الإبداع وبيئة التسامح والاندماج

معرض الفنان التشكيلي طارق مارستاني في برلين

متابعة: عصام الياسري

شبكة النبأ: قبل أكثر من ثلاثة أشهر بدء الفنان التشكيلي طارق مارستاني المقيم في برلين التحضير لإنجاز أعمال معرضه الفني الجديد التي ستبلغ ثلاثين لوحة، تحت عنوان مميز "التسامح والإندماج يحصلان على وجه" Toleranz und Integration bekommen ein Gesicht.

واللوحات تشكل علامة فارقة لمعالجة موضوع الهجرة، الذي يثير بين الأوساط الألمانية، الاجتماعية والسياسية، الكثير من النقاش. وتمتاز أعمال الفنان مارستاني، الذي يقول: إن لفنه وظائف عدة، بالهارموني الذي يراعي تلك الوظائف ويربط بين التوازن البصري والقدرة الفنية في اللون والتكوين.

أيضاً الجانب الإنساني والعلاقة مع الإنسان والطبيعة من السمات البارزة في لوحاته. وفي أعماله وهو المهم يتجسد التجديد الذي يعطي شخصية الفنان، وعنده الضوء مصدر الألوان واللوحة ليست هي خطوط أو رسوم وألوان مجردة، إنما هي من حيث الأطر والأشكال والرمزية، نتاج ذو دلالات تعبيرية تفسر ذاتها فنياً وجمالياً.

ومن بين المواضيع الأخرى التي عالجها بهذه الطريقة، تهديد البيئة الطبيعية، والدعوة لعيش مشترك بين البشر، والحفاظ على المواد الطبيعية.. مع إنتقاله الى برلين، وكان أكثر من مجرد تغيير المكان، تعمقت رؤيته تجاه الموقف من المهاجرين المقيمين في ألمانيا، وخاصة جيل الشباب وقطاعات مجتمعية أجنبية واسعة.

الميدان الذي شكل لديه دوافع نوعية لمعالجة موضوع التكامل الثقافي بطريقة فنية جديدة، تشكل أنساقاً خطابية متمردة.

يكتسب مشروع الفنان مارستاني حول التسامح والإندماج أهمية بالغة منذ الإعلان عنه، إذ تناولته وسائل الإعلام بكثافة تجاوزت حتى الآن على صعيد أوروبا المئتين تقرير، بين المرئي والمسموع والمقروء.

والمشروع الذي لم يسبق تقديمه بهذا الإطار الفني النوعي، يتناول لقطات إستعارية "لوجوه" Porträt شباب أجانب فضلا عن مهاجرين ألمان من دول مختلفة، تتراوح أعمارهم ما بين 7 و15 سنة، ويبلغ حجم "الصورة" سم 60 X 70 " ويتم الرسم بالزيت. وسيدعم المشروع لأول مرة كُتاب وسياسيون وشخصيات أخرى من مختلف أنحاء برلين. وبعد عرضه في برلين في الفصل الثالث من العام المقبل سيتنقل بين مختلف المدن الألمانية وحول العالم أيضاً. وبهذه الطريقة، ستسنح الفرصة لإجراء مناقشات تأملية من نوع خاص بين الألمان والناس الأجانب.

ويتم التعبير عن مجموعة واسعة من التحليلات والمقترحات من جميع أصحاب المصلحة بصراحة منفتحة تجسد الأمل لمستقبل مشترك.

ويتوقع أن تتجه صور "وجوه من هو الآخر" نحو الشروع في إجراء تغييرات على المفاهيم التقليدية بين الأفراد والثقافات المختلفة. والجدير أن أعمال الفنان مارستاني تنطوي على جمالية الربط بين الإيقاع والحركة وفيها الكثير من الإشارات الحوارية الدافئة ومخضبة بألوان ترمز إلى عنصر الحياة والتفاؤل بالإضافة إلى مظهر الخيال وإرتداء الوجوه إبتسامات عفوية. إنها حديث الحكايات والأساطير في هدوء السكينة.

 ومشروع المعرض على صعيد الشكل والمضمون يشكل علامة غير عادية، ولم يطرق فنان من قبل قضية من هذا النوع بهذه الطريقة الخلابة فنيا. في اللوحة يتجلى العمل البنائي التحفيزي، وإستثمار الفنان كل مساحة لجعل "التكامل والتسامح" شارة بارزة تنم عن رغبة في التصدي للتغيير. فهو لم يتقيد بتسجيل الإنطباعات المرئية وحسب، إنما يجسد بإتقان في لوحاته "الواقعية المعاصرة" ويغرس فيها ايقونات تفرض إتجاه العين لا إرادياً نحوها. إنه يتقن اللعب مع الأشكال والألوان التي تمنح المشاهد واحة من التفكير والإستمتاع.

في عام 2000 دعت الحكومة الألمانية داخل البرلمان إلى تقديم تقرير سنوي بشأن الهجرة وسبل معالجة الظواهر السلبية التي تعيق عملية الإندماج والتكامل الثقافي بين مجتمعات مختلفة الحضارات والتقاليد والإنتماء البيئي والديني والعرقي.

