لاشك في حجم المهمة الكبيرة التي يضطلع بها مجلس النواب في الجانب
التشريعي، لان القوانين تمثل حاجة اجتماعية لمعالجة مشاكل تعرض لها
المجتمع قد تمس كينونته أو عوارض وجوده.
واعتبر بعض فقهاء القانون إن التشريع هو المعبر الحقيقي عن الفكر
السائد للهيئة الاجتماعية التي يمثلها مجلس النواب.وهذا ما دفع كل
الدول التي تؤمن بالديمقراطية إلى اعتماد أسلوب انتخاب الأعضاء لشغل
مقاعد مجلس النواب على خلاف الكثير من الوظائف التنفيذية أو القضائية
في طريقة سد شواغرها عن طريق التعين، وان كان لبعضها وسائل تغلظ الآلية
في التعيين لحساسية ذلك الموقع الوظيفي ويقترن بمصادقة مجلس النواب،
إلا انه لا يرتقي إلى مستوى آلية انتخاب المباشر من الشعب وهذه المقدمة
تقودنا إلى إن كل دورة انتخابية لمجلس النواب تشكل كيان مستقل عن سابقه
ولا يعتد بما التزم به إن كان ما زال لم يخرج من دائرته ونطاقه.
وما يعزز هذا القول إن مجلس النواب الحالي يختلف من حيث العدد
والتوجه بالنسبة لأعضائه عن مجلس النواب السابق وبالنتيجة يكون في حل
مما أقدم عليه المجلس السابق، إن وجد المجلس الحالي عدم التوافق
والانسجام مع ما يحمل من توجه في الفكر والوسائل باستثناء الجانب
الإداري لمجلس النواب كمؤسسة وليس كيان تشريعي إذ تكون دوائر المجلس
سواء في الدورة السابقة أو الحالية هي واحدة لأنها تؤدي وظيفة إدارية
أو فنية تساعد الأعضاء في أداء مهامهم وليس من وظيفتها التشريع وإنما
تقديم الخدمة لاستمرار أداء العمل مثل الدائرة الإدارية أو البرلمانية
أو غيرها فإنها تضم عدد من الموظفين المعينين على وفق قانون الخدمة
المدنية وليس عن طريق الانتخاب المباشر ويعتبرون كسائر الموظفين في
الوزارات والدوائر الأخرى وتبقى الإدارة ملتزمة بالحقوق والالتزامات
التي ترتبت على المجلس كمؤسسة من مؤسسات الدولة.
ومثال ذلك لا يجوز أن تنتصل إدارة مجلس النواب عن تعويض الأضرار
التي تسبب بها احد المنتسبين من الموظفين بالغير تحت ذريعة تبدل الدورة
الانتخابية لأننا ذكرنا بوجود فصل تام بين عمل مجلس النواب الإداري
تجاه موظفيه وعمل مجلس النواب التشريعي والرقابي تجاه أعضائه المنتخبين.
وبعد ذلك العرض يظهر السؤال الآتي ما هو مصير مشاريع القوانين
ومقترحاتها التي وصلت إلى مجلس النواب سواء التي تمت قراءتها مرة واحدة
أو لمرتين أو التي لم تقرأ لغاية انتهاء الدورة البرلمانية
السابقة،والجواب يكون باتجاهين الأول يتعلق بفلسفة التشريع وصياغته
والثاني بالجانب الوظيفي لمجلس النواب في الوجهة التشريعية وكما يلي:.
1. كما أسلفت إن القانون يعبر عن فلسفة الأمة أو الشعب لأنه وجد
لحاجة تلمسها الشعب وهذا ما يفترض حصوله لكن في بعض الأحيان، ولربما
أصبح عرف برلماني سائد إن القانون يعبر عن فلسفة السلطة القابضة على
أمور التشريع في البلد، ففي البلدان ذات الأنظمة البرلمانية نجد إن
القوانين تتبدل وتلغى تبعا للاتجاه الفكري السائد لدى الأغلبية
المهيمنة على البرلمان، فتكون التشريعات معبرة عن عقيدتها تجاه معالجة
المشاكل التي يسعى القانون إلى حلها، فان صدر قانون في ظل مناخ سياسي
معين في دورة انتخابية فان ذلك القانون، لربما يعدل أو يلغى في ظل مناخ
سياسي مختلف في دورة برلمانية لاحقة، وهذا أمر طبيعي يسمى بلعبة
الديمقراطية وثمارها.
