مصر... الارباك سياسي يفاقم القلق الاقتصادي

محمد حميد الصواف

 

شبكة النبأ: مع توالي الازمات السياسية التي تعصف بمصر، وما خلفته من انتكاسات كبيرة انعكست على الواقع الاجتماعي والثقافي هناك، يراهن الكثير من المراقبين على تردي الوضع الاقتصادي في حال استمرار الحال على ما هو عليه.

فضبابية المستقبل السياسي لمصر، وترقب غياب الرئيس المصري محمد حسني مبارك على السلطة يقلق المتابعين لما سوف تترتب على ذلك من نتائج، سيما ان النظام السياسي يفتقر للشفافية المطلوبة التي تؤمن التداول السلمي للسلطة، فيما تزيد من نسب العواقب الخطيرة الرفض الكبير لنوايا التوريث التي يروج لها.

وما يعزز من تلك المخاوف اللغط الكبير والسخط الشعبي الذي اعقب الانتخابات البرلمانية الاخيرة، وما سادها من احباط واتهام بالتزوير والتشكيك.

وبين هذا وذاك، بات الاقتصاد المصري اكثر المرافق الحيوية تأثرا، سيما ان تلك الدولة الكبيرة تعتمد بشكل اساس على الاستثمارات الخارجية والسياحة في تامين نسبة كبيرة من مداخيلها النقدية، وهما يرتكزان في رواجهما بشكل اساسي على استقرار النظام والامن.

الا ان البعض يعتقد ان الواقع السياسي لن يكون مقلقا بشكل كبير على التدفق المالي والاستثماري في تلك الدولة، نظرا الى كون النخبة الحاكمة والجيش قادران على تأمين ذلك بيسر.

التحول العبء

فطالما اعتبر سكون الاوضاع السياسية في مصر ميزة في منطقة مضطربة لكن المستثمرين يتساءلون ان كان ذلك قد يصبح عائقا مع تقدم السن بالرئيس المصري حسني مبارك دون أن يتضح من سيخلفه.

ومازال الاقتصاد المصري نشطا رغم حالة عدم اليقين بشأن ما اذا كان مبارك البالغ من العمر 81 عاما سيسعى لفترة رئاسية سادسة في 2011 أو ان كان سيساعد ابنه على الصعود الى السلطة أم أن حصانا أسود من بين ضباط الجيش أو مرشحا اخر سيظهر.

لكن المصرفيين ومحللي التصنيفات الائتمانية وشركات السمسرة لديهم مزيد من الاسئلة بشأن من سيتولى الحكم خلفا لمبارك وهي مخاوف ربما تدفع للمطالبة بعائدات أعلى على الاستثمارات المصرية مقارنة مع الاسواق المنافسة ويمكن أن تحد من التصنيفات الائتمانية لديون مصر.

واهتزت الاسواق المصرية بشدة في السابق بسبب مخاوف بشأن صحة مبارك الذي تولى الحكم في 1981 ولم يعين نائبا. لذا عندما خضع لعملية جراحية هذا الشهر بدا الامر مخططا على نحو جيد ليجري بما لا يعطي فرصة لانتشار الشائعات المعتادة.

وقال ولفرام لاتشر المحلل لدى شركة كنترول ريسكس "من الواضح أن استقرار التوقعات السياسية كان يعتبر لفترة طويلة ميزة لمصر.

"والان مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية من الواضح أن هناك قدرا أكبر من عدم اليقين وهذا المستقبل السياسي غير المؤكد أصبح عبئا الى حد ما."

ولا تظهر الارقام الرئيسية حذر المستثمرين فالبورصة المصرية من بين الاسواق صاحبة الاداء الافضل في المنطقة والاقتصاد نما نحو خمسة بالمئة في خضم الازمة العالمية والاستثمارات الاجنبية مازالت تتدفق على البلاد رغم انخفاضها أثناء الازمة.

لكن هناك بوادر قلق. فعندما سئل مصرفي مصري عن تدفق عمليات الطرح العام الاولي في 2011 أحجم عن الاجابة الى أن قال في الخفاء وبعد الحاح في السؤال ان من الصعب للغاية توقع الوضع في ظل انتخابات رئاسية وشيكة.

