أمراض نفسية في غزة

توفيق أبو شومر

اعتاد مسؤولو الأحزاب الفلسطينيون وقادة العمل الوطني، ورؤساء الهياكل الحكومية، ومالكو المؤسسات والجمعيات غير الحكومية، ومراسلو القنوات الفضائية والأرضية أن يحسبوا آثار جريمة حصار غزة وسجن أهلها حسابا ماليا وصحيا فقط.

فآثار الحصار عند أكثر المسؤولين ونجوم الأحزاب، ومراسلي القنوات الفضائية، وإعلاميي الصحف الورقية والرقمية، لا تعني عندهم سوى إحصاء عدد المرضى الذين ماتوا، لعدم حصولهم على تأشيرات السفر للعلاج، وهم بارعون في إحصاء النقصٍ في أطنان الدقيق، اللازمة لمليون ونصف فم، وهم أيضا متفوقون في سرديات الشحٍ في كل أنواع الدواء، ويحفظون أنشودة انقطاع التيار الكهربي، وانقطاع الماء، ولا ينسون الخلل في نظام الصرف الصحي، وانهيارٍ قطاعات الزراعة والصناعة والتجارة!

ولم تقم الجامعات والمعاهد وما يسمى بمراكز الدراسات والأبحاث برصد الآثار النفسية والثقافية لهذا الحصار.

ومع التأكيد بأن مظاهر الحصار المادية في القطاع التجاري والصناعي والمالي والصحي ذاتُ أهمية كبيرة، إلا أنني أرى بأنّ نتائج الحصار والإغلاق والسجن والترهيب وانعكاسها على البنية الاجتماعية والثقافية والفكرية، هو الأهم والأكثر خطورة، وذلك لما فيه من آثار مدمرة على(المستقبل الفلسطيني) وإن كانت لا تظهر إلا بعد عقودٍ من الزمن !

وقد لا يرى كثيرون في حرمان الأدباء والمفكرين الفلسطينيين من السفر لحضور المؤتمرات العربية والعالمية خطرا كبيرا، حتى في إطار رام الله وغزة، ولكنني أرى بأن حرمانهم من حضور المؤتمرات والندوات، وعدم مشاركتهم في الاحتفالات، هو أخطر بكثير من قطع التيار الكهربي الدائم، وأشد هولا من نقص أكياس الدقيق في مخازن اليونروا، لأنه يحول دون نقل صورتنا أولا إلى العالم، ثم يمنع استفادتنا من تجارب العالم الأخرى، فكم فيلم فلسطيني، لم يتمكن منتجوه من عرضه، وكم من بحثٍ ودراسة، كان المفكرون والباحثون يودون أن يقدموها في المؤتمرات ليؤثروا بها، ويتأثروا بغيرها، أرغم أصحابها على العودة أدراجهم بعد التضييق عليهم ومنعهم من السفر.

 وقد يستغرب آخرون من استمرار حظر دخول الكتب وخروجها من وإلى غزة، واعتبار هذا الأمر مطلبا سخيفا لا يرقى إلى المطالبة بإدخال الأجبان والألبان والبسكويت والمعجنات والمرطبات والمشروبات والأحذية والإسمنت المسلح والسيارات الحديثة المصنوعة للعام الآتي، ولا يعيرون الكتب أية أهمية، ولا يضعونها ضمن مطالبهم!

 وقد يُدهش آخرون عندما أقول: كم من معرضٍ ثقافي وتجاري، وكم من حلقة أبحاث ونقاشات خططتْ لها الجامعات الفلسطينية، وكان مفروضا أن يكون المدعوون من الدول العربية والعالمية قد أُلغيت وشطبت من الجداول، بسبب الإغلاق والحصار!!

 وإذا أضفنا إلى ذلك حظر دخول المعدات العلمية اللازمة لمختبرات الجامعات، وحظر استيراد المطابع القادرة على طباعة الرول أفست، ومنع كل المواد العلمية، التي تشك إسرائيل في أنها يمكن أن تدخل في إطار( تهديد أمن إسرائيل) وللعلم فقط فإن أكثر الأدوية الزراعية والأسمدة ومعظم مواد المعامل ومنتجات البترول ومشتقاته محظورة منذ سنوات من دخول غزة، لأنها (ربما) تُخل بالأمن الإسرائيلي، وحتى أوراق الطباعة دخلت ضمن المحظورات!

إن المخطط الإسرائيلي يستهدف بالدرجة الأولى البنية الثقافية الأساسية للشعب الفلسطيني، فقد أثبت الحصار فعالية منقطعة النظير في تدمير هذه البنية الثقافية!

للأسف فإن المحاصرين المقموعين المظلومين المقهورين لم يتمكنوا من استثمار معطيات إحصائية حول [أثار الحصار على البنية الثقافية والاجتماعية والنفسية الفلسطينية] ولم تتولِ الجهات القانونية بلورة صيغ قانونية قادرة على مطاردة المحتلين الإسرائيليين، المعتدين على المستقبل الفلسطيني برمته!

فالثقافة الفلسطينية في غزة تشبه بحيرة ماء راكدة، أَسِنَ ماؤها وتغير لونه ورائحته، حتى أن سدنة الثقافة وروادها أوشكوا أن يهجروها، ولم يبق من الثقافة سوى قشور خارجية، لا تُغني ولا تُسمن من جوع، ويوشك أن يعلن المثقفون التوبة، ويعودوا إلى القطيع، يسيرون حيث يسير، ويربضون، حيث يربض.

أما عن الآثار النفسية، فهي لا تُعدُّ ولا تُحصى، فمن يئس من السفر للدراسة والعمل خارج وطنه، يتحول إلى مريضٍ نفسي، ينشر مرضا مُعديا بين أفراد عائلته وأقرانه، ويصبح عبئا اجتماعيا، وعالة على أسرته!

ومن فقد وظيفته في بلد آخر لأنه مُنع من السفر، عقب زيارته لأهله، فإنه سيتحول من طاقة بشرية عاملة مخلصة، إلى قنبلة موقوتة، ستنفجر آجلا أم عاجلا، في أسرته وقبيلته ووطنه !

أما عن الآثار النفسية التي تتعرض لها الأسر، بحكم مرض الآباء والأبناء المصابين بالقهر والإحباط، وعدم توفُّر المنفِّسات الثقافية، ومُفرِّغات الشحن النفسية السالبة المتمثلة في الفنون بمختلف أقسامها، فهي الأشد إيلاما، وينعكس ذلك مباشرة على النساء أولا، فهن الأضعف دائما، فيتعرضن للعنف بمختلف أشكاله وألوانه، وكذا الأطفال الذين أصبح العنفُ في المدارس هو السمة البارزة، وهذا بالطبع يقود الفلسطينيين إلى أوكار التطرف والعنف، حتى ولو كان موجها إلى الأهل والأقارب.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 22/كانون الأول/2010 - 15/محرم/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م