يبتلي العالم العربي والاسلامي بأزمات مستفحلة سببها الرئيسي يتمثل
سيطرة الدكتاتورية والحكومات الاستبدادية المرتبطة بالأجندة
الاستعمارية على مقدراتها ولسنوات طويلة، طبيعة الثقافة المتكرسة وعامل
الجهل وقلة الوعي الجمعي مثلت فيما يبدو عناصر مهمة في وجود مثل هكذا
حالات مزمنة سهل على الحكام التلاعب بمقدرات الشعوب ونهبها دون وجود
المعارضة التي تمنع وتقف بالضد من ذلك. هذه الثقافة المتكرسة خلقت قيما
وافكارا متخلفة تكرس حالات الاستلاب والتبعية والخنوع، لذلك فأن نوعية
الثقافة ومستواها تخلق قدر الشعوب وحاضرها ومستقبلها.
الثقافة كلمة لاتينية الأصل مشتقة بدورها من كلمة (colere)، وتعنى (زرع
الأرض) وهو مصطلح مختلف المعاني، ومع ذلك، فإنه يمكن استخدام كلمة (ثقافة)
في التعبير عن أحد الآراء الأساسية التالية:
• التذوق المتميز للفنون الجميلة والعلوم الإنسانية، وهو ما يعرف
أيضا بالثقافة عالية المستوى.
• نمط متكامل من المعرفة البشرية، والاعتقاد والسلوك الذي يعتمد على
قدرة التفكير الرمزي والتعلم الاجتماعي.
• مجموعة من الاتجاهات المشتركة, والقيم, والأهداف، والممارسات التي
تميز مؤسسة أو منظمة أو جماعة ما.
• بناء أساس ومرتكز لتعدد المعلومات وترتيبها وفق أسس عقلية (توالدية).
ان نوعية الثقافة ومستواها هي التي ترسم قدر الامم وتقودا نحو
الهلاك او الحياة بل إن فقدان ثقافات التقدم طالما اوجد سببا لضمور
العديد من الشعوب والحضارات التي لم تستند الى قاعدة علمية رصينة او
التي لم تهتم بثقافة مجتمعها وأبنائها, فكان مصيرها الطبيعي أن تعاني
من الانحدار الفكري والاجتماعي والذوبان في مجرى الحياة الواسع.
الحروب هي أكثر مما يهدد العالم في تصور الكثير وهو أمر ليس بالهين,
إلا إن الحقيقة تقول شيئا آخر، فجميع ما يساق في العالم تكون بدايته
ثقافية فكرية، فكي تمرر مشروعا عسكريا ضد جهة ما أو تجاريا مع أخرى
فلابد لك أن تضع المرتكزات الاقناعية لتهيئة ذهنية عامة تتلقاه
بمقبولية كون طبيعة الإنسان وغريزته تبحث دائما عن معرفة المجهول
وكيفية حدوثه.
ولا نغالي إذا ما قلنا أن لا استبداد ولا فرعنة ولا دكتاتورية لولا
تسلط الجهل وقلة الوعي التي تنتج ثقافة الخنوع والتبعية في المجتمعات
التي يعيشها فيها المستكبرون والا كيف يعقل لإنسان أن يقول لإنسان آخر
(...... قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاّ مَا أَرَى وَمَا
أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) غافر... فالعقلية التي توصل
الإنسان أن ينتدب من يفكر نيابة عنه إنما هو أضل من الأنعام واقل شانا
منها وهذا ما جعل المتسلطين لا يرون إلا الجهل وسيلة لتسلطهم وبقائهم
في سدات الحكم، إضافة لما تقدم فان لقلة الثقافة إفرازات كثيرة منها
ظهور الانحرافات المختلفة والأفكار التافهة والإشاعات المغرضة، كما إن
هنالك علاقة عكسية بين حجم الوعي وحجم الفساد وتردي القيم الخلقية في
المجتمعات.
بينما تكون العلاقة بين الوعي الاجتماعي الذي تمتلكه الناس وبين
القسوة التي يسلطها الحكام والسلطات الدكتاتورية خصوصا، علاقة طردية
فكلما كان الناس أكثر وعيا وتفهم وتفقها في شؤونهم الحياتية عموما كلما
كانت القبضة الحديدة اشد واكبر.