وقال خبير اقتصادي مصرفي اخر لدى سؤاله عن معاملات العملاء الاجانب "انهم لا يحجمون فيما يتعلق بالاستثمار لكنهم يقرون أن هناك قدرا من عدم اليقين الان أكثر من ذي قبل."

وقال محلل باحدى شركات السمسرة في القاهرة - طلب مثل الاخرين عدم نشر اسمه بسبب حساسيات سياسية - ان المخاطرة السياسية دفعت المستثمرين الاجانب للمطالبة بعائدات أعلى من مصر مقارنة مع الاسواق الصاعدة المنافسة مثل بعض الاسواق الاسيوية.

ويهون المسؤولون المصريون من تلك المخاوف. وفي أكتوبر تشرين الاول قال رئيس الوزراء أحمد نظيف "أقول للمستثمرين لا تقلقوا هناك دائما سبيل وهناك دائما بديل. وهكذا كان الحال في مصر في الماضي."

واذا توفي الرئيس أثناء توليه المنصب أو عجز عن القيام بمهامه تنتقل صلاحياته مؤقتا الى رئيس مجلس الشعب على أن تجرى الانتخابات خلال 60 يوما. وأجرت مصر أول انتخابات رئاسية تعددية عام 2005 وفاز مبارك بها بسهولة.

لكن قواعد الترشيح تجعل من المستحيل تقريبا لاي مرشح لا يدعمه الحزب الحاكم أن يفرض تحديا حقيقيا في سباق الرئاسة. وفي ظل تلك الشروط من المرجح أن يجري اتخاذ أي قرار بشأن الرئيس التالي في صفقات خلف الكواليس وليس عبر صناديق الاقتراع.

وقال محلل سياسي مصري رفض نشر اسمه هو الاخر "الامر محبط للمراقبين الاجانب لانه ليس لديهم الكثير ليعتمدوا عليه. عندما يكون هناك ما لا تفهمه تميل لاعتباره غير مستقر أو لا يمكن التنبؤ به" لكنه أضاف أنه ربما تكون هناك مبالغة في المخاوف بشأن عدم الاستقرار.

وقال ريتشارد فوكس مدير التصنيفات السيادية للشرق الاوسط وأفريقيا لدى وكالة التصنيفات الائتمانية فيتش ان موضوع خلافة الرئيس مازال يحد من التصنيفات الائتمانية لديون مصر لانه قد يؤدي الى تباطؤ سياسات تحرير الاقتصاد التي أشاد بها الاجانب منذ 2004.

وقال فوكس "اذا كان لدينا صفقة واستطعنا توقع كيف ستكون الحكومة المقبلة فسيكون من السهل أن نصدر أحكاما" مضيفا أنه بدون الوضوح " فمن المؤكد أن يمنع (موضوع الخلافة) التصنيفات من الارتفاع."

ويعتقد كثير من المصريين أن مبارك يريد توريث السلطة لابنه جمال (46 عاما) الذي ارتقى الى منصب كبير في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم ويهيمن مقربون له على مناصب اقتصادية رئيسية في الحكومة. وينفي مبارك وابنه ذلك.

وقال خالد عبد المجيد المدير الشريك في مؤسسة ادارة الاستثمار مينا كابيتال التي تتخذ من لندن مقرا "أعتقد أن مجتمع الاعمال يريد أن يخلف جمال أباه."

وأضاف "هناك الملايين من الفقراء في مصر الذين ربما يكون لهم رأي مختلف لان الهوة قد اتسعت بين الاغنياء والفقراء" في اشارة لشكاوى بأن مزايا تحرير الاقتصاد لم تصل الطبقات الدنيا.

لكن خلافة جمال لابيه ليست أمرا مفروغا منه. فعلى عكس الرؤساء المصريين ليس لدى جمال أي خلفية عسكرية وهو ما قد يجعله يواجه صعوبة في فرض سلطته.

ويقول محللون ان عمر سليمان مدير المخابرات العامة المقرب من الرئيس يشار اليه كمنافس محتمل ومرشح ذي خلفية عسكرية قد يطفو فجأة على السطح.

وأثار محمد البرادعي - أحد الشخصيات المصرية المعروفة جيدا بالخارج والذي كان يتولى منصب المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية - جدلا بقوله انه قد يرشح نفسه للرئاسة وقد اجتذب عشرات الالاف من الانصار على موقع "فيس بوك" ومواقع أخرى على الانترنت.

