خبز العباس... عن الخبز والتنور ونذور امهاتنا

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: ما غزّر فيه الخبز والملح، قول شعبي عراقي مأثور يرد للدلالة على نكران الجميل من الاخرين الذين مهما فعلت لاجلهم فانهم يتنكرون له ولا يعترفون به..

وهي دلالة تحمل الكثير من المضامين الثقافية المرتبطة بمادتين غذائيتين رئيسيتين لا يمكن الاستغناء عنهما.. وقد تكون مرادفا لبقاء الحياة وديمومتها ومن هنا كلمة (العيش).

ويحضر الخبز في الأمثال الشعبية السورية كرمز للوفاء فيقولون في وصف من تربطهم به علاقة جيدة (بيننا خبز وملح) كما ان الرغيف رمز من رموز التفاؤل ولذلك يصفون المتشائم بأنه (لا يضحك للرغيف الساخن) وفي مكان آخر هو رمز من رموز السطوة والعلاقة الوطيدة و من يقدم الخبز يحصل على الطاعة فيقال في الأمثال (من يأكل من خبز السلطان يضرب بسيفه).

ويذكر العراقيون الخبز في ايمانهم مثل:

* وحق الخبز والملح.

* وحق هذا الطلع من الكاع , ويقصدون به الخبز حيث نبتت الحنطة من الأرض.

* وحق من اخلقه أي من (خلقه) ويشيرون بهذا القسم الى الخبز.

* وحق هذا نعمة الله الما تاكله الحرة تهيم , أي ان المرأة العفيفة قد تخاطر بعفتها وشرفها في سبيل الحصول على لقمة الخبز لسد الرمق.

يعزو احد باحثي الانثروبولوجيا (ج برونوفسكي) تاريخ الانسان الثقافي والحضاري الى 12000 سنة بعد نهاية العصر الجليدي حيث ازدهرت الارض وكثرت الحيوانات وظهر في مناطقٍ الشرق الأوسط نوع من القمح الهجين , فقد أدى تلاقح كلّ من القمح البري و كلأ الماعز إلى ظهور هذا النوع الجديد من القمح..و القمح الجديد المعروف بقمح الخبز لا يتكاثر إلاّ بمساعدة الإنسان. و هكذا التقى , في هذه الفترة , الإنسان الراغب في الاستقرار و إنشاء قرية , و النبات الّذي لا يتكاثر إلاّ بمساعدة الإنسان.

 واستقر الانسان البدائي بعد ان كان يتنقل من مكان الى اخر سعيا وراء طعامه الذي يعزوه الباحث الى اكتشافه للقمح (كتاب ارتقاء الانسان).

ومن هذا الاستقرار نشأت التجمعات البشرية ونشأت الفعاليات الاخرى على اعتابه، والملح ايضا له هذه الميزة الثقافية العالية، فقد كان سلعة ثمينة منذ العصور القديمة، وكان يُستبدل به الذهب. وكان الصينيون القدامى يستخدمون عملات مصنوعة من الملح في التداول.

وفي مناطق كثيرة حول البحر الأبيض المتوسط، كانت أقراص الملح ُتستخدم عملة متداولة. وفرضت عدة حضارات قديمة الضرائب أيضا على الملح.

وشُقت أوائل الطرق وطرق القوافل بغرض نقل الملح. ونما عدد من المدن مثل جنوه وبيزا والبندقية، فأصبحت مراكز لتجارة الملح.

وكانت (مسيرة الملح) التي تزعمها الزعيم الهندي المهاتما غاندي إلى شاطئ جوجارات للمطالبة بجلاء القوات البريطانية، هي نقطة التحول في تاريخ الهند الحديث حيث كانت بداية لانحسار السيطرة البريطانية على الأراضي الهندية.

وقد استأثر الملح بكتاب من اصدارات عالم المعرفة الكويتية وكان عنوانه (تاريخ الملح في العالم) للكاتب مارك كورلانسكي.

نعود الى الخبز مرة اخرى واول ما يطالعنا تلك الكلمة – الحزورة التي تحمل ثلاثة معاني مختلفة عند تغير حركة الحرف الاول منها من الرفع الى النصب ثم الجر وهذه الكلمة هي (البر) ومعانيها باعتبار الحركات هي على التوالي: القمح – اليابسة – الاحسان..وهي كلمة بمعانيها الثلاثة غنية بدلالاتها المستبطنة.

