باعتراف زعيم أكبر حركة إسلامية في تونس، لم يكن الإسلاميون "ولا أي
حزب سياسي آخر" يقف وراء تحريك الاحتجاجات، التي أدت إلى فرار الرئيس
زين العابدين بن علي من البلاد. ففي تصريح له قال زعيم حركة "النهضة"
الشيخ راشد الغنوشي: "كل من اطلع على الوضع التونسي يدرك بأن الشارع لا
يحركه حزب، وليس في قدرة أي حزب لا الإسلاميين أو غيرهم أن يحركوا كل
هذه الملايين".
فالمعارضة التونسية بكافة أطيافها (إسلاميين وعلمانيين ويسار) ضعيفة
ولا تملك أي قدرة على التحرك إلى درجة أنه يصعب القول بأن في تونس
معارضة من الأصل. وهذا الأمر أوضح بالنسبة للإسلاميين في هذا البلد
الذي توالى على حكمه لعقود رئيسان أشد ما يكونا عداء للإسلاميين
ومشروعهم.
والحركة الإسلامية في تونس صاحبة تاريخ طويل من الصراع أمام النظام
العلماني الذي تولى الحكم عقب خروج الاحتلال الفرنسي عام 1956، ومارس
عليها عمليات عنيفة من (السجن والإعدام والنفي) بهدف تصفيتها أو ما
أطلق عليه لاحقا سياسة "تجفيف المنابع".
وقد عانت هذه الحركة التي كانت سلمية، في أغلبها، الأمرين سواء خلال
حكم الحبيب بورقيبة الذي انتهج علمانية متطرفة، وعادى الأحكام
الإسلامية، وتوسع في صلاحياته حتى صار يوصف بالديكتاتور، وأصدرت سلطاته
أحكاما بالإعدام على قيادات حركة "النهضة"، والأشغال الشقة المؤبدة على
زعيمها راشد الغنوشي.
أو في عهد زين العابدين بن علي (وصل إلى السلطة عام 1987) الذي رهن
بقاءه في السلطة بشعار محاربة التهديد الإسلامي، وشن عدة حملات على
الحركة الإسلامية.
فقد شهد العام 1989 انتخابات تشريعية شاركت فيها حركة "النهضة"
الإسلامية تحت لوائح مستقلة، وهي الحركة التاريخية التي تمثل التيار
الإسلامي في تونس. فحصلت على حوالي20% من الأصوات حسب اعتراف السلطة،
بما أهلها لتكون بمثابة خصم سياسي للنظام الحاكم، الذي بدأ في مواجهتها،
خاصة بعد تقدمها بطلب الحصول على ترخيص قانوني جوبه بالرفض من طرف
السلطة.
ومع مطلع العام 1990 بدأت نذر الصدام بين الحركة والسلطة، التي تبين
لها تعاظم قوة التيار الإسلامي واتساع قاعدته الشعبية، فشنت حملة
دعائية تهدف إلى عزل الحركة وتشويهها. وقد بلغت المواجهة أوجها في مايو
1991 إذ قالت الحكومة إنها أفشلت مؤامرة لقلب نظام الحكم واغتيال
الرئيس بن علي. فشنت قوات الأمن حملة شديدة على أعضاء الحركة ومؤيديها،
كان أعنفها في أغسطس 1992 عندما اعتقلت 8000 شخص, وحكمت المحاكم
العسكرية على 256 قياديا وعضوا في الحركة بأحكام وصلت إلى السجن مدى
الحياة، ولم تتوقف الملاحقات والاعتقالات.
وفي غمرة المواجهة الدامية مع النهضة تقلصت الدولة إلى جهاز أمني
لملاحقة الإسلاميين وكافة مظاهر التدين في المجتمع.
نشأت الحركة الإسلامية في تونس أواخر الستينيات من القرن الماضي
مستلهمة تجربة الإخوان المسلمين في مصر، ومتخذة من أفكار حسن البنا
مرجعية لها، وكانت الحركة في بدايتها أشبه برد فعل على مشروع بورقيبة
العلماني الذي سعى إلى زرع العلمانية في بنية المجتمع من خلال عدد من
الإجراءات المخالفة للشريعة الإسلامية كان أبرزها إغلاق مؤسسة جامع
الزيتونية، ومنع تعدد الزوجات، وجعل الطلاق بأيدي المحاكم، ومساواة
المرأة بالرجل في الميراث، ناهيك عن إجراءات أخرى كثيرة كان هدفها نقل
تونس الإسلامية إلى تونس العلمانية على غرار نموذج مصطفى كمال أتاتورك
في تركيا.
