نسائم الايمان

قراءة في محاضرة للمرجع الديني السيد صادق الشيرازي

محمد الصفار

 

شبكة النبأ: لعل ابلغ وصف يمكن ان يوصف هذا الكتاب الذي جمع بين دفتيه روائع الحكمة ودروس الوعظ وغاية العبرة، اضافة الى الهدف السامي الذي يتلخص منها وهو الارتقاء بالإنسان الى مستوى النموذج هو ما عنونه مؤلفه اية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) بـ(نفحات الهداية).

فهذا الكتاب الذي يضم مجموعة محاضرات قيمة بلغت (24)محاضرة هي اضافة الى كونها باقات روحية ونسائم ايمانية، فهي ايضا ومضات هداية في طريق الانسان وطاقات توجيهية تلهمه مبادئ الصلاح والاصلاح في جميع ميادين السلوك الانساني والتفكير البشري على ضوء المنهج الاسلامي الرشيد والاهتداء بسيرة النبي الاكرم (ص) والائمة الطاهرين (ع).

فجاءت هذه المحاضرات مفعمة بالحس الديني الصادق والعقيدة الخالصة والايمان المطلق بان الاسلام هو افضل معبر عن جميع القيم الانسانية المثلى واهدافها العليا.. وعلى هذا الضوء كانت هذه (النفحات) أضواء من نفحات الازهار التي تفنى بذبول الازهار ويذوب اريجها مع هبوب الرياح انها نفحات روحية تحيا مع الروح في اشراق دائم، وهي اشراقات سرمدية لا يخبو شعاعها مع تغير الزمان والمكان تضيء بنور الاسلام وتتوهج بالق الايمان فتسقي منه ملامح رونقها وبهائها.

اعتمد المؤلف (دام ظله) في هذه المحاضرات الاسلوب المبسط والمعنى الواضح مع عمق في الدلالة ورؤية رحبة في المضمون وسنستعرض هنا اهم المحاور التي دارت عليها محاضرته الاولى وابرز الافكار التي تطرق اليها فهذه المحاضرة التي القيت في 28 صفر عام 1423 في ذكرى شهادة الرسول الاعظم محمد (ص)، تركز الحديث فيها حول الرجوع الى الاسلام الحقيقي ونهجه القويم الذي تجسد في شريعة النبي الاكرم (ص) ونهج الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) وقد استعرض السيد الشيرازي (دام ظله) بعض تعاليم الرسول العظيم وسياسته في بناء نواة الدولة الاسلامية المباركة مبينا قوانين الشريعة السمحاء والسنة المطهرة التي جاء بها الاسلام والتي طبقها الامام امير المؤمنين (ع) في نهجه ايام خلافته.

ثم تطرق (دام ظله) الى ما حققه هذا النهج العظيم في صدر الاسلام فكان الكثير من الناس يدخلون الاسلام لما وجدوا فيه من التسامح والمحبة والصدق والطمأنينة والسلام وغيرها من الاهداف الانسانية التي كانت كل ما يطمح اليه هؤلاء، والتي تحققت في ظل الاسلام وقد اشار (دام ظله) الى ذلك النجاح بقوله: (وهو تأويل قوله الله عز وجل - (ورأيت الناس يدخلون في دين الله افواجا). ثم وجه دعوته لقراءة واستيعاب ذلك النهج العظيم من خلال الاطلاع على تاريخ نبي الاسلام (ص) وسيرته العطرة المليئة بالمبادئ العظيمة التي رسمت للبشرية الاهداف السامية التي ينشدها الانسان من كرامة وحرية ومساواة.

فدخول الناس في الاسلام افواجا لم يكن بالقوة ولا بالترهيب بل كان ثمرة ذلك النهج القويم الوضاء, وهنا يكمن الهدف من دعوته (دام ظله) من الرجوع الى ذلك النهج فكما اثمر في ذلك الوقت فان الالتزام به في الوقت الحاضر وتطبيق مبادئه وبث تعاليمه سيثمر لو عمل الانسان به واقتدى بسيرة النبي (ص) والائمة الطاهرين، الذين مثلوا الامتداد الطبيعي لمنهج الرسول محمد (ص) كما ان ثمرة عمله لن يجنيها هو فحسب، بل ستكون خيراتها على الجميع مسلمين وغيرهم.