ومواضيع الهجرة والإندماج، من الأمور المثيرة التي تتباين بشأنها وجهات النظر على الصعيد الأوروبي والألماني. وتعود أسباب الإختلاف حول هذه المسائل إلى مجموعة عوامل أهمها: توصيف الأجانب على أنهم "كتلة" في حين أنهم بشر لهم أسماء ومرجعية حضارية، وترسيخ مفهوم إفتقار هذه الكتلة "الغرباء" خلفية ثقافية، أو تفسير مصطلح الإندماج في أحيان كثيرة على أنه دعوة للإنصهار" الذوبان" وهو ما لا يقبله الوافدون الأجانب لهذه الدول، كونه مثيراً للمشاعر ويتناقض مع مفهوم التسامح والتكامل الثقافي والاجتماعي الذي تدعو إلى تحقيقه المؤسسات الأوربية. وتشكل الآراء من "خلفية الهجرة" Migrationshintergrund  كواحدة من أكثر المفاهيم الشائعة التي تدعو للريبة من وجهة نظر الكثيرين في ألمانيا، أحد السياقات التي تقف وراء تفشي التطرف والسلوكيات السلبية لدى المواطنين تجاه الأجانب. كمواقف " تيلو زاراتسين" Thilo Sarrazin وزير مالية حكومة برلين ورئيس مجلس إدارة البنك الفيدرالي الألماني السابق المعادية للاجانب، والتي لا تتناسب مع أنساق وأسس الإندماج والتسامح، التي يفترض أن تكون الدعوة لها مسؤولية كل مواطن في ألمانيا، بغض النظر عن جنسه ولونه أو دينه. في هذا الإتجاه سار الفنان التشكيلي السوري المبدع طارق مارستاني ليلامس بريشته المغمسة بألوان غزيرة المعاني قماشة اللوحة الـ "كنفاس"، يرسم وجوه شباب من أجناس مختلفة. جاءوا من أجزاء أخرى من العالم ليجعل من الإستعارة البصرية وسيلة تدفع باتجاه تقويم المشهد، وفهم أفضل للحياة المشتركة والعيش معاً بسلام. وأراد بأدواته التعبيرية ووسائل فنية ذات دلالات رمزية، ملء الكلمات الغامضة لجعل الناس عبر الصورة يقتربون بصرياً من الآخر "المهاجرون الغرباء" بالشكل الذي ينسجم مع مفهوم الإندماج والتعايش الثقافي والاجتماعي.

يحتل الفنان طارق مارستاني شهرة عالمية أسست لها خبرته الفنية الطويلة في هذا المجال، ويمارس عمله الفني الآن من مرسمه الجديد في برلين. ولد في دمشق، وذهب في السبعينات، لإكمال تعليمه في أكاديمية الفنون في فلورنسا، إيطاليا. في مطلع الثمانينيات، انتقل مركز حياته إلى ألمانيا، ومكث سنوات متنقلاً بين براونشفايك، هامبورغ و تسيلله. حاز على جائزة الفن مينو دا فيزولي في فلورنس وجائزة زيكنكن Sickingen للفن لمدينة كايزرس لاوترن في ألمانيا. أقام الكثير من المعارض الفنية منها في: فلورنس، روما، كاتانيا، هامبرك، درسدن، برلين، تسلله، فيينا، دمشق، دسلدورف، لوس أنجلس. كَتب عن فنه عدد كبير من نقاد الفن، وتناولته منشورات المتاحف وأهم الموسوعات والمجلات الفنية العالمية. أقام العديد من المشاريع الفنية الكبيرة، مثل تحية إلى بيرو ديلا فرنثيسكا الفنان الإيطالي العظيم. ومشروع المربع ونظرية آينشتاين في الفن، ومشروع الخلق، ومشروع التوازن والفوضى في الطبيعة.

وفي مطلع عام 2010 فتح مرسمه الجديد في العاصمة برلين وواجه الكثير من التحديات الجديدة، الفنية، وأيضا الاجتماعية. الأمر الذي جعله حريصاً على التواصل بين الأفراد والجماعات لنشر رؤى جديدة من الوعي والتسامح بوسائل تعبيرية تحمل قيم حسية مليئة بالإيقاع اللغوي.

مشروعه الحالي حول "التسامح والإندماج" يأخذ وجهاً فنياً، يتخطي الظواهر الشاذة، ويلخص القيم الفنية والإنسانية، العنصر الأساس الذي جعل لوحته مميزة في العالم الفني ـ كما يقول الدكتور شتاينباخ Prof. Dr. Udo Steinbach أثناء إفتتاح مرسمه في برلين.

لوحات "وجوه" لمشروع الفنان مارستاني حول التسامح والإندماج، تبعث ألوانها مجموعة متنوعة من الأشكال على نحو كامل من التناغم والإنسجام، وتظهر عن سيماءات خلاقة تعطي المزيد من العمق الروحي، وتستبطن الوجود البشري في بعده الانساني. تناسق فني يتداول إنشاء الكون وفرز حالات التوتر.

ومن المعروف بأن أعمال مارستاني تتميز بألوان صوفية معاصرة، وتمتلك لغة بصرية بالغة الجمال والشاعرية، وإذا كان جديراً بنا أن نسأل: لماذا الشباب؟ فثمة معطيات تقودنا إلى أن: معهم يتم التصميم لصناعة المستقبل، ونحن بحاجة إلى أن يدركوا هذه المهمة كما يقول الفنان طارق مارستاني أثناء حديثنا معه.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 1/كانون الأول/2010 - 24/ذو الحجة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م