وبينما لم يكن أحد يولي تنظيمات الحركة الإسلامية اهتماما يذكر؛ في
هذا الوقت، على اعتبار أنها ستنتهي ببطء، إلا أنها وعلى العكس من ذلك
نمت بسرعة لتصبح ظاهرة أساسية في الجامعات والمساجد والشوارع.
لم يهتم الإسلاميون خلال هذه المرحلة بالانخراط في العمل السياسي؛
إذ لم تختلف الحركة الإسلامية التونسية عند نشأتها عن بقية حركات
الإصلاح الإسلامي، بل أكدت النواحي التعبدية، واقتصر خطابها على
الموضوعات التي أولتها اهتمامًا خاصًّا، مثل: ضرورة التمسك بالإسلام.
ولم يرَ النظام في الحركة الإسلامية خلال هذه الفترة خطرًا يمثل
تهديدًا للشرعية، كما أن الحركة رأت أن وقوع الدولة التونسية في أيدي
اليسار أشد خطرًا من استمرار النظام؛ لذلك ساد نوع من التعايش بين
الطرفين، وإنْ حمل في طياته بذور الصدام.
لكن مع أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات أصبح الإسلاميون مسار
جدل كبير في المجتمع التونسي، وصاروا ذا كيان فعال.
لجأت الحركة إلى تكثيف أنشطتها السياسية، وتحولت إلى حركة سياسية
علنية، وأولت اهتمامًا خاصًّا بالموضوعات الاجتماعية والسياسية.
يقول صلاح الدين الجورشي: "سارت الحركة الإسلامية في تونس في
بدايتها في خط مواز لجماعة التبليغ التي نشأت في نفس الفترة، ومن
اللافت للنظر أن الحركة الإسلامية لم يكن لها بناء تنظيمي، ولذا تبنت
فكر التبليغ".
وفي العام 1973 نشأت خلية نشيطة لحزب التحرير، إضافة إلى مجموعة
صغيرة أطلقت على نفسها "الطلائع" لكنها ظلت حركات ضعيفة وسرية.
ولذلك تعتبر الحركة الأساسية الإسلامية في تونس هي "حركة النهضة".
وبالرغم من تأثرها في بداياتها بالإخوان المسلمين في مصر إلا أن هذا
التأثر تراجع بشكل ملحوظ ، حتى إن السيد راشد الغنوشي يعتبر أن حركة
الإخوان حليف ولكنها ليست مرجعية، على حد قول الجرشي.
وبرغم بروز ظاهرة الإسلاميين المستقلين على السطح في تونس إلا أن
حركة النهضة تبقى هي الأكثر قدرة على ترتيب أولوياتها بشكل يجعلها ذات
وزن في المرحلة المقبلة. ولكنها تجد منافسة من التيار السلفي المتصاعد،
إلا أن معرفة حجم هذه المنافسة يبقى محكوما بما ستئول إليه الأوضاع في
المستقبل، وكيف ستتعامل معهم السلطة في المرحلة القادمة؟ وهل ستستمر في
سياسة الإقصاء أم يمكن أن نشهد اندماجا للإسلاميين في السياسة؟.
القوى المؤثرة على مستقبل الإسلاميين في تونس
بانتظار مستقبل مازال الغموض يلف أكثر معالمه، أبدت قيادات حركة
النهضة الإسلامية استعدادها للمشاركة في أي نقاشات لتشكيل حكومة
ائتلافية "تعبد الطريق لديمقراطية حقيقية" في تونس.
جاء ذلك بعدما كلف الرئيس المؤقت فؤاد المبزّع الوزير محمد الغنوشي
بتشكيل حكومة وحدة وطنية "دون إقصاء أو استثناء". ودعا الأخير قادة
المعارضة في الخارج إلى العودة للبلاد "من دون أن يتعرضوا لملاحقات
قضائية أو تضييقات".
وذلك عقب فرار زين العابدين بن علي الذي برحيله تكون تونس قد طوت
حقبة كبيرة من تاريخها كانت شديدة العداء للإسلاميين.
وأمام هذه المجريات الجديدة على الخارطة التونسية يبرز التساؤل قويا
حول ملامح المستقبل السياسي للحركة الإسلامية بوصفها أحد مكونات
المجتمع الرئيسية التي عانت في ظل حكم النظام السابق.
وإزاء ذلك، لا يحتاج المراقب إلى معرفة دقائق الأمور حتى يحكم بأنّ
عددا من العوامل تؤثر بشكل أو بآخر في مستقبل الإسلاميين السياسي في
تونس.
من بين هذه العوامل يبرز موقف الجيش، خاصة وهو الممسك حاليًا بزمام
الأمور في البلاد، وقد ظهر بمظهر جيد خلال الاحتجاجات، وتردد بقوة
الحديث عن دوره في دفع بن علي إلى ترك الحكم والخروج من تونس.
