أصبوحة بغدادية... وقائع واستذكار

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: الجادة، او جادة خليل باشا، من اقدم شوارع بغداد افتتحه الوالي العثماني خليل باشا في العام 1916، سماه الانكليز بعد احتلالهم بغداد (الشارع الجديد)، واشهر اسماءه التي عرف بها هو شارع الرشيد الذي شهد الكثير من التحولات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي اثرت بشكل او اخر على المجتمع العراقي.

حاليا لم يتبق من شارع الرشيد غير اسمه واختفى تأثيره الثقافي والسياسي باختفاء معالمه او اندثارها وما تبقى من معالمه فيها رائحة تاريخه الممتدة عبر قرن من الزمان. فهو ايضا قد لحقه ما لحق بالبلد من خراب ودمار وخصوصا ما يتعلق بآثاره العمرانية.

لا وجود اليوم لمقهى البرازيلية الذي كان معروفا ومشهورا حتى الثمانينات من القرن المنصرم وقد اشتهر بتقديم القهوة لزبائنه ومنه عرف بهذا الاسم..

يوجد الان دكان صغير يبعد عن مكان البرازيلية بمسافة، يعرف ب (بن الضيافة) مع مكان صغير فيه لصنع القهوة سريعة التحضير عبر الة حديثة وتقديمها للزبائن.. لإمكان للجلوس فيه بل تشرب وانت تقف على ناصية الرصيف.

الشارع فيه بعض المؤسسات الحكومية، مثل غرفة تجارة بغداد، والاكثر شهرة فيها هو بناية البنك المركزي العراقي والتي وقعت فيها عملية اقتحام مسلح راح ضحيتها الكثير من القتلى والجرحى في العام الماضي.

ولا نستغرب مثل هذا الخرق الامني حين نرى احدى السيارات العسكرية ذات الدفع الرباعي تقف في منتصف الشارع وخلفها سيارة اخرى نوع همر.. ينزل احد الجنود مدججا بسلاحه وهو يتوجه الى دكان بن الضيافة، طالبا للضابط المسؤول برتبة (عقيد ركن) قدحا من القهوة بدون سكر.. والمدفع الرشاش على الهمر يديره الجندي المكلف به الى الجهات الاربع بانتظار وصول القهوة الى الضابط.

لا تستطيع وانت ترى هذا المشهد الا ان تعود بذاكرتك الى مشهد اخر من العام 1959 حين جرت محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم من قبل البعثيين وكان صدام حسين الذي حكم العراق بعد عقدين من ذلك هو من شارك في محاولة الاغتيال تلك، واصدر الزعيم عفوا عنهم بعد شفائه قائلا (عفا الله عما سلف) ليكون ذلك العفو ايذانا بتدمير ما سلف وما لحق بالعراق.

ولا نستطيع ان نقارن بين سلطتين سلطة الزعيم الذي حكم العراق وهو في سيارة واحدة مع سائقه ومرافقه وسيارة العقيد الركن وحمايته التي لم يحلم يوما مرافق الزعيم بحمل جزء يسير مما يحملوه من سلاح.

الشارع كان مزدهرا ايامه القديمة تلك اما الان فقد اصابه ما اصاب المجتمع العراقي من تغيّرات قيمية في انساقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

كانت بضائع التجار يومها في هذا الشارع محكومة بمتطلبات الجودة العالية والمنشأ المشهور، فهي من مناشىء المانية او انكليزية او فرنسية او ايطالية، وكثيرا ما تردد الناس على هذا الشارع لشراء ما يحتاجون اليه لضمان جودة البضاعة التي يريدونها. اصبحت الان بضائعه لا تتميز بالجودة السابقة او المنشأ المعروف بشهرته سابقا. فهي بضاعة صينية في اغلبها او هندية او سورية لا تخضع لمقاييس الجودة التي غابت عنها. واصبح كل من هب ودب بإمكانه الاستيراد بعد ان محصورا يتجار معينين وكل ضمن اختصاص تجارته. اختلط الحابل بالنابل واصبح مستورد الساعات هو نفسه مستورد العطور، ومستورد الاقمشة نفسه مستورد الاحذية.

وانعكست الفوضى في عمليات الاستيراد حتى على التسميات للمحلات التجارية.. فمحلات اليسر للساعات اليدوية والجدارية تجد كل الاجهزة الكهربائية لديه الا الساعات. ومحل حمزة للموبايل عبارة عن بسيطة يعرض عليها بعض الاجهزة الجديدة والمستعملة.

ووكيل eimns  للأجهزة الكهربائية يعلق لافتة تشير الى اغراء شراء سلعه فهي مضمونة لمدة 26 شهرا. ولا ادري لماذا ليس سنتان او سنتان ونصف. والضمانة في العراق تعني الاعطال غير المترتبة على تذبذب التيار الكهربائي.. ولا اعرف أعطالا في الاجهزة الكهربائية الا وتكون الكهرباء سببا رئيسيا فيه.

في هذا الشارع شاهدت لأول مرة سيارة رفع القمامة التي تعود لشركة تركية تعاقدت معها امانة بغداد. السيارة نظيفة من الخارج مطلية باللون الابيض مع بوستر للدعاية لاحد المنتوجات الغذائية التركية، يئس المسؤولون العراقيون من مقاولي التنظيف العراقيين، فأمانة بغداد تدفع مبالغ العقود بالملايين والشوارع على حالها من تلال القمامة فيها، تجرب الان مع الاتراك وتنسى ان النظافة ممارسة حياتية تبدا من البيت والمدرسة والشارع، اي انها فعل حياتي منظم يقوم به المواطن. التغيير طفيف في الفروق، فالعمال هم انفسهم وطرق رفع القمامة هي نفسها ولا تريد امانة بغداد ان تجازف بوضع براميل جمع القمامة في الشوارع خوفا من سرقتها وتحويلها الى صناديق للأدوات والمواد المنزلية في بيوت السارقين او المشترين لها من السراق.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 29/كانون الثاني/2011 - 24/صفر/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م