الحديث عن حل السلطة ليس بالجديد إلا أنه لأول مرة يتحدث رئيس
السلطة الفلسطينية عن إمكانية إعادة النظر بكل العملية السلمية بما
فيها حل السلطة، وهو حديث يتزامن مع وصول طريق التسوية لطريق مسدود،
لأنه لا قيمة لسلطة إلا إذا كانت سلطة سيادية لدولة مستقلة أو سلطة
تناضل من أجل الدولة والاستقلال، أما أن تصبح السلطة هدفا بحد ذاته
لشعب تحت الاحتلال فهذا ما لا يقبل به أي وطني ومن هنا كان موقف أبو
مازن الأخير، ولكن هل حديث الرئيس عن احتمال حل السلطة يدخل ضمن منطق
التفاوض وكورقة ضاغطة على من يرعى عملية السلام أم يعبر عن تفكير جاد
بالإقدام على هذه الخطوة؟.
كانت الوظيفة المُسطرة للسلطة في تفكير الوطنيين الفلسطينيين الذين
تبنوا خيار التسوية في زمن اشتد عليهم حصار الأخوة والأشقاء العرب في
الخارج، أن تشكل سلطة فلسطينية في الداخل حماية للمشروع الوطني
المحَاصَر خارجيا وليس أن تصبح هدف بحد ذاته، كان يُنظر لها ويراد لها
أن تكون سلطة مؤقتة وحاضنة لمؤسسات الدولة المستقبلية، أي أن تكون في
خدمة المشروع الوطني كمشروع تحرر وطني وبناء دولة، أما بالنسبة
للإسرائيليين فقد كان قبولهم ومن ثم تعاملهم مع السلطة مبنيا على سوء
نية وهي أن يتلهى الفلسطينيون بالسلطة لتحل عندهم محل الدولة ومحل
الوطن وأن تتحول لأداة تحمي أمن إسرائيل وتتحمل عنها عبء إدارة شؤون
الفلسطينيين بحيث تسقط صفة الاحتلال عن إسرائيل وتستمر إسرائيل عمليا
في ممارساتها الإحتلالية، كان الهدف الصهيوني تحويل السلطة لشاهد زور
على عملية ابتلاع الأرض وتهويدها ووأد الحركة النضالية الوطنية.
طوال سنوات السلطة الست عشر وصراع محتدم بين إرادة فلسطينية تريد
تحويل السلطة لرافعة للمشروع الوطني التحرري وإرادة صهيونية لحرفها عن
هذا المسار وتحويلها لقوات لحد إن لم يكن أسوء. دفع الرئيس أبو عمار
حياته ثمنا لتمسكه بالتصور والدور الوطني للسلطة الذي لا يتعارض مع
مرحلة التحرر الوطني، واليوم يدفع الرئيس أبو مازن ثمنا لتمسكه
بالثوابت ورفضه أن يتحول لرئيس شكلي لسلطة عاجزة عن القيام بوظائفها
الوطنية كما ذكر في المقابلة التلفزيونية الأخيرة مع تلفزيون فلسطين.
منذ أن قامت السلطة الفلسطينية عام 1994وهي محل جدل ونقاش، كان
الجدل بداية بين مؤيدي السلطة ومؤسسيها من أصحاب مشروع السلام ودعاة
التسوية من جانب ومعارضي نهج التسوية وخصوصا حركتي حماس والجهاد
الإسلامي من جانب آخر، ثم في مرحلة تالية أخذت الأصوات تتعالى حتى من
داخل أحزاب السلطة منددة بممارسات السلطة وما يعتريها من خلل مالي
وإداري، وآنذاك كان سقف كثير من القوى السياسية والمدنية وحتى أطراف
خارجية لا يتعدى المطالبة بإصلاح السلطة، بل إن حركة حماس دخلت
الانتخابات التشريعية في يناير 2006 تحت عنوان التغيير والإصلاح وتولت
حكومتها قيادة السلطة تحت عنوان الإصلاح. كان مطلب الإصلاح عنوانا تلتف
حوله كثير من القوى السياسية بما فيها قوى وشخصيات من منظمة التحرير
ومن حركة فتح ولم يكن احد يفكر بحل السلطة.
بعد الاجتياح الصهيوني للضفة الغربية ومحاصرة الرئيس أبو عمار
واغتياله عام 2004 ظهرت أصوات تتساءل عن مصير السلطة وجدواها وتعالت
هذه الأصوات مع حالة الانفلات الأمني التي سادت مناطق السلطة خلال عام
2005 واستمرت خلال عام 2006 بالرغم من إجراء انتخابات تشريعية، فهذه
الأخيرة أدت لمزيد من الانفلات ثم للانقسام والاقتتال الداخلي. كانت
مؤشرات انقلاب السلطة على المشروع الوطني وعجزها عن القيام بما كان
مأمولا منها شعبيا وفي تصور قيادات وطنية من أصحاب مشروع السلام
الفلسطيني أنفسهم تتزايد مع مرور الأيام، فبقناعة من بعض قيادات السلطة
وبجهل من البعض الآخر، وبحسن نية مبنية على إيمان بالسلام ومراهنة على
العملية السياسية من آخرين، أصبحت نقاط تقاطع السلطة مع الأهداف
الإسرائيلية تتزايد على حساب افتراقها عن نقاط التماس مع متطلبات
التحرر الوطني وتباعدها يوما بعد يوم عن القاعدة الجماهيرية العريضة في
الداخل والخارج، وقد ساعدت الدول المانحة على دفع السلطة بهذا الإتجاه.
