هل هم بحاجة الى اعادة بناء النفس؟ هل اعادة المباني و الشوارع
والارصفة ضرورة ملحة لتقارن مع ما وصلت اليه على الاقل دول الجوار من
نمو في جغرافية المدن والتخطيط الحضري؟
لا يخالفني الكثير من العقلاء فيما اذهب اليه بإن اعادة جغرافية
الفكر لدى العراقيين اهم بكثير من اعادة اعمار الارصفة وزروقتها
والمباني ونقوشها ووضع المرايا على واجهاتها وتبقى مشكلة اللاتزامن بين
المباني والارصفة والسيارات الحديثة من جانب والسلوك الفردي من جانب
آخر هي المشكلة الاعظم.
دعونا نغوص في غمار هذه السيكولوجية عبر مفهوم ربما يبدو غريبا عن
مخيلة الكثير منا، انه مفهوم اللاتزامن في السلوك بين ما وصلت اليه
الحضارة في بعض الدول المجاورة للعراق في المباني والشوارع والمطارات
حتى جعلوا الاخضر هو السائد في الصحراء القاحلة، انه رائع حقا وبلا
مقارنة حينما استطاعوا ان يحولوا الصحراء الى خضار نضر بكل تكنولوجيا
العالم المتقدم، لكنهم نسوا ان بناء الانسان اصعب بكثير في ان يتناغم
في سلوكه مع هذه التطورات المتنوعة في الشوارع والابنية والطرقات، انهم
يتركونها ويتخذوا اطراف الصحراء لبناء الخيام وبحضور الجمال"النوق"
والماعز والاستماع الى اصوات هذه الحيوانات مع الجلسات العائلية
المغلقة او التباحث في شؤون الدولة وادارتها مع افراد الاسرة..
انه اللاتزامن بالسلوك والتعامل مع هذه التطورات حتى وان ملكوا
المليارات او احدث الطائرات او اغلى المجوهرات تبقى الثغرة الحضارية
فجوة بين الجديد والقديم رغم اننا نقول دائما ان الجديد يولد من رحم
القديم ويتخلق من خلاله.
هل العراق سيتجه للبناء كما فعلت بعض دول الاشقاء ونجحت فعلا؟ يبني
المباني وتصبح شاهقة لامعة بما استوردت من حضارة.. ولايستطيع ان يصنع
ابرة خياطة كما فعل من سبقونا. يستورد اصغر الاشياء ولايفكر بصناعتها،
دعونا نختلف عنهم في اعادة بناء جغرافية الفكر لا جغرافية المدن، اعادة
بناء الانسان لا بناء العمارات الشاهقة والحدائق الغناء بالمليارات..
هدمتنا الحروب وتركت في نفوسنا الطائفية ولوثتنا سمعة المقاومات
والتغيير وتركنا الانسان حائر بين ان يقارن وضعه بين مباني دبي وبين
الرغبة في الخلاص هروبا من هذا الواقع المرير.
فلنبدأ ببناء الانسان اولا قبل المباني الحديثة كما فعل غيرنا او
يساير بناء الانسان بناء البنى التحتي للمنشأت، فإن بناء الانسان
والغور في اعماقه هو من اصعب البناءات ولايوجد منهج مماثل لمنهج بناء
الانسان العراقي نستطيع ان نستورده او نقارنه، وانه لخطأ صارخ اذا ما
اردنا ان نبني الفرد العراقي بمنهج بناء دبي او دول الجوار.
ان في العراق تراكمات كمية في النفس جعلت العراقي يخطو نحو
الاختلاف النوعي حتى مع نفسه، انه يحتاج الى جغرافية في اعادة الفكر
وليس في جغرافية اعادة المدن، لايزال ذهن العراقي يتفتق في عشق التعذيب
بجميع صوره واشكاله، فردية وجماعية ويكفي ما تطالعنا به الاخبار
والفضائيات ووسائل الاعلام عن استمرار فكرة تسلط المسؤول او الفرد
المحسوب على جماعة ينتمي اليها في العراق.
