كرة الثلج الانفصالية تتدحرج على خارطة الدول العربية، لكن هذه
المرة تبدأ حركة سيرها من الجنوب وتنتهي في الشمال. والسؤال الذي يحرّك
ضمير كل مواطن عربي هو: هل هناك كرة انفصالية أخرى تتحرك من الشرق
لتنتهي في الغرب؟
وأقصد تحديداً من جنوب اليمن إلى الصحراء المغربية، حيث ترتفع أصوات
تدعو إلى الانفصال وتأسيس كيانين مستقلين. لكن السؤال الذي يجب أن يثار:
ماذا قدمت الحكومات المركزية لأقلياتها من أتباع الديانات الأخرى
والقوميات غير العربية وتحديداً في السودان والعراق؟ منذ ريعان شبابي،
وأنا أسمع عن حروب وتوترات وقصف بالطائرات وارتكاب للمجازر في شمال
العراق وجنوب السودان، تارة باسم الوحدة، وتارة أخرى باسم القومية
العربية. وبموازاة تلك المجازر كانت الأحزاب القومية العربية تصفّق
للحكومات المستبدة في البلدين، وتطالبها بالمزيد من القمع.
الكاتب سمير عطا الله يتكلم عن نفسه فيقول: “طبعاً، وقفتُ في الماضي
ضد انفصال الأكراد، ووقفتُ ضد التقسيميين في لبنان، ووقفتُ ضد جنوب
السودان مع مركزية الشمال. ولكن ألم يحن الوقت للضمير العربي أن يسأل:
ماذا فعلت الخرطوم للجنوب غير الحرب؟ وهل نلوم الأكراد وهم يبنون
كيانهم المنفصل بكل هدوء ودون إعلان؟ ألا يشعر الذين أيّدوا حرب بغداد
على الشمال، ومنهم صاحب هذا القلم، بالعار وضرورة الاعتذار؟ ألم يكن في
قدرة العروبة أن تتسع لكل من هو على أرضها وبين حناياها من أعراق
وأنساب، أم أن العروبة أن نظل في الجاهلية نحارب مئة عام من أجل فرس
ومئة عام أخرى من أجل حصان؟” (الشرق الأوسط 12/12/2010).
إعلان الاعتذار من قبل هذا الكاتب الكبير يعدّ شجاعة أخلاقية
وسياسية والكبير يظل كبيراً مهما أخطأ، فالاعتراف بالخطأ يعتبر فضيلة.
لكن في المقابل، مازالت هناك شريحة من الساسة وكتّاب التيار القومي تحنّ
إلى الماضي الأليم، وتتّهم الأكراد بالعمالة للصهيونية، ومسيحيي الجنوب
السوداني بالعمالة للغرب!! فإذا كانت بالأمس تبرر لجرائم الطغاة في
بغداد والخرطوم ضد الأقليات، فإنها اليوم بمواقفها الدنيئة تشجّع
الحكومات على معاودة الاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان والتمييز تحت
ذريعة السيادة.
فالأولى لهم أن يراجعوا الأسباب التي دعت إلى تمسك تلك الأقليات
بالانفصال بدل الوقوف عند النتائج. في أحدث كتاب صدر له مؤخراً يقول
زعيم حزب الأمة السوداني الصادق المهدي “القومية العربية لم تجد معادلة
مجدية للتعامل مع الإسلام، ولا مع غير العرب من القوميات ولم تفلح في
تقديم أنموذج للحكم الراشد”.
إننا من دون شك نعتقد أن الكيان الصهيوني أكثر المستفيدين من حدوث
انقسام أو انفصال في أي جزء من أجزاء الوطن العربي. فالعناصر
الاستخباراتية الصهيونية مثلما كانت ومازالت متغلغلة في المناطق
المتوترة، فإنها اليوم من دون شك تمارس أنشطتها في معظم عواصمنا.
فلا يجوز رمي الأقليات في بلداننا بالحجارة مادامت بيوتنا من زجاج
أو من فخار. الحروب بين الحكومة المركزية في شمال السودان وبين الأقلية
المسيحية التي تتمركز في الجنوب دامت لسنوات طويلة، وانتهت في العام
2004 بعد إبرام اتفاقية “ميشاكوس” في كينيا بين الحكومة السودانية
والحركة الشعبية لتحرير السودان. علمانية الدولة وحق تقرير المصير
للجنوب كانا أهم بندين في الاتفاقية، وفي حينها عرف الجميع بأن الجنوب
يهيئ نفسه للانفصال عن الشمال بعد الاستفتاء.
وأما في العراق، وبعد سقوط صدام حسين دخل الأكراد كأحد الشركاء في
الحكم، وحصلوا على الكثير من الامتيازات والحقوق التي لم يحلموا بها.
وأثناء كتابة الدستور الجديد كان الأكراد يضغطون لكي يكون النظام
السياسي قائمًا على الفيدرالية، وتتمتع فيها المحافظات والأقاليم
بصلاحيات واسعة، فحصلوا على ما أرادوا. اليوم تعتبر كردستان من أكثر
أقاليم العراق ازدهاراً وأمناً ورخاءً. في 11 من الشهر الجاري وأثناء
حضور معظم قادة العراق في مؤتمر (الحزب الديمقراطي الكردستاني) الذي
عُقِد في أربيل، فاجأ مسعود البارزاني الحضور بقوله: “ان الكُرد كأي
شعب آخر في العالم لهم الحق في تقرير المصير”. طموح كاكا مسعود من دون
شك يصطدم برفض دول الجوار (تركيا وسوريا وإيران)، إضافة إلى رغبة عدد
غير قليل من الفصائل الكُردية التي ترى في بقاء إقليمهم ضمن العراق
الموحّد أفضل للأكراد من تأسيس كيان مستقل.
بدورنا، نتمنّى من البارزاني وحزبه البقاء ضمن الفيدرالية التي دعوا
إليها، التي في ظلها باتت جميع المكونات القومية والدينية تتمتع بحقوق
سياسية وثقافية واسعة. |