ومما تقدم نجد إن مشاريع القوانين التي لم تقرأ أو التي تمت قراءتها
لمرة أو مرتين في الدورة البرلمانية لا يمكن أن تكون ملزمة لمجلس
النواب الحالي لأنها قد تكون تختلف في وسائل معالجتها أو في آلية سدها
للحاجة عن رؤى وفلسفة مجلس النواب الحالي. ونحن لاحظنا إن هناك تغيير
نوعي وكمي في أعضاء مجلس النواب وهو مؤشر على وجود تباين في الأفكار
التي يؤمن بها أعضاء هذه الدورة الانتخابية عن سابقتها. مما يستلزم
إعادة النظر في ما ورد بمحتوى هذه المشاريع والمقترحات للقوانين وإعادة
صياغتها بما ينسجم والفكر الجديد السائد في الدورة الانتخابية الحالية.
2. إن دستور العراق لعام 2005 ذكر الأحكام التي تنظم السلطة
التشريعية في المواد (46 ـ 61) إلا انه لم يبين مصير مشاريع القوانين
ومقترحاتها التي لم تم التصويت عليها أو التي تمت قراءتها لمرة أو
لمرتين أو التي وصلت إلى مجلس النواب أثناء فترة انعقاده، كذلك النظام
الداخلي لمجلس النواب سار على ذات النهج عندما لم يصدى لكيفية معالجة
هذه الإشكالية وسكت عن التفصيل فيها، إلا أن الفقه القانوني لم يقف
صامتا بل تحرى سبل الحل ولجأ إلى الفقه المقارن النوعي بين أعمال
السلطات المماثلة، ومن هذا الباب يمكن لنا أن نقيس عليه باليات عدة
منها طريقة إصدار التشريع وآثاره. وعلى وفق ما يلي:.
أ- إن التشريعات التي يصدرها مجلس النواب تصدر باسم الشعب على وفق
نص المادة (124) من الدستور (تصدر القوانين و الأحكام القضائية بأصم
الشعب)، ونلاحظ ان نص المادة أعلاه يشير أيضا إلى أن الأحكام القضائية
تصدر باسم الشعب ومما يمنكن القياس عليه في القانون النوعي المقارن نجد
ان القانون يماثل الحكم القضائي من حيث جهة الإصدار.
ب- نلاحظ إن القانون لا يشبه أي قرار إداري اخر في منظومة الدولة
العراقية، إلا الأحكام القضائية من حيث جهة الإصدار التي تقترن بكونها
تصدر باسم الشعب، لكن إصدار الأحكام القضائية لم تترك دون تفصيل لكل
الحالات التي من الممكن إن تحصل في تغير القضاة أو تبدل المحكمة أو حتى
إنهاء عملها، و ورد ذلك تفصيلا في قانون المرافعات المدنية العراقي رقم
(83 ) لسنة (1969) المعدل وفي المادة (161) منه ذكر المشرع آلية النطق
بالأحكام والشروط الواجب توفرها فيه ومنها اسم القاضي الذي أصدره بعد
المرافعة التي أجراها، فإذا نقل القاضي الذي أجرى المرافعات وختم باب
المرافعة في الدعوى وحدد موعد لإصدار الحكم والنطق به وبعد ذلك وقبل
يوم النطق بالقرار زالت الولاية عن القاضي سواء كانت عرضية مثل نقله
إلى محكمة أخرى أو نهائية مثل وفاته أو إحالته على التقاعد او عزله،
فان القاضي الذي سيحل محله لا يستطيع أن يصدر الحكم إلا بعد أن يفتح
باب المرافعة من جديد ويدقق في الدعوى مرة أخرى بعد أن يدعوا أطراف
الدعوى للحضور أمامه، حتى يتمكن من إصدار قرار الحكم، لان هذا الحكم
الذي يصدره سيصدر عن قناعته هو وليس بقناعة القاضي السلف الذي كان ينظر
الدعوى، وفي المادة (91) من قانون المرافعات نجد إن قرار الحكم الذي
يصدره القاضي وهو مما لا يصح أن يكون قاضيا في الدعوى يكون ذلك القرار
محلا للفسخ وتبطل كافة الإجراءات التي صدرت بموجبه، وهذا النص عضده رأي
الفقه القانوني ومنهم الدكتور محمد سعيد عبد الرحمن في كتابه الموسوم
الحكم القضائي.
