وجوه من حياة صاخبة

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: علي عوجة واحد من الاف الباعة المتجولين في عراق الحروب والثروات المهدورة، لا يذكر في حياته عملا ثابتا استمر فيه فهو تجده يوما بائعا في محل للكرزات والحلويات، وفي يوم اخر بائعا لأصباغ العصير ومساحيقه، وهو تارة يبيع الصور والرايات والاعلام الحسينية في موسمها الذي يشهد رواجا، وتارة اخرى يبيع المظلات المطرية والقفازات ويدعو الى الله ان يكون شتاء العراق ماطرا جميع ايامه ليتاح له استنفاد بضاعته.

علي عوجة واحد من الاف في زماننا الصاخب على وقع التغيرات والاحداث الدراماتيكية المتسارعة، وهو ايضا واحد من الالاف الذين نالتهم قسوة نظام صدام حسين باقصى بشاعاتها.

ينتمي الى اسرة فيلية، جده لأبيه ساهم عن غير قصد منه في رسم حياته ومسارها حين سجل ابنه الاكبر كإيراني وابنه الاخر كعراقي وهو ابو علي عوجة للتهرب من اكلاف الخدمة العسكرية وقتها..عمه استقر به المطاف في احواز الايرانية وابوه استقر في العراق.

خدم في الجيش العراقي ايام الحرب الايرانية، كان رافضا لهذه الحرب مثله مثل الكثيرين، باع سلاحه وتوجه الى داخل ايران عند احد نقاط التماس في غفلة من رفاق السلاح وغفلة من عيون الرصد، استقر به المطاف في الاحواز في بيت عمه. لكنه لا يستقر على حال فهو يعيش قلقا وجوديا لا يتيح له رصيده الثقافي معرفة اسبابه.

في ايران حيث هجرته الاولى حاول عدد من العراقيين الذين سبقوه هناك والمعروفين بالتوابين كسبه الى صفوفهم لكنه رفض ذلك لتكون تلك نقطة اخرى في تحديد مساره الذي سيسلكه بعد انتهاء سنوات الحرب تلك.. حيث استطاع الكثير من اقرانه من الحصول على لجوء الى عدد من الدول ولم يسمحوا له بذلك لكونه غير منتمي الى تلك الجماعة، جماعة التوابين.

بعد انتهاء الحرب عاد الى العراق عن طريق الشمال وانضم الى قوات البيشمركة الكردية ليقاتل القوات الحكومية، لم يستمر طويلا في صفوف تلك القوات فهو يرفض الانتماء بكل اشكاله والوانه، وعاد الى عمله في تهريب العملة ليتم القبض عليه والتهمة ليست التهريب بل باعتباره جاسوسا ايرانيا بسبب انتماءه الاثني والمذهبي، ليذهب الى دهاليز الشعبة الخامسة سيئة الصيت وينال نصيبه الفادح من القسوة والتعذيب قبل ان يصدر بحقه حكما بالاعدام شنقا حتى الموت.. اقتيد الى منصة الاعدام، وضعوا الكيس الاسود على رأسه، لحظات بين الحياة والموت ليجد نفسه في غرقة اخرى امام والدته واحد اخوته، كان ثمن تلك الحياة المنتزعة من انياب الموت خمسون مليونا من الدنانير العراقية رشوة لمصدري الحكم عليه.

في ايران سنواته الاولى مارس جميع الاعمال غير المشروعة من تزوير وتهريب للعملة، قادته خطاه الى باكستان وافغانستان وروسيا والكويت، قبض عليه في الكويت التي سلمته الى السلطات العراقية ليدخل هذه المرة الى ما عرف في التسعينات بسجن الاولمبية التي كان يراسها عدي ابن الطاغية العراقي.

لقبه (عوجة) ملتصق به كالظل لا يفارقه ابدا ولا يعرف بدونه... وعوجة ليست نسبة الى تلك القرية التابعة لتكريت العراقية التي ولد فيها راس النظام السابق صدام حسين وحكم العراق طيلة اربعة عقود، واستباحت عقلية المتحدر من تلك القرية مدنية العراق وثقافته لصالح عشائريتها وعصبويتها القبلية الريفية، واللقب لا يعود للعرج الذي يبدو عليه حين يسير بل يعود ذلك الى عمله في التزوير والتهريب اطلقه عليه التوابون.

وعلي عوجة فلسفته في الحياة بسيطة جدا (حرامي لا تصير من السلطان لا تخاف) بهذه الفلسفة اضافة الى رغبته بخدمة الاخرين ومد يد العون لهم اكتسب ثقة اصحاب المتاجر والدكاكين في السوق الذي يعمل فيه واصبحوا يتركونه في محلاتهم يدير لهم اعمالهم اذا تغيب اي واحد منهم.

وهو لم تنصفه الحياة يوما، قد يكون ذلك لفلسفته الحياتية البسيطة او لعدم استغلاله لبعض الفرص التي سنحت له لان فيها التواء او سرقة للاخرين، وهو شاهد على الكثير من اهدار القيم الاخلاقية والاجتماعية التي توسل بها الاخرون ليصلوا الى مكانتهم التي هم عليها الان.

علي عوجة لازال مثل ملايين اخرى يحلم بالكرامة التي يمكن ان يمنحها وطن لأبنائه كان السبب يوما ما في سلبها منهم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 19/كانون الثاني/2011 - 13/صفر/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م