فخ... عبق البطولة واريج الشهادة

محمد الصفار

 

شبكة النبأ: روى المامقاني في كتابه (تنقيح المقال) ج 1 ص 237 عن الامام الصادق (ع) قوله: (مر رسول الله (ص) بفخ وصلى ركعة فلما صلى الثانية بكى وهو في الصلاة وبكى الناس لبكائه (ص) فلما انصرف سألوه عن بكائه فقال (ص): نزل علي جبرئيل فقال لي: يا محمد ان رجلا من ولدك يقتل في هذا المكان اجر الشهيد معه اجر شهيدين).

ومرت الايام والسنين حتى كانت سنة 169 ه فكانت هذه السنة شاهدة على ثورة عظيمة تجلت فيها معالم الشجاعة العلوية والاباء الحسيني، فسجل التاريخ في هذا المكان صفحات مشرقة وصور رائعة وبطولات وتضحيات تلألأت على جبين الدهر تضيء طريق الحق والخير والصلاح.

في هذا المكان وقف شبل تفرع من الدوحة المحمدية الشريفة وتسلسل من النبع العلوي الصافي وورث اروع صفات العقيدة الخالصة والاباء والاقدام عن ابائه معدن الرسالة والفداء، يقارع جيش البغي وقوى الضلال بنفس ابيه مع فتية امنوا بربهم فزادهم هدى، فأحيوا الحق بدمائهم وقدموا انفسهم فداءً لدينهم.

في هذا المكان استنشق التراب اريج البطولة وملات اركانه عبير الشهادة وتشرف بالأجساد الطاهرة والدماء الزكية لكوكبة الخالدة لابي الضيم وابي الاحرار الامام الحسين (ع) وواقعة كربلاء.

في هذا المكان سجل التاريخ لثائر علوي اسمى معاني الكرامة واروع آيات الاباء انه بطل فخ ابو عبد الله الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب (ع) وامه زينب بنت عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب (ع).

بعد صعود العباسيين الى السلطة كان التاريخ على موعد مع صفحة سوداء وحقبة بشعة امتلأت بجورهم وظلمهم وغدرهم، فقد اوغلوا في ارتكاب الجرائم وسفك الدماء، وخاصة من العلويين فلم يبق علوي لم يصبه اذاهم وظلمهم ويذكر ابو الفرح الاصفهاني في كتابه (مقاتل الطالبيين). ما جرى على العلويين حتى اضحوا بين مقتول ومسجون ومشرد في البلاد خائفا يترقب حتى قال الشاعر ابو فراس الحمداني مخاطبا بني العباس:

بئس الجزاء جزيتم في بني حسن      ابوهم العلم الهادي وامهم

لا بيعة ردعتكم عن دمائهم             ولا يمين ولا قربى ولا ذمم

واستمر هذا الظلم والاضطهاد من قبل الخلفاء العباسيين الذي تعاقبوا على الحكم يمارسونه بما جبلت عليه نفوسهم من الشر والطغيان والفساد في الارض، وكانوا يولون على الناس شرار الخلق ومن يعرفون عداوته لأهل البيت (ع) وال ابي طالب، وهذا ما فعله الخليفة العباسي موسى الهادي جريا على عادة من سبقه، فقد ولى على المدينة المنورة عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فكان هذا الوالي عند حسن ظن اسياده العباسيين اذ افرط في الاساءة والتحامل على الطالبيين، فكان يعرضهم في كل يوم في المقصورة (اثبات وجود) واخذ كل واحد منهم بكفالة قريبه ونسيبه، ولم يكتف هذا الوالي بعرض العلويين كل يوم بل تعدى الامر الى اتهامهم بما ليس فيهم، فاخذ الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن، ومسلم بن جندب الهذلي وعمر بن سلام وهم مجتمعون واشاع كذبا وافتراء انه وجدهم على شراب فامر بضربهم فضرب الحسن ثمانين سوطا، ومسلم بن جندب خمسة عشر سوطا وعمر بن سلام سبعة اسواط، وجعل في اعناقهم حبالا وطيف بهم في المدينة مكشوفي الظهور ايغالا في فضحهم، فبعث الهاشمية صاحبة الراية السوداء في ايام محمد بن عبد الله فقال له: ولا كرامة ، لا تشهر احدا من بني هاشم وتشنع عليهم وانت ظالم فكف عن ذلك وخلى سبيلهم يقول السيد الامين في اعيان الشيعة، وقولها: (وانت ظالم) دال على ان ذلك مجرد اشاعة لا حقيقة لها.

