بعد مصادقة وإقرار الكنيست بالقراءة الثالثة على "قانون الاستفتاء"
الذي يشترط عرض أي "اتفاق سلام" بالانسحاب من القدس الشرقية والجولان،
وإخضاعه لمزاج الناخب الإسرائيلي؛ بما ينطوي عليه من إمكانية عرقلته
ومنعه من التحقق أو التنفيذ؛ يجئ الدور الآن على اعتبار القدس "عاصمة
للشعب اليهودي" وليس الإسرائيلي فقط!
وفي جلسة الكنيست المقبلة، سيجري نقاش مشروع قانون مقدم من حزب "إسرائيل
بيتنا"، في وقت يمضي تهويد القدس بسرعة صاروخية، عبر إقرار والمصادقة
على المزيد من آلاف الوحدات الاستيطانية داخل القدس الشرقية وفي محيطها،
وذلك في محاولة مستميتة لإنهاء الوجود الفلسطيني، وإتمام حلقات تهويدها
في أسرع وقت ممكن، وتحويلها إلى "عاصمة الشعب اليهودي". كل هذا عبر ما
يتم التخطيط له خلال السنوات القليلة المقبلة، لبناء ما يزيد على 50
ألف وحدة استيطانية جديدة، وبما يحقق زيادة في أعداد المستوطنين إلى
حوالي نصف مليون مستوطن، وتقليص أعداد الفلسطينيين إلى 80 ألفا.
وإذ يسعى الائتلاف الحكومي اليميني المتطرف، الحاكم اليوم في
إسرائيل، إلى حسم المعركة الديموغرافية، بهذا الشكل أو ذاك من إقرار
القوانين العنصرية، وإجراءات التطهير العرقي، وتحقيق تهويد متسارع
للقدس وما يحيطها؛ فلأجل إفقاد الدولة الفلسطينية العتيدة الموعودة
لمقوماتها، كما ولمقومات أن تكون القدس الشرقية عاصمة لها، حيث تسعى
الحكومة وأحزابها اليمينية المتطرفة وأذرعها الاستيطانية، للمصادقة على
عشرات الوحدات الاستيطانية الجديدة في مخططات هيكلية مختلفة، جميعها
تسعى لتهويد القدس، وجعلها على الأرض بمثابة أمر واقع احتلالي –
إستيطاني، عبر إقامة شبكة مستوطنات كبرى داخل المدينة، وفي شرقيها
تحديدا.
وهكذا.. ويوما بعد يوم، تفقد المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية
بريقها، لفقدان الثقة بين الطرفين، وعدم اعترافهما ضمنيا بشراكة الواحد
منهما للآخر. وهي لم تزدد تعقيدا فحسب، بل أضحت تزداد غموضا، وتدخل
منطقة من السواد والإعتام عليها، كونها لم تعد تتم في سياق تسووي ممكن،
بقدر ما يُراد لها أميركيا وإسرائيليا أن تتم وفق ترسيمتهما الخاصة،
بمعنى إفقاد المفاوضات مع الطرف الفلسطيني روحية التسوية ومضامينها
الجوهرية، وما سلة المحفزات وصفقة الرشاوي الأميركية، سوى واحدة من
ألاعيب "السياسة الأميركية" غير المسؤولة، التي تحاول قيادة عملية
تلفيقية، تعرف هي قبل غيرها أنها لن تكون ممكنة، وبالتالي فهي مستحيلة؛
كاستحالة الدولة الفلسطينية بمواصفات "دولة الرابع من حزيران". خاصة
بعد أن تشكلت السلطة في إسرائيل من ائتلاف يميني فاشي، يحاول من خلال
قوانين الكنيست الملزمة للحكومة، تكبيلها بما لن يكون بمقدورها تحريك
عجلة المفاوضات لو أرادت، وذلك بالترافق مع خيبة أمل بـ "التغيير"
الأميركي، الذي خفّض منسوب الآمال والتفاؤل بقدرة الولايات المتحدة على
تذليل عقبات التسوية، بين إسرائيل من جهة، والفلسطينيين والعرب من جهة
أخرى.