كما بين ذلك (دام ظله) بقوله: (فاذا ما وجدت اليوم مثل تلك المشاهدات وتلك المسموعات ومثل تلك المعتقدات في اية نقطة في العالم - سواء في الغرب او في الشرق - لإنقاذ الناس الى الاسلام بشوق ورغبة ولا أصبحوا مسلمين، وفي الوقت نفسه لتعزز عزم المسلمين وترسخ اعتقاداتهم ليسعوا حثيثا في هداية الاخرين).

فالتأكيد على ضرورة الاطلاع عن كثب على سيرة الرسول واخلاقه الكريمة كان من صميم دعوته(دام ظله)، لبث هذه السيرة وعرضها على العالم كله لتأثيرها في النفوس، وهدايتهم للإسلام الحقيقي واعطائهم الصورة الحقيقية للإسلام المحمدي والانسجام الطبيعي بين شرائعه وقوانينه، وخلق مجتمع مثالي قائم على مبادئ الحرية والسلام.

فهذه الدعوة التي وجهها المرجع الشيرازي (دام ظله) للتعرف على الاسلام الحقيقي تأتي في الوقت الذي نحتاجه نحن المسلمون وغيرنا من الاديان الاخرى، للعيش بسلام بعد ان قدم الوهابيون والتكفيريون صورة بشعة وقاسية للإسلام، ومارسوا العدوانية والمكر والتضليل وقتل الابرياء باسم الاسلام.

لهذا كانت دعوته الى التزام سيرة الرسول (ص) والائمة الطاهرين (ع) وعرضها على العالم في كل البقاع وعلى مختلف الاديان، اضافة الى المسلمين انفسهم لما فيه من تعزيز لدينهم ويقينا بعقيدتهم. فكان من قوله: (ان حياة النبي الاكرم "ص" تزخر بالكثير من النماذج المؤثرة فأقرأوا تاريخه (ص) وقوموا بعرض العشرات من النماذج على النصارى واليهود والمشركين والملاحدة، عندها سترون اسلامهم كما ان اي مسلم سيعزز ايمانه وسيكون سببا لهداية الاخرين بعد الاطلاع عليها).

فالمغزى الذي توخاه المرجع (دام ظله) من هذه الدعوة الى الرجوع الى صدر الاسلام ومعرفة منهجه الامثل والاقتداء بسيرة سيد الخلق (ص) واهل بيته الطاهرين (ع)، هو قشع ذلك التوجس الذي خلفه الدعاة المزيفون للإسلام من التكفيريين والارهابيين في اذهان العالم نحو الاسلام بأعمالهم المنافية لروح الاسلام وجوهره، وتقديم صورته الناصعة التي هي الامل المنشود لكل المجتمعات في تحقيق سعادة الانسان في الدارين.

فتاريخه (ص) وسيرته في متناول الجميع وليست حكرا على احد والكثير من علماء الغرب ومفكريهم اهتدوا الى الاسلام عن طريق الاطلاع على هذه الشخصية، التي هي اعظم شخصية في تاريخ الوجود، وكانت هذه الدعوة هو ما داب عليه ايضا المرجع الديني سماحة اية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره الشريف)، فقد كان يؤكد على مخاطبيه خلال احاديثه وكتبه ان يقرو تاريخ نبي الاسلام (ليكتشفوا الجوانب العظيمة فيه).

يقول "دام ظله": (لو طبقتم ذات المناهج الذي كان في صدر الاسلام داخل اسركم فان جيرانكم واقاربكم والذين لديكم معهم روابط اسرية سيحصل لديهم الاعتقاد بالتدرج لو كانوا كفارا فسيصبحون مسلمين ولو كانوا غير محبين لأهل البيت (ع) فسيصبحون من محبيهم ولو كانوا كفارا غير متدينين فسيصبحون متدينين ذلك لان مناهج الاسلام واحكامه وقوانينه عظيمة ورائعة).