النمو الاقتصادي

من جانب آخر يبث النمو الاقتصادي القوي في مصر حالة تفاؤل مستمر لدى المستثمرين الاجانب تفوق حالة عدم اليقين بشأن مستقبل حكم البلاد والمخاوف من حدوث اضطرابات بسبب ارتفاع أسعار الغذاء.

وتبدو التدفقات النقدية الاجنبية على الاسهم وأذون الخزانة قوية قبيل الانتخابات الرئاسية المقررة هذا العام رغم أن تأرجح الجنيه المصري يشي بأن البنك المركزي ربما يعزز الاحتياطيات النقدية كاجراء احترازي.

وقد تواجه أسواق الاسهم والنقد قصير الاجل بعض الصعوبات السياسية في الاسابيع والاشهر القادمة لكن الافاق العالمية السلبية تجعل نمو الاقتصاد المصري بمعدل 5.1 بالمئة في السنة المالية 2009-2010 والتوقعات الرسمية بنمو ستة بالمئة في السنة المالية أمرا مغريا.

وفي سبتمبر أيلول توقع اقتصاديون في استطلاع نموا عند 5.5 بالمئة في السنة المالية المنتهية في يونيو حزيران 2011.

وقال خالد سري صيام رئيس البورصة المصرية أن مشاركة المستثمرين الاجانب في سوق الاسهم مازالت مشتريات صافية.

ويواجه المستثمرون بيروقراطية وبنية أساسية متدهورة لكنهم يستفيدون من موقع مصر القريب من أوروبا ومن الطبقة المتوسطة التي يزداد انفاقها والعمالة الرخيصة في البلد البالغ تعداد سكانه 78 مليون نسمة وهو ما يساعد في اجتذاب استثمارات في الصناعات التصديرية والمنتجات الاستهلاكية.

وقال سيباستيان هينان نائب الرئيس في شركة المستثمر الوطني في أبوظبي التي تدير 120 مليون دولار في أنحاء المنطقة "قصة النمو متماسكة من وجهة نظري."

وأضاف أن الشركات المصرية المدرجة مقومة بأقل من قيمتها ويجري تداول أسهمها عند تسعة أمثال متوسط معامل الربحية مقارنة مع 11 مثلا في الاسواق الناشئة عموما.

ومما يعكس ثقة المستثمرين أن الكترولوكس السويدية اتفقت مبدئيا في الشهر الجاري على شراء اوليمبيك جروب أكبر شركة لصناعة الاجهزة المنزلية في الشرق الاوسط وشمال افريقيا.

وقال انجس بلير رئيس قسم الابحاث في بنك الاستثمار بلتون فايننشال "هذه اشارة محتملة على التغير تعني أن السوق الاستهلاكية في مصر باتت تؤخذ على محمل الجد وثانيا أنهم سيتمكنون من استخدام مصر كقاعدة تصنيع ثم التصدير منها."

وتراجع الاستثمار الاجنبي المباشر 16 بالمئة في 2009-2010 الى 6.8 مليار دولار لكن المحللين يعزون ذلك بشكل رئيسي الى عزوف عالمي عن الاسواق الناشئة وليس الى المخاوف المتعلقة بمصر. بحسب رويترز.

ومن المرجح على ما يبدو أن المستثمرين المباشرين أصحاب النظرة طويلة الاجل سينظرون الى ما هو أبعد من عدم اليقين السياسي وهم على ثقة من عدم التراجع عن تحرير الاقتصاد الذي بدأ منذ 2004 حتى لو تباطأت وتيرته بسبب أي تحول سياسي.

وقال هينان "استثمارات المحافظ يمكن أن تكون أشد تقلبا. بالطبع اذا تباطأ تدفق الاخبار في الاشهر القادمة بسبب هذه الانتخابات واذا رأينا حربا كلامية بين المرشحين... ربما نرى بعض التقلب في السوق."

ونقل جيه.بي مورجان عن بيانات وزارة المالية أن صافي الحيازات الاجنبية من أذون الخزانة المصرية قفز الى 8.3 مليار دولار في ابريل نيسان من 530.4 مليون دولار في ديسمبر كانون الاول من عام 2009 ثم ارتفع الى 9.2 مليار دولار في منتصف أكتوبر تشرين الاول الى أن حدثت موجة بيع.