لكن وبالرغم من أن الجيش يحظى باحترام كبير لدى الشعب التونسي،
يتخوف مراقبون من بروز دوره في الأحداث والمستجدات الحالية، مؤكدين على
أهمية أن يظل مكان القوات المسلحة الوحيد هو الثكنات وعلى الحدود، بل
ومن الأهمية أن لا يكون لها دخل أو علاقة بالسياسة، التي يحسن أن ينحصر
الحوار حولها داخل المجتمع المدني.
ومما يحسب للقيادة العسكرية، تعاملها ـ حتى الآن ـ بروح عالية من
المسؤولية مع الأحداث، سواء من خلال العمل على ضبط الحالة الأمنية، أو
بترك المجال أمام السياسيين والقوى المدنية للبحث وإنجاز خطوات المرحلة
الانتقالية. لكن يبقى الحديث عن حقيقة دور الجيش المستقبلي رهنا
بالوقوف على مدى تركه النقاش السياسي حرا بين القوى المدنية. وهنا ما
ينطبق على موقف الجيش من كافة الأطياف السياسية ينطبق على الإسلاميين
إلا إذا ظهرت مؤشرات على مواقف خاصة من قادة الجيش أو بعضهم تجاه
الإسلاميين.
ومن بين العوامل المؤثرة على مستقبل الإسلاميين، يأتي دور القوى
الغربية التي ظلت على مدى عقود تنظر إلى النظام العلماني السابق
باعتباره حائط صد أمام هيمنة الإسلاميين، وظلت حريصة على علاقات قوية
معه. وبالرغم من أن هذه القوى سارعت إلى تأكيد حرصها على وجود
ديمقراطية حقيقة في تونس إلا أن شكوكا عديدة تحيط بمدى تحركها لصالح
جهة سياسية دون أخرى.
وما زالت بعض القوى السياسية تبدي خشيتها من أن تعود فرنسا لتلعب
نفس الدور الذي لعبته في دول أفريقية قبل ذلك، بحيث تفرض على التونسيين
جنرالا آخرا يلعب نفس الدور الذي لعبه بن علي، ما قد يعيد التونسيين
إلى نقطة الصفر.
وفي محاولة لتبديد مخاوف الغربيين من أن تقع تونس في قبضة
الإسلاميين، وذلك إبان الاحتجاجات، قال راشد الغنوشي: إنهم في الغرب "يعلمون
أن الإسلاميين ليسوا من يحرك الشارع"، معتبرا ذلك "وهم في الأذهان" كان
يروج له بن علي لاستدرار عطف الغرب، مؤكدا على أن ليس في قدرة أي حزب
لا الإسلاميين أو غيرهم أن يحركوا كل هذه الملايين في الشارع التونسي.
ومن بين العوامل المؤثرة على الإسلاميين ومستقبلهم، دور القوى
المعادية للتيار الإسلامي في تونس، والتي ترعرعت في ظل حكم نظام علماني
متشدد استمر لعقود، وهي قوى مختلفة (سياسية واقتصادية وثقافية) ينظر
إلى كونها من مخلفات الحكم السابق الذي اتبع سياسة تجفيف المنابع ضد
الإسلاميين.
فقبيل هروبه بساعات، قال السفير التونسي لدى اليونسكو (المازري حداد)
أن بن علي أعرب له عن مخاوفه من وصول الإسلاميين إلى السلطة، وقال حداد
لقناة "الجزيرة" أن بن علي أخبره خلال محادثة هاتفية أنه يخشى من وصول
من أسماهم "الإخوانجية" في إشارة إلى حركة النهضة. وتابع قائلا: "هل
ترضون أن يصل الإخوانجية للحكم؟". وبدا واضحا أن بن علي ظل يستخدم حتى
آخر لحظة في حكمه "فزاعة" الإسلاميين، أي التخويف من خطرهم في حال
وصولهم للحكم، لتحقيق أغراضه السياسية.
وخلال إعلانه الاستعداد للعودة إلى تونس نفى زعيم حركة النهضة الشيخ
راشد الغنوشي أن يكون ذلك تم باتفاق مع السلطة المؤقتة، وأفاد فقط
باتصالات جرت بين الحركة والأحزاب القائمة في تونس.
بينما أجرى الوزير المكلف، محمد الغنوشي، مشاورات مع بعض زعماء
المعارضة في الداخل لبحث ترتيبات المرحلة السياسية المقبلة إلا أن هذه
المشاورات اقتصرت على الأحزاب التي تتمتع باعتراف قانوني ولم تتعداها
إلى قوى فاعلة ومؤثرة وإن ظلت محظورة بأمر النظام السابق وعلى رأسها
القوى الإسلامية على غرار حركة النهضة.