ما كان يمنح السلطة إكسير الحياة ليس قناعة الناس بها من حيث
تعبيرها عن آمالهم وطموحاتهم الوطنية، بل التمويل الخارجي وارتباط حياة
قطاع كبير من الشعب بأموال السلطة سواء كرواتب أو خدمات أو رشي تقدم
لكبار السياسيين وقادة مؤسسات المجتمع المدني، مع مراهنات بأن عملية
التسوية قد تؤدي إلى حل ما في ظل غياب بدائل للتسوية. مع الانقسام
والقتال الداخلي على السلطة بين قوى يُفترض أنها قوى حركة تحرر وطني
بات واضحا أن السلطة، سواء في الضفة أو في غزة -تحولت لعبء على القضية
الوطنية بل عاملا معيقا لإنجاز المشروع الوطني التحرري.
حديث الرئيس أبو مازن عن إمكانية إعادة النظر بوجود السلطة لا ينفصل
عن إحساسه بالمأزق الذي باتت عليه السلطة وإحساسه بان إسرائيل باتت
توظف وجود السلطة بما يخدم أغراضها وإحساسه بأن وجود السلطة أصبح يُحسب
علينا وليس لنا وخصوصا أن الفلسطينيين كما يقول الرئيس، ويتحدى العالم
بذلك، قدموا كل ما عليهم من التزامات بمقتضى عملية السلام. حديث الرئيس
عن إمكانية حل السلطة متزامنا مع حديثه عن وجود سبع خيارات أمام
الفلسطينيين لا يدل عن حالة قوة أو وضع مريح للسلطة والمنظمة، بل يدل
عن وجود أزمة ومأزق حقيقي يواجه القيادة الفلسطينية نتيجة غياب شريك
إسرائيلي للسلام، وغياب إرادة دولية لتحقيق السلام العادل في المنطقة
من خلال الضغط على إسرائيل. الحديث عن سبع خيارات يدل عن تيه سياسي أو
إرباك وليس عن وضع مريح للفلسطينيين، فلا نعتقد أن الوضع الفلسطيني على
درجة من القوة بحيث يلجأ لترف الخيارات المتعددة، تعدد الخيارات
إستراتيجية يلجأ لها الأقوياء وليس الضعفاء، وحتى مع افتراض أن لدى
الفلسطينيين هذه الخيارات السبعة ففي ظل الانقسام الفلسطيني والعربي
فكل هذه الخيارات ستعيدنا إلى ما نتهرب منه وهو المفاوضات، في ظل
الانقسام لا بديل عن المفاوضات إلا مفاوضات أسوء.
ندرك صدقية ومصداقية الرئيس أبو مازن عندما يتحدث عن خيار السلام
وندعمه في تمسكه بالثوابت ونقدر كل ما يقوم به دوليا لحشد الدعم
والتأييد لعدالة قضيتنا وقد نجح في ذلك بحيث بات العالم كله يدرك بأن
إسرائيل هي العقبة في طريق السلام وبأن الشعب الفلسطيني ليس مجموعة
إرهابيين وقتلة كما تروج إسرائيل بل طلاب سلام، إلا أن كل ذلك لا يخفي
نغمة اليأس والإحباط عند الرئيس أبو مازن، فأن يتحدث رئيس السلطة عن
إمكانية حل السلطة هذا معناه قطع آخر ما يربط الفلسطينيين بالتسوية
السياسية. أن يتحدث الرئيس أبو مازن بما عهدنا فيه من قوة وصلابة ووضوح
في المواقف... عن إمكانية حل السلطة إنما يدل عن وجود مأزق خطير يواجه
عملية السلام والقضية الفلسطينية بشكل عام.
إن كان الحديث عن حل السلطة يقصد به تبليغ رسالة إلى المنتظم الدولي
مفادها أن صبر الفلسطينيين قد نفذ وأن العملية السلمية قد تنتهي بما قد
يخلط الأوراق في المنطقة وبالتالي يدفع العالم وخصوصا الرباعية للتحرك
بجدية لإنقاذ عملية السلام، فهذا أمر مفهوم ومقبول. ولكن إذا وصل الأمر
لمرحلة التفكير الجاد من هرم السلطة بحل السلطة – ولا نعتقد أن الأمر
وصل لمرحلة التفكير العملياتي بحل السلطة - فإن الأمر يحتاج لوقفة جادة
ومسئولة وطرح التساؤلات التالية:
أولا: هل يملك الرئيس السلطة والقدرة على حل السلطة؟
ثانيا: هل مجرد حل السلطة سيحل المشكلة ويُخرج القضية الوطنية من
مأزقها؟
ثالثا: هل حل السلطة سيشمل السلطة في قطاع غزة آم سيقتصر على سلطة
الضفة؟
رابعا: من سيملأ الفراغ السياسي الناتج عن حل السلطة؟.
خامسا: هل واقع منظمة التحرير الفلسطينية الراهن يؤهلها لملئ الفراغ
وقيادة الشعب الفلسطيني؟.
سادسا: ما هو مصير أكثر من 170 ألف موظف مدني وعسكري ينتمون
للسلطة؟.
الإجابة عن هذه التساؤلات قد يشكل كابحا أمام الداعين لحل السلطة
بشكل متعجل وقد يشجع على طرح حلول أخرى للخروج من المأزق قد يكون
إحداها إعادة النظر بالسلطة.
Ibrahem_ibrach@hotmail.com |