وعزا جيه.بي مورجان موجة بيع أذون الخزانة في الاونة الاخيرة الى انخفاض مفاجئ في الجنيه المصري بعد أشهر من الاستقرار. وسجل الجنيه أدنى مستوى في خمس سنوات عند 5.774 جنيه أمام الدولار وهو الادنى منذ يوليو تموز 2005.

وقال بعض المحللين ان البنك المركزي ربما تركه يتراجع لدعم المصدرين لكن ربما يكون أيضا يجمع مزيدا من الدولارات لحماية العملة من تقلبات ما قبل الانتخابات اذا اقتضى الامر.

وقال بلير من بلتون فايننشال ان هذا الضعف مستغرب لان هناك طلبا على عملات الاسواق الناشئة. وقال ان سبب الانخفاض قد يكون ان المصريين الذين تعايشوا مع ثلاثين سنة من حكم مبارك لدرجة أن احتمالات التغيير أصبحت تثير القلق.

وتابع قائلا "أعتقد أن (هبوط الجنيه) ناجم عن ضغوط داخلية وليس عن ضغوط خارجية اذ أن كثيرا من المستثمرين العالميين تعجبهم الصورة الاقتصادية العامة في مصر."

وقال جون سفاكياناكيس كبير الاقتصاديين لمنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا لدى كريدي اجريكول ان ارتفاع الاسعار قد يكون مبعث قلق أكبر من السياسة.

وقال "اذا لم يكن لدى الناس مال لشراء الطعام.. فهذه قضية أخطر بكثير من مجرد مسألة الخلافة أو الخلاف السياسي وانتخابات نوفمبر."

ولا يزال التضخم فوق عشرة بالمئة منذ فترة طويلة لكن أسعار الغذاء قفزت بنسبة 22 بالمئة وهو ما كان أشد ضررا على الفقراء في البلد الذي يعيش حوالي 20 بالمئة من سكانه بأقل من دولار واحد يوميا وفقا للامم المتحدة.

وأدى ارتفاع الاسعار ونقص الخبز المدعم في عام 2008 الى اشتباكات مع الشرطة. وللحيلولة دون تكرار ذلك سارعت الحكومة الى طمأنة المصريين بأن امدادات الخبز لن تتأثر بالارتفاع الاخير في أسعار القمح العالمية. كما سارعت أيضا الى اعادة ملء مخازنها بعدما تعرضت روسيا المورد الرئيسي لموجة جفاف.

قرارات اقتصادية صعبة

من جهته قال جمال مبارك رئيس لجنة السياسات بالحزب الوطني الديمقراطي الحاكم بمصر ونجل الرئيس حسني مبارك يوم الاثنين ان مصر ستسعى لزيادة استثماراتها السنوية من 30 مليار جنيه الى 100 مليار جنيه (17.22 مليار دولار) في السنوات الخمس المقبلة لرفع معدلات النمو الى سبعة وثمانية بالمئة.

وقال جمال مبارك (47 عاما) ان الحكومة يجب أن تأخذ قرارات اقتصادية صعبة لتحفيز النمو الاقتصادي الذي تضرر بفعل الركود العالمي بطرح مشروعات للبنية التحتية في 2011 تتضمن شراكة بين القطاعين العام والخاص.

وقاد وزراء ومسؤولون كبار مؤيدون لرجل الاعمال الذي تحول للعمل بالسياسة اصلاحات عززت معدل النمو السنوي الى سبعة بالمئة في السنوات الثلاث السابقة على الازمة الاقتصادية التي تفجرت في 2008. وتتوقع الحكومة نمو الناتج المحلي الاجمالي المصري ستة بالمئة في السنة المالية التي تنتهي في يونيو حزيران 2011.

وقال جمال في مؤتمر صحفي يوم الاثنين بعد المؤتمر السنوي للحزب الوطني الديمقراطي "ينبغي أن نعود سريعا لمتوسط معدلات النمو البالغ سبعة وثمانية بالمئة وهذا يحتاج لسياسات أكثر جرأة."

