الانقسام وأثره على الحياة الأكاديمية في فلسطين

أ. د. إبراهيم أبراش

لأن الجامعات ومراكز البحث والأكاديميون والعلماء عقل كل أمة وعماد كل حضارة في زماننا هذا فإن تلازما حاصلا ما بين تحضر وازدهار الجامعات ومراكز الأبحاث وعدد العلماء وحريتهم الأكاديمية من جانب والموقع الذي تحتله الدول على سلم التقدم الحضاري من جانب آخر، قوة الدول اليوم لا تقاس بما تملك من جيوش ومعدات عسكرية بل بما تتوفر عليه من تكنولوجيا متقدمة وبما تملك من جامعات ومراكز بحوث وأصحاب شهادات عليا، ولذا تتسابق الدول المتحضرة على الإنفاق على الجامعات ومراكز الأبحاث وعلى استقطاب العقول من كل بقاع العالم، فلا يمكن لأمة أن تتقدم دون جامعات مزدهرة ومراكز بحث متطورة وقد اعتبرت عديد من الدول أن التعليم جزء من الأمن القومي وهو كذلك.

وعليه فكل عدو لأمة ما كما يسعى لتدمير قوة خصمه العسكرية فإنه لا يتوانى عن تدمير عقل الأمة وذاكرتها باستهداف جامعاتها ومراكز أبحاثها ومكتباتها، هذا النهج مارسه الأمريكان عندما احتلوا العراق حيث تركوا العنان للرعاع لنهب وتدمير المتحف الوطني العراقي وتدمير الجامعات ثم تواصلت مؤامرتهم باغتيال العلماء وأساتذة الجامعات أو التضييق عليهم لدفعهم للهجرة من وطنهم، وشواهد أخرى كثيرة تدل على أن استهداف الجامعات ومراكز البحوث جزء في أي حرب تسعى فيها دولة لتدمير خصمها لأن المنشآت العسكرية والمادية يمكن تعويضها بسرعة ما دامت العقول ومؤسسات البحث سليمة، أما العقول والكفاءات والجامعات ومراكز البحوث فتعويضها صعب ويحتاج بناؤها لفترة طويلة.

تاريخيا وبالرغم من واقع الاحتلال والحواجز التي يفرضها و الوضع المادي و النفسي الصعب حيث لا بيت إلا و به شهيد أو أسير أو جريح فقد تمكنت الجامعات الفلسطينية من الحفاظ على وجودها منابر للعلم وواحة للحرية الفكرية والسياسية، ففيها تعددية فكرية وثقافية وحرية في الرأي والتعبير وتمثيل لكل ألوان الطيف السياسي سواء عند الطلبة أو الإداريين أو الأساتذة، بل كانت الجامعات والمؤسسات التعليمية موئل الحركة الوطنية والمدرسة التي تُخرِج القيادات السياسية وأطر المجتمع المدني. مع مجيء السلطة الوطنية حافظت الجامعات على استقلاليتها نسبيا وكانت الانتخابات الطلابية والنقابية بشكل عام مثالا للممارسة الديمقراطية الحقيقية.

وهكذا نلاحظ أنه منذ الاحتلال الصهيوني لفلسطين ثم عندما اعتُمِدت القضية الفلسطينية كقضية سياسية لشعب يناضل من أجل الحرية والاستقلال وإلى حين حدوث الانقسام صيف 2007 ومفهوم انتهاك الحريات السياسية والأكاديمية في فلسطين يتركز على ما يمارسه الاحتلال، وهكذا بالرجوع للقرارات والمؤتمرات والكتابات المتعلقة بانتهاك الحريات الأكاديمية في فلسطين سنجد أنها كلها تتحدث عن انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي لهذه الحريات سواء بشكل مباشر كإغلاق بعض الجامعات واقتحامها أو بطريق غير مباشر بسبب الحصار والحواجز، وعليه وإلى ما قبل الانقسام كانت إسرائيل هي الطرف الوحيد المُدان والمُتهم، صحيح أن حالات من انتهاكات الحريات الأكاديمية مورست خلال سلطة الحكم الذاتي وقبل الانقسام إلا أن هذه الانتهاكات كانت محدودة ولم تبعد الأنظار عن الاحتلال وممارساته.

مع حالة الانفلات الأمني التي عمت مناطق السلطة بدء من عام 2004 أخذت مؤشرات مقلقة وخطيرة تفرض حضورها وخصوصا التسييس المرتفع للجامعات لدرجة تحويل الجامعات إلى ساحة مواجهة ومنافسة واستعراض عضلات سياسية على حساب التعليم والبحث العلمي. وخصوصا مع تأزم النظام السياسي وظهور الانقسام الحاد. الحالة السياسية المأزومة والمنقسمة امتدت إلى الجامعات والمؤسسات التعليمية فبعض الجامعات تحولت لقواعد حزبية وبعضها مخازن للتسلح وكلها تحولت لمنابر أيديولوجية للأحزاب، هذا المنعطف الأخير أدى ليس فقط لتراجع القيمة الأكاديمية للجامعات بل لأن تُستهدف أيضا بالاقتحام والتدمير كما جرى مع حرق الجامعة الإسلامية قبيل الانقلاب ثم اقتحام جامعة الأزهر بعد الانقلاب.