وبعد عامين من ممارسة السلطة في إسرائيل وفي الولايات المتحدة،
انخفضت سقوف التّوقّعات؛ ومعها انخفضت، بل تكاد تنعدم رؤية أية ملامح
لما يمكن أن تفضي إليه نتائج المفاوضات العبثية المتقطعة، وهي تتوقف
اليوم على أعتاب تواصلها البيني فقط؛ بين حكومة نتانياهو والولايات
المتحدة، فأي نتيجة يمكن توخيها لصالح الشعب الفلسطيني؛ إلى حدّ بات
فيه الحديث عن دولة فلسطينيّة – مهما تكن مواصفاتها – مثل حلم من الوهم
أو السراب، يعتّم في فضاء مفاوضاتها سلوك إسرائيلي عام، وخيبة أمل
فلسطينية لم تعد خافية؛ في ظلّ معطيات تفاوضيّة ليس يؤيّدها؛ حتّى
إمكانيّة الوصول إلى اتفاق مبادئ تفاوضي مشابه لاتفاق أوسلو.
وفي وقت يجري فيه الحديث عن مقايضة تجميد البناء الاستيطاني، لمدة
تسعين يوما مقابل سلة التحفيز الإستراتيجي عسكريا، لمجرد التلويح بهدف
تكتيكي، يتضح الآن أنّ إسرائيل تمضي نحو تنفيذ مخططاتها الهادفة إلى
تقسيم الضفّة الغربيّة إلى عدد من الكانتونات ومحاصرتها بالمستوطنات،
وتقطيع أوصالها بالأنفاق والحواجز، وعزلها عن غور الأردن وعن قطاع غزّة
تماما.
وهذا هو مضمون خطة استيطانيّة كانت وافقت عليها الإدارة الأميركيّة
في العام 2004، والعمل جار للربط بين المستوطنات لتكوينها شبه دولة
مترابطة جغرافيا. حيث يتم في هذا السياق مصادرة نحو 35 في المئة من
أراضي القدس الشّرقيّة، في حين أخرج جدار الفصل العنصري نحو 125 ألفا
من سكّان القدس الفلسطينيين منها، وفي هذا السبيل تتجه إسرائيل إلى
إنفاق مبالغ كبيرة تصل إلى 5,1 مليار دولار سنويّا لفرض أمر واقع جديد
في القدس، تتطابق تصوراته مع تصورات أن تصبح القدس بكاملها "عاصمة
لدولة يهودية"، وفق مشروع قانون حزب "إسرائيل بيتنا" المقدم للكنيست،
بما في ذلك تنفيذ مخطط من الأنفاق والإنشاءات في القدس القديمة، يتضمّن
إخراج عدد كبير من مواطنيها الفلسطينيين منها في العام 2020.
وفي كلّ الأحوال، فإن ما يربك المفاوض الفلسطيني، وأضحى يشكّل مصدر
خشيته، أن تسعى الولايات المتّحدة إلى فرض حل (الدولة ذات الحدود
المؤقّتة)، وهو ما باتت تطالب به أبرز شخصيات الحكومة الإسرائيلية؛
كنتانياهو وليبرمان، ما يعني تحديدا انتهاء حلم الدولة في حدود الرابع
من حزيران، فأيّ حلّ يمكن أن يقبله الشعب الفلسطيني إن كانت كل الحلول
لم تعد ترقى إلى (حلّ الحد الأدنى)؟. وما يجري على الأرض من وقائع
الجمود والمراوحة، إزاء قضايا المفاوضات الست كلّها، لا تجد ما يؤيّد
إمكانيّة حلحلة سياسيّة ممكنة إزاء أيّ منها، وبالتالي لن يكون هناك
بصيص أمل للانتقال إلى اليوم التالي لانتهاء المفاوضات، إذ ليس في
السلوك الإسرائيلي سوى إيصالها إلى الجدار المسدود، عبر إقرار الكنيست
لما يسمى "قانون الاستفتاء" مؤخرا، كونه يستدعي "إجماعا إسرائيليا"
جاهزا، لم يعد يقف عند حدود اتفاق أوسلو، بل هو يتخطاه إلى ما صاره
الأمر الواقع الاحتلالي – الاستيطاني؛ كالجدار ومخطّطات الاستيطان
والتهويد، كـ "أولويات وطنية" تلتزمها حكومة الائتلاف اليميني المتطرف.