وأضاف "يتطلب تحقيق ذلك أن ندفع متوسط الاستثمارات العامة الى 100 مليار (جنيه) سنويا بعد أن بلغ نحو 30 مليارا على مدى السنوات الخمس المنصرمة."

ومضى يقول ان الحكومة ستطرح في شراكة مع القطاع الخاص مشروعات بنية أساسية في قطاعات مثل الطرق والمياه والصرف الصحي.

وينظر كثير من المصريين بريبة كبيرة لاي اصلاحات اقتصادية ويقولون انها تهدف لمصلحة نخبة منتقاة على حساب الفقراء الذين يكافحون في ظل ارتفاع الاسعار وتدني الاجور.

وسئل جمال مبارك عن الاضطرابات الشعبية التي قد تثيرها الاصلاحات الجديدة فقال ان مصر تنال نصيبها من الاحتجاجات شأنها شأن أي دولة أوروبية لكنه أكد أن الحزب الوطني سيعمل على حشد التأييد لسياساته الجديدة.

الى ذلك جاء بتقرير البنك الدولي أن الأداء الاقتصادي الكلى في مصر لم يؤد إلى تحسن في مستوى معيشة الفقراء.. فقد ارتفعت نسبة الفقراء المصريين بالنسبة لإجمالي السكان إلى 23.4 بالمائة عام 2008-2009 مقابل 20 بالمائة عام 2007.

ويبدو إن الفقر في مصر ظاهرة ريفية، حيث يمثل فقراء الريف أكثر من 77 بالمائة من جملة الفقراء في مصر (طبقاً للتقرير الصادر عن وزارة الدولة للتنمية الاقتصادية بالتعاون مع البنك الدولي في منتصف عام 2007).

كما تؤكد خريطة الفقر في مصر أن الفقر يتركز بشدة في محافظات الصعيد، حيث تتركز 794 قرية من أفقر ألف قرية في محافظات كل من المنيا وسوهاج وأسيوط.

العثور على مساكن ميسورة التكلفة

في سياق متصل على مشارف القاهرة وأمام تجمعات سكنية مغلقة يمارس سكانها رياضة الجولف في ملعب من 18 حفرة توجد شقق فخمة شاغرة ليس هناك ثمة من يشتريها.

وبينما تتراكم الرمال من الصحراء المحيطة على تشطيبات هذه الشقق الفاخرة يقول مواطنون انهم لا يقدرون على تحمل شراء منزل في القاهرة التي يبلغ عدد سكانها 20 مليونا والتي تكتظ بالمباني المتلاصقة حتى ان بعضها لم يعد يطل الا على مطبخ الجيران عادة.

وفي المستويات الدنيا يعيش الملايين في عشوائيات تمتد على جانبي طرق سريعة في القاهرة أو يلجأون الى المقابر ويشاطرون الاموات مساكنهم اذ لا يجدون أمامهم خيارا أفضل.

بل ان رباب عبد المنعم (30 عاما) وهي أم لثلاثة أبناء ويعمل زوجها في شركة عالمية في مصر تجد أسرتها عاجزة عن تحمل أسعار العقارات في المدن الجديدة.

وقالت "عدد الشقق المعروضة هائل .. خاصة في المدن الجديدة." وتابعت "لكن الاسعار مرتفعة جدا كما أن طرق السداد ليست مناسبة دائما."

ويقول محللون ان الطفرة العقارية التي شهدتها مصر في الفترة من 2004 حتى 2008 والتي وفرت منازل للطبقة الغنية ساعدت على صمود البلاد في وجه الركود العالمي. لكن تخمة المساكن الفاخرة التي يجري تسليمها حتى عام 2011 تعني أنه ينبغي لشركات التطوير العقاري التحول الى الاسكان المتوسط لمواصلة تحقيق الايرادات.

وتقر الشركات العقارية بحاجتها الى تغيير أسلوبها لكنها تشكو من ضالة حجم سوق الاقراض العقاري وهو ما يجعل الاقتراض صعبا على غير الاغنياء فضلا عن خلاف قانوني بشأن بيع أراضي الدولة جعل الشركات قلقة من المشروعات الجديدة.