ثم جاء الحسين بن علي الى الوالي العمري وقال له: قد ضربتهم ولم يكن لك ان تضربهم فلم تطوف بهم فامر بهم فردوا وحبسهم، ثم ان الحسين بن علي ويحيى بن عبد الله بن الحسن كفلا الحسن بن محمد فأخرجه العمري من الحبس ثم قدم الحجاج لأداء مناسك الحج.

وقدم من الشيعة نحو سبعين رجلا فنزلوا في دار افل بالبقيع والتقوا مع الحسين بن علي ويحيى بن عبد الله وغيرهما من العلويين.

فبلغ هذا الخبر الوالي العمري فانكره وافرط في التحامل عليهم والاساءة اليهم وولى عليهم رجلا غليظا فظا يعرف بابي بكر بن عيسى الحائك مولى الانصار فعرضهم يوم الجمعة ولم يأذن لهم في الانصراف، حتى بدا الناس يجيئون الى المسجد ثم اذن لهم فكان قصارى جهد احدهم ان يتوضأ للصلاة ويروح الى المسجد.

فلما وصلوا حبسهم في المقصورة الى العصر تم عرضهم فدعا باسم الحسن بن محمد فلم يحضر فقال الحائك للحسين ويحيى: لتأتياني به اولا فان له ثلاثة ايام لم يحضر العرض ولقد خرج او تغيب فشتمه يحيى وخرج فمضى الحائك هذا فدخل على العمري فاخبره فدعا بهما وتهددهما واغلظ لهما فغضب يحيى وقال له: ما تريد منا ؟ فقال: اريد ان تأتياني بالحسن بن محمد فقالا: لا نقدر عليه وهو في بعض ما يكون فيه الناس، فابعث الى ال عمر بن الخطاب فاجمعهم كما جمعتنا ثم اعرضهم رجلا رجلا، فان لم تجد فيهم من قد غاب اكثر من غيبة الحسن عنك فقد انصفتنا، فحلف على الحسين بطلاق امرأته وحرية مماليكه ان لا يخلي عنه او يجيئه به في باقي يومه وليلته، وانه ان لم يجيء بالحسن ليركبن الى سويقة - وهي موضع قرب المدينة فيها مساكن ونخيل لبني الحسن - فيخربها ويحرقها وليضربن الحسين الف سوط وحلف بهذه اليمين وهي ان وقعت عينه على الحسن بن محمد ليقتله فورا .

ونترك التعليق على هذا القول للسيد محسن الامين الذي قال في كتابه (اعيان الشيعة) عند ذكره هذا الموقف: (بمثل هذه السياسات الخرقاء كانت تدار بلاد الاسلام يولي على اشراف الناس من في قلبه الضغائن عليهم حتى يحرجهم ويضطرهم الى فعل ما لا يمكن ان يفعلوه او الخروج عليه فتراق الدماء وتنتهك حرمات الله وتنهب الاموال ويجري افظع الظلم والفساد كيف يمكن ان يجيء الحسين ويحيى بابن عمهما الى العمري فيقتله اولا يجيئان به فيخرب ملكهما الذي به معاشهما ويضرب الحسين بن علي الف سوط وهل بعد هذا مخرج الا الخروج عليه وما هو الذنب الذي استوجبوا به هذا؟).

وهذا ما ادى الى الثورة فهل يظن هذا الوالي الاخرق ان هذه النفوس الابية التي جلبت على الوفاء والايثار والقيم العليا تغدر بابن عمها وتسلمه اليه ليقتله من غير ذنب لقد سد بقوله هذا كل الطرق سوى طريق الحرب.

يقول الشيخ محمد الساعدي في كتابه (الحسينيون في العراق) ج 1 ص 154: (ان اسباب ثورة صاحب الفخ نتيجة لضغط والي المدينة من قبل موسى الهادي على الطالبيين وهو عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وارهابه لهم وتحديه اياهم بما كان يفرضه عليهم من الحضور عنده كل يوم للعرض حذرا لما يتوقعه منهم عند غيابهم عن المدينة فكانت الثورة في الواقع نتيجة الارهاب والضغط الشديدين واخذهم دعاة الحق بالقوة والاذى مع العلم ان الحسين في فترات مختلة وبوسائل شتى حاول ايجاد التفاهم الايجابي وعدم الركون والرجوع الى القوة والحرب بينهم وبين ذلك الوالي فلم يفلح ولم يحض منه برد وقبول حسن).