ومن خلال المقارنة بين مشروع القانون أو مقترحه الذي يمثل مرحلة ما
قبل إصدار القانون وبين إجراءات إصدار الحكم القضائي، نجد أن المشاريع
والمقترحات في الدورة البرلمانية السابقة لا يمكن أن يتم التصويت عليها
إذا كانت قد تمت قراءتها لمرتين لان من يصدر القانون ويصوت عليه بمثابة
من يوقع على الحكم القضائي وبالنتيجة لا يجوز له ذلك وإنما عليه إعادة
القراءة مجددا ومناقشة الأفكار الوارد فيه ومن ثم التصويت عليه مرة
أخرى باعتباره تصويت على مشروع أو مقترح قانون جديد وليس السابق.
ج- كذلك فيما بتعلق بالمشاريع والمقترحات التي أرسلت إلى مجلس
النواب السابق لا يمكن اعتمادها وإنما يجب إعادتها إلى الجهات التي
أرسلتها سواء كانت مجلس الوزراء أو الرئاسة أو اللجان البرلمانية
لإعادة توجيهها إلى مجلس النواب الحالي وبتاريخ لاحق لبدء دورته
الانتخابية، إذ لا يمكن له أن ينظر في موضوع أرسل إليه قبل ولادته
وإنما يجب أن يكون بتاريخ بدء الدورة الانتخابية أو بعدها، وذلك حفاظا
على المدد الدستورية للدورة الانتخابية.
د- كما يمكن لنا أن نتلمس ما توجهنا إليه في عدم جواز انتقال
مشاريع القوانين والمقترحات من المجلس السابق إلى المجلس الحالي ما ورد
في نص (55) من الدستور عندما منعت مجلس النواب من إنهاء مدة الفصل
التشريعي، إلا بعد أن يصوت على قانون الموازنة العامة ويوافق عليها
وعلى وفق نص المادة أعلاه الذي ورد فيه (لمجلس النواب دورة انعقاد
سنوية بفصلين تشريعيين امدهما ثمانية اشهر، يحدد النظام الداخلي كيفية
انعقادهما، ولا ينتهي فصل الانعقاد الذي تعرض فيه الموازنة العامة إلا
بعد الموافقة عليها)، بينما في بقية المشاريع والمقترحات لم يرد هذا
الإلزام، ومن مفهوم المخالفة في قواعد التفسير نجد إن انتهاء الدورة
البرلمانية لا يتيح للمشروع أو المقترح أن ينتقل إلى المجلس الجديد
ولكون الموازنة العامة ذات خصوصية افرد لها هذا الاستثناء الذي لا يجوز
التوسع فيه ومد أحكامه إلى غير قانون الموازنة العامة.
ومما تقدم وبعد المقارنة والعرض لموضوع مشاريع القوانين ومقترحاتها
أرى إن مجلس النواب الحالي غير مختص في نظر مشاريع القوانين التي كانت
معروضة على المجلس السابق سواء التي وردت أو التي تمت قراءتها لمرة أو
مرتين أو التي وصلت إلى مرحلة التصويت وإنما يجب إعادتها إلى الجهات
التي أرسلتها لغرض صياغتها من جديد على وفق ما استجد من أفكار ورؤى
سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية جديدة في ظل المجلس الحالي ومن ثم
إرسالها مجددا إلى مجلس النواب ليتسنى له أن يتصدى لقراءتها ومناقشتها
ومن ثم التصويت عليها، وارى أن يتم ذلك بأسرع وقت ممكن لتدارك عنصر
الزمن الذي يضغط باتجاه إصدار القوانين التي يحتاجها المجتمع والمكملة
لعملية التحول الديمقراطي في العراق والمشار إليها في الدستور، وكذلك
لتلافي الطعن فيها بعدم الدستورية لمخالفتها لوجهة النظر القانونية
المشار إليها في أعلاه، لان الخاسر الوحيد في هذه الحالات كلها هو
المواطن العراقي. |