لازالت تسريبات ويكيلكس, تثير الكثير من ردود الفعل المتباينة سواء
على المستوى الدبلوماسي أو السياسي.. فلآلاف الوثائق الأمريكية التي
نشرها موقع ويكيكلس , أبانت بعض المعلومات والأفكار المتداولة على نطاق
خاص, إلا أن نشر هذه الوثائق, والتي تضمنت مواقف ومعلومات خاصة, أدخل
الدبلوماسية الأميركية في مأزق جديد..
حيث وضحت هذه الوثائق, بعض مؤامرات الولايات المتحدة الأمريكية,
وبعضها الآخر التقويم الأمريكي الخاص لبعض الأحداث والشخصيات, ووثائق
أخرى أبرزت بعض المخططات التي تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على
تنفيذها سواء في منطقة الشرق الأوسط أو في مناطق أخرى من العالم..
ومن خلال هذه التسريبات, توضحت العديد من القضايا الغامضة أو
المجهولة, وربطت بين حلقات تتجلى من خلالها بعض الحقائق السياسية أو
الأمنية أو الاقتصادية ونحن وبعيدا عن مضمون هذه المراسلات الخاصة
والدبلوماسية, وما هي الدوافع الحقيقية لصاحب الموقع لتسريب هذه
الوثائق التي يصل عددها إلى ( 250) ألف مراسلة ووثيقة, وهل هذه
المراسلات, تعبر بدقة عن رأي وسياسية الإدارة الأمريكية أم لا..
أقول بعيدا عن كل هذا, فإن هذه التسريبات, واطلاعنا على مضمون أو
خلاصة بعض هذه المراسلات, يدفعنا إلى ضرورة التفكير في أخذ العبر
والدروس مما جرى.. قد لا نمتلك معلومات دقيقة ونهائية عن دوافع التسريب,
كما أننا لم نطلع على كل الوثائق والمراسلات, التي توضح مجمل الصورة
السياسية أو الدبلوماسية..
إلا أننا نستطيع من خلال هذه التسريبات, أن نستفيد الدروس والعبر
سواء على المستوى السياسي والعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية
بين الدول, أو على مستوى الخطاب السياسي المزدوج الذي يطلقه بعض
المسؤولين والدبلوماسيين.. فما هي الدروس والعبر, التي نتعلمها من
تسريبات ويكيكلس..
1- لعل من أهم الدروس المستفادة من تسريبات ويكيلكس, هو أن الخارج
بكل دولة ومؤسساته الدولية, ليس جمعية خيرية, وإنما هي دول ومؤسسات
تتحرك وفق أجندة وخطط مرسومة, تضمن مصالحها وتحافظ على مكاسبها.. وإن
الالتقاء الموضوعي بين المصالح الخارجية والمصالح الداخلية لأي دولة
عربية أو إسلامية, لا يعني المراهنة على الخارج في معالجة المشاكل أو
مواجهة التحديات.. لأن هذه الدول تبحث عن مصالحها الإستراتيجية..
والرهان عليها يعني فيما يعني إخضاع الدولة والمنطقة العربية إلى مصالح
الخارج..
وهذا بطبيعة الحال, يضر بالأمن القومي العربي, كما يضر بالعلاقات
الثنائية بين الدول العربية والإسلامية, ويخضع الجميع لابتزازات الخارج
ورهاناته..
وكل مضمون المراسلات التي كشفت, تثبت بشكل صريح أن هذه الدول مهما
كان خطابها الدعائي والأخلاقي, فهي في حقيقة الأمر, تبحث عن مصالحها,
وتبحث عن الوسائل الممكنة للحفاظ عليها والدفاع عنها..
وإن الرهانات العربية على الخارج, تزيد من أزمات عالمنا العربي,
وتخضعنا للمزيد من الابتزاز والاستئثار فلا رهان حقيقي إلا على أنفسنا,
ووجود مشاكل في دولنا أو تحديات خارجية, يحملنا مسؤولية العمل وفق
إمكاناتنا ومصالحنا الوطنية والقومية لعلاج هذه المشاكل أو مواجهة هذه
التحديات..