بعد ان رأى الحسين ويحيى اصرار الوالي وشدته في تصرفه الاهوج وشب يحيى مغضبا وقال له: انا اعطي الله عهدا وكل مملوك له حر ان ذقت الليلة نوما حتى آتيك بالحسن بن محمد اولا، اجده فاضرب عليك بابك حتى تعلم ان قد جئتك، وخرجا من عنده وهما مغضبان وهو مغضب .

كان جواب يحيى لخلق بعض الهدوء في هذه الاجواء المتوترة، ولكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة وهذا ما اوضحه لابن عمه الحسين بن علي عندما قال له: بئس لعمر الله ما صنعت حين تحلف لتأتينه به واين تجد حسنا، فقال: لم ارد ان اتيه بالحسن والله والا فانا نفي من رسول الله (ص) ومن علي (ع) بل اردت ان ادخل عيني نوم حتى اضرب عليه بابه ومعي السيف ان قدرت عليه قتلته فقال له الحسين: بئس ما تنقض علينا ما كان بيننا وبين اصحابنا من الميعاد - وكانوا قد تواعدوا ان يظهروا بالموسم - فقال له يحيى: وكيف اكسر عليك امرك وانما بيني وبين ذلك عشرة ايام حتى نسير الى مكة فوجه الحسين الى حسن بن محمد فقال له: (يا ابن عمي قد بلغك ما كان بيني وبين هذا الفاسق فامض حيث احببت فقال الحسن: لا والله يا ابن عمي بل اجيء معك الساعة حتى اضع يدي في يده فقال له الحسين: ما كان الله ليطلع علي وانا قادم على محمد (ص) وهو خصيمي وحجيجي في دمك ولكني افديك بنفسي واقيك لعل الله ان يقيني من النار وعملا في الخروج من ليلتهم ووجه الحسين دعوته فجاء يحيى وسليمان وادريس بنو عبد الله بن الحسن وعبد الله بن الحسن وابراهيم بن اسماعيل طباطبا وعمر بن الحسن بن علي بن الحسن بن الحسن ابن الحسن وغيرهم من ال ابي طالب، فكان عددهم ستة وعشرون رجلا من ولد علي بن ابي طالب (ع) وعشرة من الحاج ونفر من الموالي وجاء يحيى فضرب على العمري باب داره فلم يجده وجاء اصحابه فاقتحموا المسجد وقت الصبح ثم نادوا (احد .. احد) فسمعهم العمري فولى هاربا وصلى الحسين بالناس الصبح ودعا بالشهود الذين كان العمري اشهدهم عليه ان يأتي بالحسن اليه ودعا بالحسن وقال للشهود: هذا الحسن قد جئت به فهاتوا العمري والا والله خرجت من يميني ومما علي ثم صعد المنبر فحمد الله واثنى عليه وقال: ايها الناس انا ابن رسول الله على منبر رسول الله وفي حرم رسول الله ادعوكم الى سنة رسول الله ، ايها الناس: أتطلبون اثار رسول الله في الحجر والعود وتتمسحون بذلك وتضيعون بضعة منه ابايعكم على كتاب الله وسنة رسول الله وعلى ان يطاع الله ولا يعصى وادعوكم الى الرضا من ال محمد (ص) وعلى ان نعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه (ص) والعدل في الرعية والقسم بالسوية وعلى ان تقيموا معنا وتجاهدوا عدونا فان نحن وفينا لكم وفيتم لنا وان نحن لم نف لكم فلا بيعة لنا عليكم، فقام اليه الناس وبايعوه ولم يختلف عنه احد من الطالبين سوى الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن فانه استعفاه وموسى بن جعفر الكاظم (ع) فانه قال للحسين: يا ابن العم انك مقتول فاحد الضراب فان القوم فساق يظهرون ايمانا ويضمرون نفاقا وشركا فانا لله وانا اليه راجعون وعند الله عز وجل احتسبكم من عصبة.