انها بقايا ملوثات الفكر الدكتاتوري البغيض الذي حكم العراق اربعة
عقود بالدم والحديد وتصفية من يفكر. ألا يحتاج الانسان العراقي الى
اعادة بناءه النفسي؟
يعني مفهوم اللاتزامن الذي نطرحه هنا وسبق وان طرحناه في كتابنا
المنشور على الانترنيت "سيكولوجية الشخصية" للكاتب "د. اسعد الامارة"
بأن التوافق في الشخصية لا يتم إلا من خلال التزامن بين السلوك اليومي
للفرد وتعامله والتطورات الحديثة في التحضر واستيراد السيارات الفاخرة
والحديثة مع تكنولوجيا التقدم في الاجهزة، إذن التحضر في السلوك اولا،
لا التحضر في بناء المباني والشوارع واستخدام التكنولوجيا ويبقى
الانسان خاوي من الداخل، هذه فجوة دول الشمال ودول الجنوب في العالم.
يحتاج العراق الى بناء النفس العراقية التي دمرتها الحروب والحصار
وسنوات السبع العجاف بعد انهيار الدكتاتورية، إما آن الاوان لاصلاح
النفس العراقية الجريحة وبناءها؟ ما هي المساعدة التي ينتظرها العراقي
الذي تعرض للكوارث وسببت الخلل النفسي ومعاناته من الصدمات والازمات
النفسية؟
إذا تأملنا مفهوم البناء النفسي عند العراقيين وجدناه يثير مشكلة هي
محور التفكير الحالي لان تراكمات العقود الاربعة الماضية للفرد العراقي
مزيجا من المعرفة والجهل؟ اليس التدهور في الشخصية العراقية سببه
تراكمت السياسة الفردية خلال عقود الدكتاتورية وما تبعتها من فوضى في
ادارة البلد؟ أليس البناء النفسي للانسان العراقي وسيلة للسيطرة على
الاشياء ومنه تنطلق معالجة مشكلات الحياة المادية والمعنوية
والاجتماعية واعادة بناء الاسرة من جديد؟ أليس العراقي يعاني من الشقاء
بسبب الفوضى في الادارة وهو اختلال البناء النفسي حتى اصبح يخلط بين
الذاتية والموضوعية، بين الوطنية والفردية، بين ما حرم منه وهو حقه،
وبين حق الدولة وحق المجتمع.
اننا هنا لا نقصد معالجة المضطربين فحسب بل الاسوياء ممن لم يبرأوا
من اختلال الادارة الفاسدة والفوضوية حتى صاروا جزءا مكملا لها ومساندا
في استمرارها وتشبثوا بمبدأ الحصول على المكتسبات المادية والاراضي
وسلب حقوق الغير لانها فرصة لم ولن تأتي مرتين وهي من ميراث نظام
الدكتاتور المقبور.
ان البناء النفسي للانسان يدفع الى تطور المجتمع بأسره وملاحقة تطور
المجتمعات التي سبقتنا لا بالابنية والشوارع فحسب بل في البناء النفسي
ويمكننا ان نقول ان ميلاد عقل جديد هو ميلاد وعي جديد، هذا الوعي يميز
صاحبه بالثراء اللافت بأدواته وحرفياته واساليبه العقلية والفكرية في
التعامل اليومي وفي الادارة وفي داخل الاسرة وفي التدريس واساليبه التي
باتت بالية في العراق اليوم وهو الحال ذاته في مجالات العلاج الطبي وفي
مسارات الحياة الاخرى.
ان البناء النفسي للفرد العراقي لا نقصد به العلاج السحري للذات
المتعبة ولا هو الخيال الذي يكافئ الواقع والنية تساوي الفعل كما يعتقد
البعض وحتى السياسيين الجدد في العراق اليوم وخلاصة قولنا ان العراقي
الجديد بعد كل هذه المخاضات المدمرة التي مر بها هو العراقي العاقل
الذي ارادوا به التجاهل والاغفال عبر اربعة عقود مضت..
وعملية البناء النفسي المقصود هي ان تقوم على ان الانسان الذي علينا
ان نبنيه ان يرى وأن يتحول مايراه إلى رؤية ثم الى رأي وليعلم ان العين
التي ترى هي عين العقل، عين الفهم والوعي والحكم، والحكم هو فعل من
افعال العقل، فلنبني العقل ومعه تبنى النفس.
* باحث في علم النفس
استاذ في الاكاديمية الاسكندنافية الامريكية
elemara_32@hotmail.com |