وقال ماهر مقصود الرئيس التنفيذي لشركة السادس من أكتوبر للتنمية والاستثمار (سوديك) لرويترز " أي شركة عقارية (يجب) أن تدرك أنها اذا لم تشارك في غضون خمس سنوات من الان بشكل أساسي في اسكان متوسط مدعوم بسوق اقراض عقاري قوية فستفوتها الكعكة."

وبدأت بعض الشركات بناء وحدات صغيرة لكن السعر يتراوح غالبا بين 500 ألف جنيه و1.5 مليون جنيه (87 ألف دولار و260 ألف دولار).

ويعتبر هذا السعر معقولا في بلدان كثيرة لكنه ليس في متناول غالبية السكان في مصر حيث تقدر بيانات الامم المتحدة نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي سنويا بعشرة الاف جنيه أو 1780 دولارا.

وحتى الاسر متوسطة الدخل مثل أسرة رباب تواجه صعوبة في الحصول على هذه المبالغ في ظل محدودية خيارات وخدمات الاقراض العقاري.

ويقدر بنك الاستثمار نعيم الطلب السنوي من الفئة التي يصنفها بمتوسطة الدخل بنحو 200 ألف منزل. وتشمل هذه الفئة من يتراوح دخلهم السنوي بين 27 ألفا و203 الاف جنيه.

وقال باتريك جافني المحلل العقاري لدى اتش.اس.بي.سي "لم تتمكن شركات التطوير من التوصل الى النموذج الصحيح لبناء اسكان ميسور التكلفة." وأردف يقول "لكن لا بد أن يخدموا متوسطي الدخل لانه اذا كانت هناك دائما مبيعات في الطبقة الغنية فان حجمها لن يكون كبيرا بنفس القدر."

وأحد سبل اطلاق سوق الاسكان المتوسط يكمن في زيادة الاقراض العقاري. ويشكل الاقراض العقاري أقل من نصف في المئة من الناتج المحلي الاجمالي في مصر مقارنة مع 14 بالمئة في المغرب وأكثر من 80 بالمئة في بريطانيا في عام 2008.

ويبلغ اجمالي القروض العقارية في مصر 4.5 مليار جنيه ولا يتعدى عدد العملاء 75 ألفا.

وقال ياسين منصور رئيس مجلس الادارة والرئيس التنفيذي لشركة بالم هيلز للتعمير "هذا (رقم) لا يذكر. انه يعادل مبيعات شركة واحدة في عام ... يجب أن ينمو الاقراض العقاري."

وقد تبدأ القوانين الجديدة التي تعدها الحكومة في معالجة بعض المشكلات التي يشكو منها المقرضون. وستسمح للمؤسسات مثلا بطرد من يتخلف عن سداد القروض في غضون ستة أو سبعة أشهر مقارنة مع سبع سنوات وفقا للنظام الحالي.

لكن ثمة عقبات أخرى لم تذلل بعد. وقالت ايمان اسماعيل العضو المنتدب للشركة المصرية لاعادة التمويل العقاري ان العقارات المسجلة في مصر أقل من 30 بالمئة وهذه مشكلة للمقرضين الذين يريدون الاحتفاظ بصكوك ملكية المنزل كضمان للقرض.

ويقول محللون انه لا بد أيضا أن يتغير نهج البنوك المتحفظة التي تضع فائدة تصل الى 13 أو 14 بالمئة وهي مرتفعة جدا حتى للعملاء أصحاب الاجور المرتفعة مثل عمرو أمين وهو خريج احدى الجامعات الكبرى ويعمل بوظيفة دائمة.

وقال أمين الذي لجأ الى أسرته لمساعدته في شراء شقة "البنوك تفرض فوائد مرتفعة كان يمكن أن ترهقني جدا."

وباتت شركة أوراسكوم القابضة للتنمية رائدة في مجال الاسكان منخفض التكلفة من خلال مشروع هرم سيتي الواقع قرب أهرام الجيزة. ويستهدف المشروع اسكان 25 ألف شخص في 11 ألف وحدة.

وقال عمر الهيتمي العضو المنتدب لاوراسكوم للاسكان التعاوني التابعة لاوراسكوم القابضة للتنمية "نموذج أعمالنا يحتاج الى نمو سوق الاقراض العقاري لكي يستنسخه اخرون."