وفي كلّ الأحوال لا يتوقّع أن يجري تجاوز ذلك، باتّجاه إمكانيّة
تحريك المفاوضات مما تغرق فيه؛ من أحلام أو كوابيس إسرائيليّة وأوهام
فلسطينية، لا سيّما وأن جولات التفاوض التي "أنجزت" حتى الآن، بيّنت أن
لا سقف ولا مرجعيّة لما كان يجري على طاولة اللقاءات التفاوضيّة، كما
لا سقف ولا مرجعيّة للقاءات الرّسميّة أو غير الرّسميّة بين الأطراف
السياسيّة المختلفة مجتمعة.
وبحسب ليبرمان فإن هناك تفهما أصبح يتعزز مفاده استحالة التوصل إلى
تسوية دائمة في غضون عام. وذلك في رد غير مباشر على تصريحات للرئيس
الفلسطيني، ذكر فيها أنه "لا يمانع من التوصل إلى اتفاق سلام مع
إسرائيل، يتم تطبيقه خلال فترة زمنية تمتد من عام إلى عامين"، مجددا
رفضه لدولة فلسطينية بحدود مؤقتة.
لهذا فإن ما قد تفضي إليه سلسلة اللقاءات التفاوضية الأميركية –
الإسرائيلية، وهي الفعلية، يضاف إليها اللقاءات الفلسطينية –
الإسرائيلية غير التفاوضية، وهي الشكلية، وكل الحراك الذي يحضّ عليه
وجود أوباما اليوم في البيت الأبيض؛ وحاجته إلى إنجاز دبلوماسي؛ يخرجه
ولو جزئيا من إخفاقات حروبه العبثية خارجيا، وإخفاقات السياسات المالية
داخليا، وإخفاقات حزبه في الانتخابات النصفية للكونغرس، إضافة إلى كل
هذه الإخفاقات التي تحمل مسبباتها ونتائجها جوهرا لصيقا يتجاور وما
تولده سياسات حكومة نتانياهو، وهي الحليف الأوثق لواشنطن، من كونها
العقبة الكأداء، وحجر العثرة الأكبر أمام سياساتها المتهالكة.
وحتى لو تشدّقت كل أطراف العملية التفاوضية بالحديث عن مرجعيّات
مفترضة للتفاوض؛ فلن يكون في مقدورها تحريك الجّمود الرّاهن في الحركة
السّياسيّة الآيلة إلى الفشل أو الإفشال مسبقا، جرّاء الضخ والدفع
المستمرين لدواليب العملية التفاوضية نحو هاوية سحيقة بلا قرار، وعلى
الصعد المختلفة كافة؛ فلسطينيا عبر استمرار واقع الانقسام السّياسي
والجغرافي، وإسرائيليا جرّاء الموقف الإسرائيلي و"إجماعه العام"
المتوافق على قضية الاستيطان، وأخيرا جرّاء غياب الحدّ الأدنى من
الموقف الرّسمي العربي، القادر على ممارسة ضغوطه، ولو في حدود "أضعف
الإيمان" لجهة عدم إبداء الرضا، عن واقع الحال الذي أوصلته الإدارة
الأميركيّة بضعفها وعدم تماسكها أمام موقف إسرائيلي متصلب، عماده
الاستيطان أولا وأخيرا، حتى ولو باتت الدولة الفلسطينية مستحيلة، وهذا
هو ما تسعى إليه حكومة اليمين وائتلافها المتطرف: إفقاد الدولة
الفلسطينية كامل مقومات بقائها واستمرارها، وحشرها في زاوية من زوايا
"تطوير" السلطة الفلسطينية و"ترقيتها" كـ "سلطة للحكم الذاتي"، وإحلال
"السلام الاقتصادي بديلا لحل سياسي تفاوضي، وتقاسم كانتونات الدولة
وظيفيا عبر أشكال من الهيمنة الإقليمية، وتكريس واقع تشظيتها جغرافيا
وديموغرافيا. |