يمكن رصد أهم تداعيات الانقسام على الجامعات والحياة الأكاديمية بشكل عام بما يلي:-

1- تراجع استقلالية الجامعات

 حيث تنتشر ظاهرة مثيرة للقلق وهي تسييس الجامعة بشكل ملفت للانتباه، حتى باتت الجامعات فضاء للصراع السياسي بدلا من أن تكون فضاء للتنافس العلمي والأكاديمي، ففي قطاع غزة بات من المعروف بأن الجامعة الإسلامية محسوبة على حركة حماس وخاضعة كليا لها، وجامعة الأزهر يهيمن عليها تنظيم حركة فتح وهناك جامعات محل صراع للهيمنة عليها كجامعة الأقصى والقدس المفتوحة، أما في الضفة الغربية فالهيمنة الحزبية المنفردة على الجامعات ليس كما هو الأمر في القطاع فكل الجامعات تقريبا فضاء مفتوحا للصراعات الحزبية وإن كانت هيمنة السلطة وحركة فتح ملحوظا بشكل اكبر. عندما تصبح عملية إدارة وتسيير الجامعة والأنشطة الثقافية والبحثية خاضعة لأهواء الأحزاب السياسية وليس للمؤسسة الجامعية نفسها فإن ذلك يشكك في المصداقية العلمية للجامعة. هذا التسييس نلمسه في توظيف الأساتذة والعاملين وفي تشكيل النقابات الطلابية ونقابات الأساتذة وفي تدخل ذوي النفوذ الحزبي للتأثير في تسجيل الطلبة بل وفي نتائج الامتحانات أحيانا بالإضافة إلى التدخل في مناهج التعليم والأنشطة غير المنهجية داخل الجامعة.

2- تراجع النشاط الأكاديمي لحساب الأنشطة الحزبية التحريضية.

فمن يلقي نظرة سريعة حول الأنشطة داخل الجامعات سيلاحظ أن غالبيتها ذا طابع سياسي وحزبي ولا تخلو من تعبئة وتحريض على الخصوم السياسيين، فيما تراجعت المؤتمرات والندوات ذات الطابع العلمي والثقافي الموضوعي. ففي بعض الجامعات لا يمر يوم دون مهرجان حزبي أو إحياء مناسبة سياسية أو تخليد ذكرى قائد قضى أو انطلاقة هذا الحزب أو تلك الحركة، ولكن قد تمر سنوات دون أن نسمع عن مؤتمر علمي دولي أو محلي، أو معارض للكتب والمطبوعات – سجلت الجامعة الإسلامية في غزة أعلى نسبة في عدد المؤتمرات العلمية مقارنة بالجامعات الفلسطينية الأخرى وأقل نسبة في عدد أيام إغلاق الجامعة وتعليق الدراسة -. الأحزاب المتحكمة بالجامعات تستطيع أن تحشد آلاف الطلبة وتنفق عشرات آلاف الدولارات إذا تعلق الأمر بنشاط حزبي ولكنها تتقاعس عن حشد عشرات الطلبة أو المساهمة بمئات الدولارات إذا تعلق العمل بنشاط أكاديمي فيه مصلحة عامة للجامعة.

3- تراجع جودة الأطر والكفاءات العلمية وضعف مخرجات التعليم

كان الانقسام أحد أسباب فرض الحصار وهذا الحصار أدى لهجرة الكفاءات الأكاديمية حيث هاجر عدد كبير من أساتذة الجامعات للخارج بذرائع متعددة ولم يعودوا وحتى على مستوى الطلبة فمن سافر منهم لاستكمال دراساتهم العليا أو في دورات لم يعودوا لجامعاتهم، كما أن الواقع الأمني والسياسي والحصار لم يشجع الكفاءات الفلسطينية التي تعيش في الخارج للعودة للوطن والعمل في الجامعات، الأمر الذي أدى لفقر في الكفاءات مع استمرار تزايد عدد الطلبة، وكانت النتيجة تزايد عدد الطلبة في قاعات الدراسة وإسناد مواد دراسة لأساتذة غير متخصصين، كل هذا أدى لتخريج طلبة بكفاءة أقل.

أيضا أدى الانقسام ورغبة كل طرف سياسي الهيمنة على الجامعة، بات التوظيف في الجامعة لا يقوم على أساس الكفاءة والشهادة والخبرة بل على أساس الولاء السياسي والحزبي، لم يقتصر الأمر على الموظفين الإداريين بل أمتد للأكاديميين وهو الأمر الخطير الذي قد يؤدي لتحويل الجامعات لقلاع حزبية وليس لمنابر علمية.