ثم يقدم نموذجا واحدا من تعاليم وقوانين الشريعة السمحاء التي جاء بها الرسول محمد (ص) وهذا النموذج في مجال الضمان الاجتماعي الذي جاء في مضمون الحديث الشريف: (من ترك دينا او ضياعا فعلي، ومن ترك مالا فلورثته).

فهذا القانون الذي لم يعرف له الوجود مثيلا في كل بقاع الدنيا في كل العصور لم يطبق الا في الاسلام فلم يعرف ان بلدا في وقت من الاوقات تبني مثل هذا القانون الذي يتكفل بديون الفرد ويبقي على تركته كلها لورثته بدون اي ضريبة على الارث، وهذا المثال الرائع الذي ضربه السيد صادق الشيرازي (دام ظله) من اروع الامثلة التي تناسب هذا الزمن ينبع من فهم تنويري للإسلام المتجدد الذي هو الحل الامثل لكل مشاكل العصور.

فالإسلام رفع الجور والظلم عن الفقراء والمستضعفين وحارب التفاوت الطبقي ووضع هذه القوانين الرائعة في الدفاع عن الانسان في حق الوجود والكرامة والعيش الكريم ولم يقتصر مفعول هذا القانون على حياة النبي (ص) فقد فرضه الاسلام على امام المسلمين واوصى الرسول (ص) بالعمل به من بعده فقال: (فعلى الامام ان يقضيه فان لم يفعل فعليه اثم ذلك).

ولكن هل طبق هذا القانون بعد الرسول؟ اظن انه من البديهي ان القارئ يعرف الجواب جيدا لقد تصدى لأمور المسلمين بعد النبي (ص) من وصفه امير المؤمنين (ع) بقوله: (ثم قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه وقام معه بنو ابيه يخضمون مال الله خضم الابل نبتة الربيع). وتصدى لأمور المسلمين من يقول: (انما السواد بستان لقريش)، والسواد هو العراق لقد توالت بعد الرسول الاكرم (ص) حكومات جائرة كالأموية والعباسية، ولم تكن تعمل بالمنهج الاسلامي والتاريخ ملئ بأعمالها البشعة من اضطهاد وقمع وتجويع كانوا يمارسونها ضد الامة الاسلامية في حين كان الخليفة واعوانه يعيشون حياة الترف والبذخ و المجون والخلاعة ولا يسعنا هنا ذكر سياستها الفاسدة ولكن سناتي بمثال واحد ليتبين البون الشاسع بين منهج الرسول (ص) وسياسة هذه الدول الجائرة فقد رأى الخليفة هارون الرشيد الغمامة في حال المطر فخاطبها قائلا: (امطري حيث شئت فسيأتيني خراجك).

هذه سياسة هذه الحكومات الفاسدة التي لبست لباس الاسلام وهي ما ادت الى ضعف المسلمين وتنازعهم بسبب عدم العمل بأحكام الاسلام والالتزام بمبادئه السمحاء.

ثم يشير السيد (دام ظله) الى ثمرة العمل بذلك القانون في ذلك الوقت فينقل رواية عن الامام الصادق تقول: (ما كان سبب إسلامة عامة اليهود الا من بعد هذا القول من رسول الله (ص) وانهم امنوا على انفسهم وعلى عيالاتهم).

وربما يعترض القارئ سؤال وهو ان هؤلاء اليهود اسلموا طمعا في المال ولكن هناك ابعاد اخرى لإسلامهم يوضحها السيد (دام ظله) بقوله: (صحيح ان اغلب اولئك اليهود دخلوا الاسلام لأجل المال ولكن ابنائهم وذراريهم راوا النور بين اظهر المسلمين ونشئوا وترعرعوا في كنف الاسلام ولذلك فان عددا من علماء المسلمين من نسل اولئك اليهود انفسهم الذين اسلموا في ذلك اليوم).

فالإسلام هو دين الدنيا كما هو دين الاخرة والاسلام يعني السعادة في الدنيا كما يعني الفوز في الاخرة والاسلام هو دين الضمان الاجتماعي والمجتمع المثالي والانسان الكريم ثم تتجلى الحكمة بالبالغة في المحاضرة حينما يتطرق السيد (دام ظله) الى ذكر الامام الحسين (ع) وكربلاء.