فالقمح عنوان الجوع والشبع، واليابسة عنوان الوصول والاطمئنان في نقيض لصورة البحر والخوف منه وايضا هي العمران والبناء والسكن والاستقرار، والاحسان قمة الايثار والعفو والعطاء.

واستاثر بسورة كاملة في القران هي سورة (الانسان) واسمها الاشهر (الدهر) وهو احد اسماء الله كما تقول بعض الروايات، وفيها (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله،لا نريد منكم جزاء ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا * فوقاهم الله شر ذلك اليوم * ولقاهم نضرة وسرورا * وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا).

والطعام بلغة العرب العليا حسب ابن منظور هو (القمح) نعم القمح ولا شيء غيره وليس هو ما تعارف الناس عليه اسما جامعا لأنواع المأكل، وسورة الدهر خلدت رغيف الخبز الذي عجنته زهراء نساء العالمين بيديها المباركتين الذي انضجته بنيران تنورها بردا وسلاما لحطب جلبه سيد الغر المحجلين لأشباع جوع ساغب، فطورا لنذر صيام ثلاثة ايام طلبا لشفاء من سيكونون ائمة الامة وهداتها وضميرها واسّ وجودها، ولاحظ العلاقة بين النذر والصيام والخبز.

(وقمح) كانت تسمية لمقطوعة موسيقية ألفها الموسيقار اللبناني زياد الرحباني، ومن الحكم المشهورة في لبنان «وقمح بدك تأكلي» وهو للتدليل على مكانة القمح في التراث الشعبي.

ولرغيف الخبز رائحة تعلق في حواسنا ولا تفارق ذاكرتنا.. هل هي امتداد لرائحة الامومة العراقية المتشحة بالسواد حزنا على الراحلين وما اكثرهم في ازمان الفجيعة والعذاب والقهر التي مر بها العراق.. وهل لهذا السبب شعر محمود درويش الشاعر الفلسطيني بالحنين الى قهوة امه وخبزها.. والاثنان تتصاعد منهما تلك الرائحة العذبة تارة من قعر السواد لحبوب القهوة المطحونة او من دوائر البياض الممزوجة بسمرة النيران:

أحن إلى خبز أمي

وقهوة أمي

ولمسةِ أمي

وتكبر فيَّ الطفولة

يوماً على صدرِ يومِ

وأعشق عمري لأنّي

إذا مت

أخجل من دمع أمّي.

 والقمح يشابه لون تراب الارض وطينها المختلط بمياه الانهر او الامطار، ورحم الارض رمز للخصب ورمز للولادة واحتضان الحياة مثلما المرأة،

والارض هي الحضن الحنون لرفات مخلوقات الله لا تفرق بين احد منهم، والقمح يطلع فوقها زاهيا ممتلئا ومن هنا كان الامتلاء عنوان التواضع فالسنابل الممتلئة تنحني على العكس من الفارغة ذات القامات المنتصبة على الخواء.

والسنابل عنوانا للثواب الوفير والحسنات المضاعفة على اعمال الخير التي يقدمها الانسان لاخيه الانسان، {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} سورة البقرة(261).

ولرغيف الخبز مكانته في الادب العربي والعالمي، فهو رمز للوطن والام والارض والحياة والظلم والعدالة والالم فمحمد الماغوط يقول في أحد قصائده (دعني أخبئ الخبز في لحمي كالدبابيس وافتله كالشوارب فوق شفتي) وغادة السمان وعنوان احد كتبها (الرغيف ينبض كالقلب) واقتبسه الكاتب اللبناني يوسف عواد عنوانا لروايته الأهم (الرغيف) التي يحكي فيها معاناة أبناء المنطقة خلال الحرب العالمية الأولى.

أما رياض معلوف فيصف الحبيبة (رغيفنا المستدير والقمري الوجه كوجه المحبوب.. كن إنسانا أكثر من الإنسان وتكرم على من حرمهم الدهر من لقمتك) بينما يعتبر جبران خليل جبران أن تقاسم الخبز يعني الإنسانية ويقول في ذلك (نصف الرغيف الذي لا تأكله يخص الشخص الآخر).