وإن تجربتنا المعاصرة في استدعاء الخارج, كانت مكلفة على كل الصعد
والمستويات..
2- لم يعد مجديا عربيا وإسلاميا, التحدث بخطابين.. لأن ثنائية
الخطاب, مهما كانت الفوائد المرحلية التي يحصل عليها صاحب الخطاب, إلا
أنها على المستوى الاستراتيجي وعلى مستوى بناء الصدقية سيكون مكلفا وفي
بعض الأحيان كارثيا.. فما نقوله إلى شعبنا هو الذي ينبغي أن نقوله
للأطراف الإقليمية أو الدولية.. لأن وجود الثنائية في الخطاب على
المستوى الخاص والدبلوماسي وعلى المستوى العام والإعلامي, سيكلف صاحب
الثنائية في الخطاب الكثير على المستويات السياسية والأخلاقية
والاجتماعية..
فتسريبات ويكيلكس , تقلل من فرص بقاء الأسرار.. وبدل أن يكون المرء
أسير أقواله, فإن الأجدى والأنفع له , هو أن يتحد في أقواله الخاصة
والعامة, ويقلل من إمكانية التناقض والتضاد, بين مايقوله في الغرف
المغلقة وما يقوله في الهواء الطلق..
فالمسافة بينهما وفق تجربة ويكيلكس قليلة.. ولامناص من اكتشافها..
ويبقى التوقف عن ثنائية الخطاب هو الأصح والأجدى على كل المستويات..
فالازدواجية في الخطاب العربي, لم تعد مجدية, ومن المناسب للجميع
تبني خطاب سياسي واحد، بعيد عن الثنائية والازدواجية.. فالخطاب الناقد
والناقم من الغرب في العلن, والممالئ له في السر, لا يؤسس لعلاقات
متوازنة مع الغرب. بل على العكس من ذلك تماما.. إذ إن الازدواج في
الخطاب, سيوفر للغرب إمكانية إضافية للحصول على مكاسب إضافية بدون أدنى
مقابل..
3- يبدو من العديد من مضمون المراسلات والوثائق التي كشف عنها موقع
ويكيلكس, أن العلاقات الدولية ليست قائمة على مواثيق الأمم المتحدة أو
الشرعات الدولية المختلفة, وإنما هي قائمة على الإرادات المتنازعة أو
المتصارعة, وعلى السعي الحثيث لكل دولة للوصول إلى مصالحها
الإستراتيجية بصرف النظر عن الطريق الموصل إلى هذه المصالح..
فهذه الدول التي تعلن صباح مساء, التزامها بالمواثيق والأعراف
الدولية, هي في حقيقية الأمر تنتهك بشكل يومي هذه المواثيق والاتفاقات
الدولية..
فعالم العلاقات الدولية, ليس قائما على المبادئ والمثل الإنسانية,
وإنما على المصالح والقوى الذاتية لكل دولة لفرض أجندتها ومصالحها..
لهذا فإننا لن نتمكن من الحفاظ على مصالحنا العليا والإستراتيجية, بدون
بناء قوتنا النوعية, حتى نتمكن من الدفاع عن مصالحنا ومنع أي طرف من
الاعتداء علينا.. وبوابة القوة النوعية لمجتمعاتنا العربية والإسلامية
هي الإسراع في الانخراط في مشروع المصالحة التاريخية بين الدولة
والمجتمع في المجال العربي والإسلامي..
فهذه التسوية التاريخية, هي التي تخلق المناخ المفضي إلى تجميع كل
عناصر القوة الموجودة في إطار مشروع وطني متكامل, يحفظ المنجزات, ويطور
الأوضاع, ويحول دون الاختراقات الأجنبية لمصالحنا وأمننا القومي.. |