العربي وحاجاته في كل الدول العربية، إذ لم يعد هذا المواطن مهتما كثيرا بالقضايا الخارجية وما استند إليها من خطابات سلطوية تهيجية وعاطفية، كما لم يعد يصدق أن تخلفه الحضاري وتردي واقعه المعاشي الحاضر سببه الاستعمار الأجنبي الذي ولى عهده، أما تضييق الخناق عليه ومصادرة حقوقه وحريات بحجة الأمن الوطني او القومي فقد وصل إلى الحد الذي لا يمكن السكوت عليه والسماح به طالما أن ذلك يصب في مصلحة طغاة السلطة والملتفين حولها، في الوقت الذي دفعته آفة الفساد إلى حافة الفقر المدقع المهين مع اتساع كارثي للفجوة بين القلة الأغنياء والأكثرية الفقراء..

هذا الانقلاب في أولويات المواطن العربي واهتماماته يقتضي تغيير طبيعة المعادلة التي تحكم علاقة المعارضة السياسية بالأنظمة الحاكمة من حيث البرامج والخطابات السياسية، ومن حيث التحرك المجتمعي لصناعة التغيير السياسي، إذ لم يعد عدو الشعب رقم واحد هو أمريكا أو بريطانيا أو فرنسا أو حتى إسرائيل.. او العملاء والخونة وما شابه – إذا جاز لنا نفي تهمة العمالة عن بعض الأنظمة- بل إن الشعوب العربية تشعر أن عدوها رقم واحد هو أنظمتها الحاكمة بدكتاتوريتها، وانغلاقها، وجمودها، وفسادها، ولا شرعيتها، وخروجها عن أدنى معايير العدالة الاجتماعية والعدل السياسي.. ومثل هذا الشعور الشعبي المتنامي أخذ يعبر عن نفسه من خلال ما نراه من غليان ينتهز كل فرصة ليرفع صوت نقمته وسخطه بوجه السلطة - ما يحصل بعد أحداث تونس ومصر نموذجا - مما يقتضي من المعارضة السياسية أن تكون متناغمة مع الحراك الاجتماعي وقائدة حقيقية للتغيير، فتكون صلبة في مقارعتها للحكومات لا تؤثر فيها إغراءات السلطة وملمسها الناعم، كما لا يؤثر فيها إرهابها ووعيدها، ولا ترضى بديلا عن التغيير السياسي الكامل الذي يقود إلى حياة سياسية ديمقراطية قائمة على تداول حقيقي للسلطة وفك الحصار الكامل عن حقوق وحريات الشعب، ومحاسبة صارمة للفاسدين والمفسدين من إي معسكر كانوا، وحرص فعال على تقليل الفوارق بين الفقراء والأغنياء من خلال خطط اقتصادية مناسبة، وبناء نظام قانوني ضامن لتحقيق العدل ومنع الظلم بحيث يقنع الناس بصلاحه وجدواه، وتوفير فرص حقيقية لوضع الرجل المناسب في المكان المناسب..

وإذا شئنا جمع أولويات المعارضة السياسية في الدول العربية في الوقت الحاضر، فأننا نستطيع القول إنها يجب أن تتمحور حول الشعارات الثلاث آلاتية:

الحرية (بمعنى التحرر من طغيان السلطة وإطلاق حقوق وحريات الشعب دستوريا)،

والعدل (بمعنى أن يتساوى في نظر القانون القوي والضعيف والغني والفقير ويكون قانونا كافلا لحقوق الجميع)،

والعدالة الاجتماعية (بمعنى توزيع الدخل والثروة الوطنية بشكل عادل يقلل الفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون والضرب بيد صارمة على الفاسدين والمفسدين).

إن هذه الشعارات الثلاث هي شعارات المرحلة الحاضرة وستكون شعارات المستقبل القريب وربما البعيد، وستضغط بشدة على المعارضة والسلطة معا، وإذا تحملت الأخيرة وزر رفضها وتحريفها وتشويهها، فأن عبء تبنيها سيقع على عاتق المعارضة بشكل كامل فيجب أن لا تحيد عنها مهما كان الثمن ولا تنشغل بقضايا ثانوية تعطلها كالسيادة والاستقلال والوحدة ومنع تدخل الأجنبي وما شابه، إذ مع اعتقادنا بأهمية هذه القضايا إلا أننا نجد انه مع بقاء الأنظمة الحالية كما هي عليه لن تكون هناك أية سيادة او وحدة او استقلال، كما أنها - أي الأنظمة – صاحبة الفضل في تدخل الأجنبي في شؤوننا وتلاعبه بمقدراتنا، أما إذا تحقق التغيير وفقا للشعارات الثلاث المذكورة آنفا ونجحت المعارضة في مهمتها المنوطة بها فسنكتشف أن كل قضايانا الأخرى تأخذ سبيلها إلى الحل وستجد شعوبنا الأمن والاستقرار والسلام والقوة تحت ظل أنظمة مكتسبة للمشروعية الصحيحة وللشرعية التي يتمناها كل نظام سياسي صالح.

* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

www.fcdrs.com

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 30/كانون الثاني/2011 - 25/صفر/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م