وفي الأدب العالمي حضر الخبز عنوانا لكثير من الأعمال منها (خبز العائلة) للفرنسي جون كلود رونار و(الخبز القاسي) للفرنسي بول كلوديل، واختار مكسيم غوركي عنوانا لسيرته الذاتية بهذا المعنى (كاسبا لقمة عيشي) وتبقى رواية كزافييه دومونتبان (بائعة الخبز) من أبرز الأعمال العالمية رمزية في هذا المجال.

وفي ملحمة كلكامش العراقية نقرأ:

الخبز يا انكيدو بهجة الحياة هذا ما قاله كلكامش لصديقه. وكماورد في اللوح الثاني عشر من الملحمة:

في الأيام الأولى، عندما جرى خلق كل ما يلزم؛ في الأيام الأولى، عندما جاءت المشيئة الإلهية بكل ما يلزم؛ عندما جرى خبز الخبز في المقامات المقدسة؛ عندما جرى أكل الخبز في بيوت البلاد.

و كان المطبخ السومري، مثل الفرنسي، قائماً على الخبز. فالرمز المسماري للأكل، هو علامة (الفم) مع علامة (الخبز) في داخله. وكلمة «أكالو» الأكدية تعني «يأكل»، وكلمة «أكلو» تعني «خبز». وعندما تعلم أنكيدو (في ملحمة كلكامش) كيف يأكل مثل سائر بني البشر (بدلاً من ارتضاع الحليب من حيوانات البر)، كان أول شيء تعلمه هو أكل الخبز: «كل الخبز، يا أنكيدو، بهجة الحياة».

فرغيف الخبز العراقي الذي يخبز في التنور (وهي كلمة بابلية) كان سومرياً. ولعل خبز العروق المعاصر (وهو خبز بلحم وبصل وتوابل) ذو جذور بابلية أيضاً.

ماذا عن التنور ونيرانه؟ فيه ينضج الخبز وفيه يطوع الحداد حديده ويشكل منه ما يريد وهو من اشارات وعلامات الطوفان الذي حدث في زمن نوح عليه السلام..

وفي المعتقدات الشعبية العراقية لا يجوز كسر التنور ولا رمي القاذورات أو البصاق به لأنهم يعتقدون بأنه مقدس ويسمونه (تنور الزهرة) نسبة الى فاطمة الزهراء عليها السلام.

وكانوا يحلفون به كما في:

* وحق هلتنور الحار وملايكة الخضار.

* وتنور فاطمة أو وحق هذا تنور فاطمة.

خبز العباس

العباس عليه السلام قمر بنى هاشم ورائد الايثار في تاريخ الانسانية بعد رسولنا الكريم وشارته لا تغيب عنها الشمس.

وتلجأ معظم العوائل العراقية في حال الحاجة الى قضاء حاجه ما او حل مشكلة ورجوع غائب الى النذر بتوزيع خبز العباس المكون من خبز التنور العراقي و حفنة من الخضار.

وخبز العباس، هي ارغفة من الخبز ملفوف بداخلها خضروات (كرفس، كراث، معدنوس، رشّاد...) وتعمد الأسر الميسورة إلى إضافة جبن مالح من النوع (الكردي) اذا ارادت توزيعها على بيوت كثيرة. وينذر خبز العباس ايضا في حالة شخص مفقود، فتقوم الام بعمله وتوزعه على الجيران وبيوت الطرف اذا عاد ابنها. كما ينذرفي حالة نجاح الولد أو البنت في الامتحان وما شابه ذلك.

وفي لبنان تعمد الأسر الشيعية في يوم عاشوراء الى صناعة نوع من الخبز الممزوج بالسكر الذي يسمونه (خبز العباس) وتوزيعه على بيوت القرية، بينما تعمد أسر أخرى الى توزيع نوع من القمح المطبوخ المسمى (الهريسة) على البيوت المجاورة. حيث تشكل حبة القمح رمزاً لروح الشهيد التي تُدفن في الأرض ثم تنبت من جديد. وهو ما التقطه الشاعر اللبناني خليل حاوي قائلاً بلسان زوجة لعازر الذي بعثه المسيح من الموت (من يظن الموت محواً/ خلّه يحصي على البيدر غلات الحصاد/ ويرى وجه حبيبي/ وحبيبي كيف عاد).

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 22/كانون الأول/2010 - 15/محرم/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م