ومن المستحيل تقريبا أن ينعم المرأ بالهدوء في القاهرة وسط أبواق السيارات والاصوات المرتفعة وصخب الملايين الذين يسكنون واحدة من أكبر مدن العالم.

ويريد السكان الذين يضطرون أحيانا الى الدوران حول المبنى الذي يقيمون فيه أكثر من مرة للعثور على مكان لايقاف السيارة أسفله أن يخرجوا من العاصمة المكتظة والخانقة والتي تحتجب فيها الشمس بطبقة رمادية من الملوثات.

وتعرض الشركات العقارية التي تسعى للاستفادة من خطة حكومية لبناء تسع مدن صغيرة في الصحراء اعلانات تصور أطفالا يركضون في جو مثالي امن ونظيف وهي صورة مناقضة تماما لشوراع القاهرة.

لكن الشركات أصبحت أكثر حذرا ازاء اقامة أي مشروعات جديدة بسبب موجة دعاوى قضائية تطعن في بيع أراض مملوكة للدولة. وثارت هذه الموجة بعدما قضت محكمة في يونيو حزيران ببطلان عقد بيع أرض مشروع " مدينتي" التابع لمجموعة طلعت مصطفى لعدم طرحها في مزاد.

وقالت الحكومة انها ستحترم الحكم وتلغي العقد الاصلي لكنها ستعيد تخصيص الارض لمجموعة طلعت مصطفى استنادا الى حقها في التصرف وفقا للصالح العام. ورحب المستثمرون بهذا التدخل العاجل لكن هذا لم يحل دون رفع قضايا مماثلة. وقال منصور رئيس بالم هيلز "حكم المحكمة يفتح حقا أبواب الجحيم."

وأقيمت دعاوى قضايا ضد شركات من بينها بالم هيلز والمصرية للمنتجعات السياحية. وتعهدت الحكومة بصياغة تشريع جديد يهدف الى انهاء الفوضى الناجمة عن وجود قانونين متعارضين يسمح أحدهما للدولة ببيع الارض مباشرة للمطورين بينما يقول الاخر انه يتعين بيعها في مزاد. لكن التشريع سينتظر البرلمان الجديد بعد الانتخابات المقررة في 28 نوفمبر تشرين الثاني.

وقال جافني من اتش.اس.بي.سي "أعتقد أن الحكومة ستصلح الامر لكن أظن أنها ستكون أبطأ مما يتوقع الجميع. الامر معقد للغاية وينطوي على حساسية سياسية شديدة.. ثمة أمور قليلة جدا ذات طبيعة سياسية مثل الاراضي."

وليس ثمة شك في أن الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم سيفوز في الانتخابات لكن البرلمان الجديد قد لا يسارع الى اقرار مثل هذا القانون الذي ينظر اليه باعتباره يخدم نخبة رجال الاعمال الذين يرى عامة المصريين أنهم المستفيد الرئيسي من تحرير الاقتصاد.

وقال ديفيد نبيل (25 عاما) الذي يعمل منسقا للاغاني في الحفلات ويكسب 900 جنيه شهريا وهو ما يجعله من فئة محدودي الدخل "أريد أن أتزوج وأريد الحصول على شقة. أطالع الاعلانات المبوبة وأرى الكثير من الفيلات."

ويبحث نبيل عن شقة منذ ثلاث سنوات لكن المتاح خارج متناوله. وكانت أفضل فرصة وجدها حتى الان في الشرابية أحد الاحياء الفقيرة في القاهرة. لكن حتى في هذا الحي تباع الشقة بنحو 200 ألف جنيه أو حوالي 35 ألف دولار وهو ما يتجاوز امكاناته بكثير. وقال "لن أكذب عليك.. بلدنا تملك المال .. وتملك العقارات لكنها ليست لنا."

الحد الادني للاجور

من جهة اخرى بعد معركة قضائية طويلة واحتجاجات متعددة، وضع المجلس القومي للاجور في مصر حدا ادني للاجور في القطاع الخاص يكاد يتخطى حد الفقر ما دعا ممثلي العمال ومنظمات المجتمع المدني الى اللجوء للقضاء مجددا لالزام السلطات بمراجعة قرارها.