4 -غياب المراقبة الأكاديمية العليا

بسبب الانقسام لم تعد هناك مرجعية وطنية عليا تشرف على الجامعات وتنسق بينها، أيضا هناك غياب للرقابة والتدقيق على الجامعات الجديدة أو التخصصات الجديدة، فبسبب توفر المنح والقروض تم فتح جامعات وتخصصات وبعضها دون اعتراف مسبق وبدون توفر الشروط العلمية، مما أعطى لهذه الجامعات والتخصصات طابع المشروع التجاري الربحي فقط.

أيضا وبسبب الانقسام وسيطرة الهاجس الأمني عند إدارة الجامعة ورغبتها باستمرارية الدراسة بأي ثمن ضعفت الرقابة سواء على أعضاء التدريس أو الطلبة. وأخطر نتائج غياب الرقابة الأكاديمية هو عدم مراقبة الكتب والمقررات حيث يُدرس بعض المدرسين موضوعات لا علاقة لها بالمساق أو جوهر المقرر وأحيانا يتم تدريس كتاب قديم حول المقرر لا يتناسب مع المستجدات إن لم يكن منقولا أو مسروقا، ونادرا ما تجري عملية مراجعة أكاديمية دورية للمقررات ومحتواها.

5 - ضعف الإدارة وخوفها من مواجهة الطلبة والإداريين الناشطين سياسيا

بسبب خوف الإدارة من تكتلات طلابية أو جماعات أمنية وسلطوية لم تعد الإدارة قادرة على إنزال العقاب على الخارجين على القانون وعلى قانون الجامعة، بل وصل الأمر أحيانا لاعتداء طلبة على رئيس جامعة ولم يعاقب الفاعلون، خوف الإدارة سببه أن جماعات النفوذ داخل الجامعة تستطيع أن تعيث خرابا داخل الجامعة بل تستطيع أن تغلق الجامعة دون إذن الإدارة. فقد وصل الأمر لحد إغلاق بعض الجامعات من طرف الطلبة بسبب إجراءات عقابية اتخذتها إدارة الجامعة ضد طلبة متسيبين، وفي بعض الحالات تتدخل جهات حزبية وأمنية لإجبار الجامعة على إلغاء عقوبات اتخذت بحق مخالفين.

في ظل الانقسام بات الأمر أكثر خطورة حيث أخذ الطلبة وهيئات العاملين يستقوون بحزبهم السلطوي ويستمدون منه قوتهم في مواجهة زملائهم من الطلبة المنتمين للمعارضة، وأصبح كل طالب وكأنه مفوض بفرض سياسة ونهج الحزب الذي ينتمي إليه ومفوض باللجوء لكل الوسائل لتحقيق ذلك بما فيها تلك التي تسئ للتقاليد والأعراف الجامعية كالاستنجاد بالمسلحين وكتابة الشعارات والكلمات المبتذلة على الجدران الخ. هذه الظاهرة باتت واضحة أخيرا في جامعتي الأزهر والأقصى في قطاع غزة حيث يتزايد نفوذ طلبة الكتلة الإسلامية التابعين لحركة حماس، وفي بعض جامعات الضفة حيث تلجا شبيبة فتح لأعمال مشابهة.

6- انتشار ثقافة الخوف والعنف داخل الجامعات

 فرضت ثقافة الخوف وجودها على المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع، بحيث بات المواطن يعيش حالة مركبة من الخوف والقلق بسبب الانقسام، سابقا كان الخوف مصدره الاحتلال وإجراءاته والوضع الاقتصادي أما اليوم فمصادره متعددة ولكن على رأسها الخوف الناتج عن الانقسام حيث أصبح الفلسطيني يخاف من السلطة القائمة ويخاف من المستقبل وعلى مستقبل أطفاله، في ظل الانقسام انقسم المجتمع انقساما حادا، فلأن فتح معادية لحماس وسلطة رام الله معادية لسلطة غزة والعكس صحيح، ولان مصالح الناس باتت مرتبطة بإحدى السلطتين فقد بات الأخ يشك بأخيه والزوج بزوجته والجار بجاره. أمتد الخوف للجامعة حيث فقدت الجامعات حرمتها وأصبح الحرم الجامعي منتهكا باقتحام رجال الأمن والمسلحين وبات الطلبة يخشون بعضهم بعضا ويشكون بعضهم ببعض، والأساتذة يخافون من طلبة يسجلون وينقلون ما يقولون لجهات حزبية وأمنية، والإدارة تخاف من الجميع، باتت ثقافة الخوف تكمم الأفواه وتفقد الثقة بين مكونات الجامعة.

هذه التداعيات السلبية على الجامعات لا تنفي حقيقة الجهود الجبارة التي يبذلها مسئولون وأكاديميون ومؤسسات مجتمع مدني وشخصيات وطنية من خلال تواجدها في مجالس الأمناء لتطوير الجامعة ومواجهة التحديات الناتجة عن الاحتلال وعن الانقسام.

Ibrahem_ibrach@hotmail. com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 20/كانون الأول/2010 - 13/محرم/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م