في عصرنا الحالي بدأت الثقافات تتسع بشكل مضطرد الى درجة لا تكاد
تميز بين الغث والسمين نتيجة تطور وسائل الاتصال والبث وهذا ما يلقي
عبئا كبيرا ومشكلة أكثر تعقيدا في صناعة الثقافة الموجهة الصحيحة التي
تفي بشروط الشخصية الإنسانية الناجحة البعيدة عن الابتذال والتسافل،
وفي نفس الوقت تحصينها من (فايروسات) الثقافة الظاهرية القشرية التي لا
تعدو جعل الإنسان مأكلا وملبسا.
النمو في ثقافة المجتمع هي في واقع الحال نهوض بمستويات المجتمع
المختلفة فتغير الحالة التنموية والاقتصادية والعلمية والفكرية
والسياسية وأدلجة اطر التفكير وفق النمطية المعقلنة، بحاجة لتغير في
مستوى تفكير الفرد والمجتمع وهو ما يشكل عاملا واضحا في رسم مستقبل
وحياة الشعوب، كون ثقافة المجتمع هي المسؤولة عن الأنماط السلوكية
والاتجاهات المحركة لأي مجتمع.
ويرى الباحثون بان الثقافة العامة هي في الواقع مجموعة القيم
والتجارب والخبرات التي مر بها ذلك المجتمع وهي تمثل هوية الأجيال
المتعاقبة له, ترافقه ومادته التي تسهل حركته التاريخية فبها ومن
خلالها يعرف ما يحتاج كل زمان ومكان ليتعايش معه.
وهذا ما تترجمه المقولة المشهورة (إذا لم تتغير فمن الممكن أن تفنى)،
وفي نفس الوقت فان التغيير من اجل الإصلاح لا من اجل الفوضى والتهريج
والانحلال.
على ذلك يمكن تقسيم مفهوم الثقافة إلى قسمين:
1- الثقافة الاجتماعية: وهي القدرة على التعايش مع الجماعة
والمساهمة في تكوين البنية الفكرية والعلائق الاجتماعية للمنظومة
البشرية في اطر المجتمعات ومن ثم النهوض به إلى تطور فكري واجتماعي
وعمراني ملموس ونهضة شاملة.
2 - الثقافة الذاتية أو الفردية: وهي تلك الثقافة التنظيرية التي
يمتلك صاحبها مخزونا فكريا وأدبيا وعلميا ومعرفيا ليس بالقليل وهي جزء
لا يفترق عن ثقافة المجتمع العامة بل هي جزء ورافد أساسي له .
يقول الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمه الله) في
كتابه (الصياغة الجديدة):
(...إن لكل مجتمع ملامح وكل مجتمع واصل السير، وأدام قطع المراحل
فهو مجتمع سليم) إذ يجب ملاحظة الروح العامة السائدة في المجتمعات، وهل
إنها مطابقة للمقياس الصحيح أم غير ذلك؟ فإن كانت مطابقة للمقياس
الصحيح كان المجتمع سليماً، وأما إذا لم تكن كذلك كان المجتمع منحرفاً
ومريضاً.
ومن أهم ذاك هو محدودية الثقافة فنقص الثقافة، ولا نقصد نقص ثقافة
خاصة كثقافة الاقتصاد أو ثقافة الاجتماع أو ثقافة التربية أو ثقافة
الجيش أو ثقافة الإمارة أو ثقافة الحكم أو ثقافة الزراعة أو ما أشبه،
وإنما نقصد نقص ثقافة الحياة بمجموعها، فإن من الضروري:
أولاً: أن يعرف الإنسان طبيعته.
وثانياً: أن يعرف ماذا يلائمها، وماذا ينفرها؟
وثالثاً: أن ينظر هل الاجتماع مكوّن من الملائم أو المنافر؟
في عام 2000، التقى قادة العالم في نيويورك وأصدروا إعلان الألفية
الرنان الذي وعد بخفض أعداد أولئك الذين يعانون من الفقر المدقع والجوع
من البشر إلى النصف بحلول عام 2015. كما تعهدوا بخفض أعداد البشر
المحرومين من مياه الشرب الآمنة والصرف الصحي إلى النصف.