وكان العمري قد بعث يطلب الامداد فاقبل خالد البربري وكان على مسلحة _ قوة عسكرية _ بين 200 الى 400 رجل الى العمري، ومعه اصحابه في السلاح حتى وافوا باب المسجد الذي يقال له باب جبريل فاراد خالد ان ينزل فضربه يحيى بالسيف على جبينه فاطار مخ راسه واراده قتيلا ثم حمل يحيى على اصحاب خالد فانهزموا ودخل العمري في المسودة فحمل عليهم اصحاب الحسين فهزمهم من المسجد، واغلق اهل المدينة ابوابهم وفي اليوم التالي اجتمع عليهم شيعة بني العباس فقاتلوهم وكثر القتل والجراح بين الفريقين واقتتلوا الى الظهر واقام الحسين واصحابه اياما يتجهزون فكان مقامهم بالمدينة احد عشر يوما، ثم قصدوا الى مكة ومعه من تبعة من اهله ومواليه واصحابه وهم زهاء ثلاثمائة فلما قربوا من مكة وصاروا بفخ تلقتهم الجيوش العباسية بقيادة موسى بن عيسى والعباس بن محمد وجعفر بن محمد ابن سليمان، فالتقوا يوم التروية وقت صلاة الصبح فامر موسى ابن عيسى بالتعبئة والتهيؤ للمسير الى الحسين، وارسل من يستطلع له معسكر الحسين فرجع الرسول وقال له: ما رأيت خللا ولا فللا ولا رأيت الا مصليا او مبتهلا او ناظرا في مصحف او معدا السلاح فقال: هم والله اكرم خلق الله واحق بما في ايدينا منا ولكن الملك عقيم.

ثم سار اليه فكان اول من بدا هم موسى فحملوا عليه فاستطرد لهم قليلا حتى انحدروا في الوادي فحمل عليهم محمد بن سليمان من خلفهم فقتل اكثر اصحاب الحسين وجعلت المسودة تصيح يا حسين لك الامان فيقول: ما اريد الامان ويحمل عليهم واشتد القتال وبرز اولاد علي (ع) بأجمعهم فقتل منهم جماعة بعد ان قاتلوا ببسالة وكثر سقوط القتلى والجرحى ورغم تفوق القوات العباسية في العدة والعدد الا انها تكبدت خسائر فادحة لإستماته العلويين في القتال ورمى حماد التركي الحسين بن علي فقتله فتفرق اصحابه، وقتل عدد منهم ونجا اخرون.

وكان ممن نجا في ذلك اليوم ادريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب (ع) مؤسس دولة الأدارسة، قال الطبري وابن الاثير في تاريخهما: (ان قطع الرؤوس كان يوم التروية ايضا فحملوها الى مكة ومنها الى المدينة وكانت مائة ونيف راس).

وجاء الجند بالرؤوس الى موسى بن عيسى والعباس بن محمد بعد ان القوا القبض على اغلب ولد الحسن والحسين واحضروهم فقال موسى بن عيسى للإمام موسى بن جعفر (ع): هذا راس الحسين فقال (ع): نعم انا لله وانا اليه راجعون مضى والله مسلما صالحا صواما قواما امرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ما كان في اهل بيته مثله، فلم يجيبون بشيء ثم قيدوهم بالحبال والسلاسل وحملوهم اسرى الى بغداد، وادخلوهم على الخليفة موسى الهادي فامر بقتلهم وصلبهم فقتلوا وصلبوا بباب الحبس.

اثارت هذه الواقعة كوامن الاسى في قلوب اهل البيت (ع) والشيعة وكان لها صدى مؤثرا وحزينا في نفوسهم يقول الامام محمد الجواد (ع): (لم يكن لنا بعد الطف مصرع اعظم من فخ) فقد كان الحسين بن علي (شهيد الفخ جليل القدر جدا).

كما يقول المحدث القمي في تحفة الاحباب ص 69 وقال عنه تاج الدين بن زهرة في غاية الاختصار ص 53: (كان جوادا عظيم القدر لحقته ذلة من الخليفة الهادي فخرج عليه)، وقد استشهد مع الحسين فضلا عن اهل بيته اخيار الشيعة من اصحاب الامامين الصادق والكاظم (ع) ورثاهم الكثير من الشعراء منهم دعبل الخزاعي الذي يقول في تائيته الشهيرة:

قبور يكون فان واخرى بطيبة       واخرى (بفخ) نالها صلواتي

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 5/كانون الثاني/2011 - 29/محرم/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م