فالرجوع الى ثورة الحسين يلتقي مع الرجوع الى الاسلام الحقيقي وتعاليمه ومنهجه كما يعني كشف تلك الحكومات الفاسدة التي خرجت على هذه التعاليم وسعت الى مواجهتها وتغييرها فكان الحسين (ع) اسلاما متجددا على مر العصور واحياء هذه الذكرى هو احياء للإسلام الحقيقي فيقدم السيد (دام ظله) وصيتين طلب من سامعيه العمل بهما الاولى احياء هذه الثورة المباركة بما استطاع اليه سبيلا من اقامة العزاء والمشاركة في المجالس الحسينية وان لا يقتصر احياؤه هذا على شهري محرم وصفر ولو ان يخصص (ساعة او ساعتين او حتى نصف ساعة) لأجل الإمام الحسين (ع) في منزله الشخصي ولو (بإيقاد شمعة)، واذا حالفكم التوفيق (فادعوا جيرانكم واقاربكم وسائر المؤمنين لمثل هذا الامر).

ولربما سائل يسال لماذا كان هذا الحرص من قبل السيد الشيرازي لهذا الاحياء و ممارسة هذه الشعائر، نقول انه بما تواتر عن النبي (ص) والائمة الطاهرين (ع) من اله ان ذلك كان من وصاياهم والروايات في ذلك كثيرة وفوائد اقامة مثل هذه المراسيم جمة.

ونذكر هنا رواية من هذه الروايات فعن الباقر (ع) انه قال (وليندب الحسين ويبكيه ويأمر من في داره بالبكاء عليه ويقيم في داره مصيبة بإظهار الجزع عليه ويتلاقون بالبكاء عليه بعضهم في البيوت وليعز بعضهم بعضا بمصاب الحسين فانا ضامن على الله لهم اذا فعلوا ذلك ان يعطيهم ثواب الفي حجة وعمرة وغزوة مع رسول الله (ص) والائمة الراشدين).

اما وصيته (دام ظله) الثانية فهي صيانة الشباب والفتيات والعمل على ارشادهم وتوجيههم وتعزيز اعتقادهم وايمانهم بالله والرسول واهل البيت، والتزود من نهج المعصومين الحقيقي بدون افراط ومبالغة فقد يؤدي هذا الافراط بصاحبه الى ان يلعنه المعصومون، وضرب السيد المرجع (دام ظله) لذلك مثلا، وهو محمد بن مقلاص المكنى بابي الخطاب الذي عاش في زمن الامام الصادق (ع) وكان منحرفا مغاليا وبلغ في غلوه ان لبى بإسم الإمام الصادق (ع)، فلعنه الامام وتبرا منه وهذه المسالة من الامور المهمة فقد نشأت مثل هذه الاعتقادات المنحرفة منذ زمن الائمة (ع) كالخطابية والواقفية وغيرها، من الفرق الضالة وامتد بعضها او ما شابهها الى زماننا هذا وبدأت تتغلغل في الكثير من الناس السذج، فيجب تنبيههم وارشادهم وتعريفهم بالأئمة المعصومين (ع)، وانهم (عباد مكرمون) كما قال امير المؤمنين (ع): (لا تتجاوزوا بنا العبودية ثم قولوا فينا ما شئتم ولن تبلغوا واياكم والغلو كغلوا النصارى فاني برئ من الغالين).

لقد قدم السيد الشيرازي (دام ظله) رؤيته البصيرة لفهم مبادئ الاسلام الحقيقية فالاكتساب شخصية اسلامية مكتملة وسلوك فاضل يجب على الانسان الرجوع الى مبادئ الاسلام والاخذ بتعاليمه وشرائعه، كما اوضح ان الاسلام ليس دينا فرديا لا علاقة له بالحياة بل هي في الصميم من العلاقات الانسانية المتبادلة بين الافراد والمجتمعات كما هو المعبر عن جميع القيم الانسانية والاهداف السامية لخلق حياة كريمة حرة مطمئنة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 29/كانون الأول/2010 - 22/محرم/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م