ومن المرجح إلى حد كبير أن يفشل قادة العالم بحلول عام 2015 في
الوفاء بوعودهم (المخففة)، حسب (بيتر سِنجر الاستاذ في جامعة برينستون)،
وهذا ما نشاطره الرأي فيه فقد اغفل او ابعد قادة العالم أهم أسباب تردي
تلك الأوضاع وهي نوعية ومستوى الثقافة العام للشعوب والذي يلعب البعض
على بقائه متدهورا بشكل يثبت دعائم حكمه وسياسته، لذلك سيجد نفسه بين
تيارين متعاكسين الأول ناشئ من عمله حسب الاتفاق المبرم على تحسين
الأوضاع المعاشية والحياتية لمواطن والثاني في عدم دفع المواطن للتفقه
في العلوم العامة كي لا يتحول الى مناقش ومعارض او حتى منافس لو فهم
الكثير مما يغفله حاضرا عن الكثير من الأمور.
ان الثقافة المقصودة للمجتمع لا تكتفي بالتعليم وتلقين الطالب
المعلومات وتوصيلها إليه بإحدى الطرق السهلة خلال سنوات الدرس المثبتة،
إنما يتطلب ذلك عدة أهداف يتطلب الوصول إليها منها:
1- التعليم المقترن بغرس المبادئ الجميلة التي تخلق من المرء
مواطنا صالحا، ايجابيا في التعامل مع ظروف الحياة، يقبل على العلم
بمحبة ويرغب بتطوير نفسه، واكتساب المهارات المتعددة، والقدرة على
تطوير الذات وإتقان العمل وإيجاد الطرق الى معلومات أخرى تفيد نفسه
ومجتمعه.
2- الإكثار من القراءة والاطلاع والدراسة في كل المجالات التي
تساعده في التقدم وعدم الركون في المكان نفسه، لان الحياة تتطور بسرعة
وتدعو الى اللحاق بها وكما أسلفنا فان الجمود يعني الفناء.
3- الدفع باتجاه التعمق بالمواد المدروسة وعدم التسطح في مفاهيمها.
4- إشعار الفرد والمجتمع عموما بأهمية معرفته للأشياء التي تحيط به
وكونها لا تقل أهمية عن طلبه للرزق والبناء وسائر الأفعال اليومية.
5- التأكيد على إن حل أكثر المشاكل صعوبة يبدأ من الفرد في كيفية
التعامل معها وعدم رميها على الأقدار والأسباب الخارجية فالإنسان صانع
الحياة وإذا ما فهم معادلة الحياة فانه سينجح في حل طلاسمها.
6- إفهام المتلقي بان تثقيف الفرد هو بمثابة تحصين له من جميع
الأفكار التي قد تقوده نحو الانهيار الخلقي او الخنوع والخضوع،
واكتسابه القدرة على التخطي للمكائد والهفوات التي قد تودي به الى فشل
ذريع.
7- الثقافة الجيدة هي الثقافة التي تنتج قيما جيدة والثقافة السيئة
تنتج قيما سيئة، لذلك فلابد من تحسين نوعية الثقافة التي ترتكز على قيم
الحرية واحترام التنوع والحوار السلمي واللاعنف وتقدير الكفاءات وتفويض
القدرة ونبذ الاستئثار والاقصاء والاتفاق على احترام مبدأ تكافؤ الفرص.
لقد منح الخالق عزوجل لكل إنسان القدرة على أن يتكامل في جميع
الحواس التي متعه بها ولعل السير في تنمية قدراته الفكرية تبدو في
طليعة من أوجبت الشريعة والعلم العمل بها والحث على طلبها لذا فمن
الضروري اليوم أن نأخذ باهتمام متزايد ما يتطلبه العصر الحالي من توسع
بالثقافات الحقيقية التنموية لعقلية الشعوب والنهوض بالمستوى الفكري
لينسجم ومتطلبات المرحلة من تطور تقني في جميع جوانب الحياة وحماية
المجتمعات وتحصينها من أي تسخير ثقافي أو استغلال فكري او استلاب نفسي
او اغتراب حضاري.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com/index.htm |