وفي تصريح له اعتبر القيادي الإسلامي، علي العريض، عدم الاتصال
بالنهضة "خطأ يدل على استمرار عقلية إقصاء الإسلاميين، مما يؤشر على
عدم حدوث نقلة نوعية"، برأيه. وإن كان لم تتضح بعد حقيقة هذا الإقصاء
ومدى استمراريته إلا أن العريض دعا إلى "بقاء الشعب معبأ للدفاع عن
أهداف الثورة".
ودعت قوى المعارضة بكافة انتماءاتها الإسلامية واليسارية
والليبرالية إلى إعادة النظر في قانون الانتخابات والأحزاب، التي كانت
تحصر الحياة السياسية والانتخابية بيد الحزب الحاكم وحده، مشددة على
ضرورة حدوث إصلاح دستوري ينتج مؤسسات ديمقراطية, ويضمن احترام حقوق
الإنسان، مع ضمان نزاهة القضاء وحرية الصحافة.
وقال راشد الغنوشي: إن حركته تنتظر تصفية "منظومة الاستبداد", مشيرا
إلى الدستور والقوانين "المفصلة على مقاس دكتاتوري".
ولعله من بين التحديات أمام الإسلاميين، هي قدرة الحركة الإسلامية
نفسها على التعامل مع تحديات المرحلة الجديدة.
وتحظى الحركة الإسلامية في تونس بتاريخ طويل من الصراع أمام النظام
العلماني الذي تولى الحكم عقب خروج الاحتلال الفرنسي عام 1956، ومارس
عليها عمليات عنيفة من (السجن والإعدام والنفي) بهدف تصفيتها.
وقد عانت هذه الحركة التي كانت سلمية، في أغلبها، الأمرين سواء خلال
حكم الحبيب بورقيبة الذي انتهج علمانية متطرفة، وعادى الأحكام
الإسلامية، وتوسع في صلاحياته حتى صار يوصف بالديكتاتور، وأصدرت سلطاته
أحكاما بالإعدام على قيادات حركة "النهضة"، والأشغال الشقة المؤبدة على
زعيمها راشد الغنوشي.
أو في عهد زين العابدين بن علي (وصل إلى السلطة عام 1987) الذي رهن
بقاءه في السلطة بشعار محاربة التهديد الإسلامي، وشن عدة حملات على
الحركة الإسلامية.
فقد شهد العام 1989 انتخابات تشريعية شاركت فيها حركة "النهضة"
الإسلامية تحت لوائح مستقلة. فحصلت على حوالي20% من الأصوات حسب اعتراف
السلطة، بما أهلها لتكون بمثابة خصم سياسي للنظام الحاكم، الذي بدأ في
مواجهتها، خاصة بعد تقدمها بطلب الحصول على ترخيص قانوني جوبه بالرفض
من طرف السلطة.
ومع مطلع العام 1990 بدأت نذر الصدام بين الحركة والسلطة، التي تبين
لها تعاظم قوة التيار الإسلامي واتساع قاعدته الشعبية، فشنت حملة
دعائية تهدف إلى عزل الحركة وتشويهها. وقد بلغت المواجهة أوجها في مايو
1991 إذ قالت الحكومة إنها أفشلت مؤامرة لقلب نظام الحكم واغتيال
الرئيس بن علي. فشنت قوات الأمن حملة شديدة على أعضاء الحركة ومؤيديها،
كان أعنفها في أغسطس 1992 عندما اعتقلت 8000 شخص, وحكمت المحاكم
العسكرية على 256 قياديا وعضوا في الحركة بأحكام وصلت إلى السجن مدى
الحياة، ولم تتوقف الملاحقات والاعتقالات.
وفي غمرة المواجهة الدامية مع النهضة تقلصت الدولة إلى جهاز أمني
لملاحقة الإسلاميين وكافة مظاهر التدين في المجتمع.
لكن برحيل بن علي في أعقاب احتجاجات عمت المدن التونسية وقادها
بالأساس رجل الشارع العادي تكون تونس قد طوت حقبة كبيرة من تاريخها
كانت شديدة العداء للإسلاميين. وهو ما ينتظر الإسلاميون أن يكون لهم
جزء من ثمرته باعتبار ما لاقوه جراء وقوفهم في صفوف المعارضة طيلة هذه
الأعوام. إلا أن استشراف مستقبلهم يبقى محكوما بما ستؤول إليه
الأوضاع، وكيف ستتعامل معهم السلطة في المرحلة القادمة؟ وهل ستستمر في
سياسة الإقصاء أم يمكن أن نشهد اندماجا للإسلاميين في السياسة؟. |