في نهاية تشرين الاول/اكتوبر الماضي، امرت المحكمة الادارية العليا الحكومة المصرية بوضع حد ادنى جديد للاجور اذ ان اخر قرار رسمى بهذا الشأن صدر في 1984 اي قبل اكثر من ربع قرن وحدد اقل اجر للعامل ب35 جنيها شهريا (5,4 دولار).

وقرر المجلس الاعلى للاجور بعد بضعة ايام وضع حد ادنى جديد للاجور هو 400 جنيه اي 69,1 دولار شهريا وهو ما يعادل 2,3 دولار يوميا في حين يعتبر البنك الدولي ان حد الفقر هو دولارين للفرد يوميا.

وكان المجلس الاعلى للاجور انشئ في 2003 من اجل وضع حد ادنى للاجور ومراجعته بصفة دورية كل ثلاث سنوات ولكنه لم يقم بالمهمة الموكلة اليه الا بعد حكم المحكمة الادارية العليا.

ورفضت الحكومة مطالب منظمات المجتمع المدني برفع هذا الحد الى 1200 جنيه شهريا مبررة ذلك برغبتها في لجم التضخم الذي بلغ معدله السنوى في تشرين الاول/اكتوبر الماضي 11,02 بالمئة، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء.

وقال رئيس الوزراء احمد نظيف انه لا يمكن زيادة الحد الادني للاجور عن هذا الرقم لان ذلك "سيؤدي الى ارتفاع نسبة التضخم".

واوضح مسؤولون حكوميون هذا الموقف مشيرين الى ان ارتفاع الاجور يعني زيادة السيولة في السوق في حين يبقي معدل الانتاج بلا تغيير وبالتالي ترتفع الاسعار ومعها نسبة التضخم.

الا ان عددا من الخبراء الاقتصاديين اعترضوا على هذه الحجة. وقال مستشار معهد التخطيط القومي (هيئة استشارية تابعة لوزارة التنمية الاقتصادية) ابراهيم العيسوى في ندوة نظمتها نقابة الصحافيين المصرية انه "اذا تم تمويل زيادة الاجور من موارد حقيقية فلن يؤدي ذلك الى تضخم". بحسب فرانس برس.

واضاف ان "هذه الموارد الحقيقية يمكن ان تأتي من فرض ضرائب تصاعدية بدلا من الضريبة الموحدة التي تساوى بين الموظف ورجل الاعمال وتفرض على كل منهما ان يدفع 20% من دخله رغم الفوارق الضخمة في حجم دخليهما".

وايد الاستاذ في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جودة عبد الخالق هذا الرأي. وقال لصحف مصرية ان "التضخم يزيد في كل الاحوال من دون زيادة الحد الادني للاجور".

واكد المحامي خالد علي مدير المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية المنظمة غير الحكومية التي اقامت الدعوى امام القضاء للمطالبة بوضع حد ادني للاجور "في الولايات المتحدة يكسب العامل ما بين ثمانية دولارات 14 دولارا في الساعة اما في مصر في مصر فان العامل يكافح من اجل الحصول على ثمانية دولارات في اليوم". ولاتزال معركة الحد الادني للاجور مفتوحة.

فقد اعلن ممثل العمال في المجلس الاعلى للاجور عبد الرحمن خير اعتراضه على قرار المجلس بان يكون الحد الادني للاجور 400 جنيه وطالب بان يكون 500 جنيه للعامل غير الماهر و750 جنيها للعامل نصف الماهر والف جنيه للعامل الماهر.

ونقلت الصحف المصرية عن خير انه اقام دعوى امام القضاء الاداري لالزام المجلس الاعلى للاجور بمراجعة قراره واعتماد مطلب ممثلي العمال.

ويؤكد مدير المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية انه اقام هو الاخر "دعوى جديدة امام القضاء الادراي يطالب فيها بتحديد المعايير التي يتم على اساسها احتساب الحد الادني للاجور".

وشهدت مصر التي يعيش اربعون بالمئة من سكانها البالغ عددهم 80 مليونا، تظاهرات عديدة هذا العام احتجاجا على تدني الاجور وارتفاع تكاليف المعيشة. وافترش مئات من العمال والموظفين لمدة شهرين الرصيف المقابل لمبنى مجلس الشعب المصري للمطالبة برفع مرتباتهم وتحسين شروط عملهم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 2/كانون الثاني/2011 - 26/محرم/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م