ثمة سؤال عميق ومركزي يثار باستمرار في الدائرتين العربية
والإسلامية، مفاده لماذا لم نتمكن كشعوب وتجارب ثقافية وسياسية عديدة،
من بناء مؤسسات عامة مستقرة، بحيث تنتقل مسؤولية إدارتها وتسييرها من
جيل لآخر ؛ بحيث ينطلق الجيل الجديد في إدارة هذه المؤسسة من نقطة
النهاية التي وصل إليها الجيل السابق ؟!
وهل عدم قدرتنا على بناء العمل المؤسسي وطغيان الأعمال الشخصية
والفردية، وقدرة بعض الذوات الشخصية على التهام المؤسسة وتوظيفها بما
يخدم مصالحه وأغراضه الخاصة والشخصية، هو بفعل عوامل ثقافية أو بسبب
طبيعة التربية والتنشئة الاجتماعية، أم أن هناك أسبابا أخرى تحول دون
قدرتنا على بناء عمل مؤسسي مستقر وثابت؟ ولماذا تمكنت الشعوب الغربية
من بناء مؤسسات مستقرة في كل حقول الحياة ؛ بحيث انتقلت من طور حضاري
إلى طور آخر أكثر تميزا وحيوية وحضارة؟
الفردية ليست نكراناً للذات، أو إعداما لطموحاتها وآمالها القريبة
والبعيدة، وإنما هي حضور دائم وحيوية مستديمة وطموحات لا حدود لها، مع
قانون شفاف وواضح، يساوي بين الجميع، ولا يحابي أحداً.
في تقديرنا أن الإجابة العميقة والدقيقة حول أسباب عدم قدرتنا على
بناء مؤسسات مستقرة في فضائنا الثقافي والاجتماعي والسياسي، تتجاوز
مصالح الأفراد الضيقة، وتعمل من أجل المصالح العامة والموضوعية، هو أحد
المداخل الضرورية لاكتشاف طبيعة الخلل الذي تعانيه مجتمعاتنا على أكثر
من صعيد ومستوى..
فالتجربة الغربية الحديثة، استطاعت أن تتخلص من حروبها الدينية
والقومية، وتبني لنفسها نظاما استيعابيا لكل تنوعها وقومياتها، بحيث
تحولت شعوب الدول الغربية من شعوب متخاصمة ومتحاربة مع بعضها البعض،
إلى شعوب متعاونة مع بعضها البعض، ومتنافسة في طريق البناء والتقدم
والعمران..
ونحن لا زلنا كشعوب عربية وإسلامية، نرزح تحت نير خلافاتنا
ونزاعاتنا الدينية والمذهبية والقومية، ولا تلوح في الأفق أية قدرة
حضارية لدينا لتجاوز هذه المحنة وحروبها بكل تداعياتها الكارثية
ومآزقها الراهنة والمستقبلية.. كما أن التجربة الغربية تمكنت من صياغة
رؤيتها الحضارية للسياسة وإدارة الدول وفق نسق حضاري – ديمقراطي،
تجاوزت من خلاله نزعات الاحتكار والهيمنة والغطرسة واختزال الدولة في
شخص الإمبراطور.. فانتقلت بفعل عوامل عديدة من دولة الإمبراطور إلى
دولة المؤسسات، ومن نظرية الحق الإلهي الذي كانت تحتكره الكنيسة إلى
نظرية العقد الاجتماعي، التي تسمح وتطالب الشعب والمجتمع بممارسة دوره
في اختيار حكامه وشكل نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي..
بينما لا زلنا نحن لم نتجاوز خلافاتنا التاريخية، ولا زلنا أسرى
حروب وأحقاد آبائنا وأجدادنا..
لماذا استطاعت الشعوب الغربية، أن تغير وضعها الحضاري، وتنتقل إلى
مرحلة أخرى ؛ بحيث أضحت اليوم هي رائدة التقدم والتطور في أغلب مجالات
الحياة؟!
ولماذا لم نتمكن نحن أن نتجاوز عيوبنا ومآزقنا، ولماذا لا زلنا أسرى
تخلفنا وتقهقرنا الحضاري؟
يبدو لي أن أحد الأسباب العميقة لهذه المفارقة الحضارية هو التالي:
إن الشعوب الغربية استطاعت عبر ثقافتها وتقاليدها الاجتماعية
وأنظمتها السياسية أن تعيد الاعتبار للفرد / المواطن في الشعوب الغربية..
بعد أن ألغته الكنيسة، بفعل نظامها الشمولي وكرهها للحرية ومزاولة
الأفراد لمسؤولياتهم العامة..
ولقد أجاد الأستاذ (لويس دومون) في رصد حركة التطور الفكري
والأيدلوجي تجاه مفهوم الفردانية في التجربة الغربية في كتابه الموسوم
ب( مقالات في الفردانية – منظور أنثروبولوجي للأيدلوجية الحديثة )
والذي قامت المنظمة العربية للترجمة بترجمته وطباعته. فالتحول الحضاري
في التجربة الغربية، بدأ انطلاقته مع بداية التحول الأيدلوجي باتجاه
الرؤية والموقف من الفرد والفردانية كمفهوم ودور وموقع..
فالفردية التي مورست على نحو إيجابي في التجربة الغربية، بعيدا عن
الأثرة والأنانية والتفلت من الأنظمة والقوانين، هي التي قادت التجربة
الغربية، إلى اجتراح فرادتها، وبناء مؤسساتها السياسية والمدنية
والاقتصادية والاجتماعية على أسس صلبة؛ بحيث ضمنت لهذه الشعوب
الاستقرار السياسي مع حيوية اجتماعية ودينامية علمية، تراكمت فيه
الخبرة والتجربة والعطاء، فأنتجت مؤسسات ذات جذور عميقة في مجتمعها،
وحريصة على مصالحه الكبرى والإستراتيجية.. فالفردية ليست نكراناً للذات،
أو إعداما لطموحاتها وآمالها القريبة والبعيدة، وإنما هي حضور دائم
وحيوية مستديمة وطموحات لا حدود لها، مع قانون شفاف وواضح، يساوي بين
الجميع، ولا يحابي أحداً..
فالطموحات الفردية قادت إلى الاكتشاف والانجاز والابتكار والاختراع
والجد والاجتهاد في البناء والعمران..
والقانون العادل ضمن حقوق الجميع، ومنع التعديات، وحال دون الطغيان
والاستئثار.. فكانت النتيجة: التقدم العلمي والاقتصادي والتكنولوجي،
والاستقرار السياسي والمدني وتداول مؤسسي للسلطة والقوة بين مختلف
مكونات النخب في التجربة الغربية..
فالفردية وفق المفهوم الحضاري، هي أحد العوامل الأساسية التي قادت
الغرب للتطور وصناعة المنجزات الحضارية الرائدة..
من هنا فإننا نعتقد أن الطريق إلى بناء مؤسسات مستقرة في فضائنا
وتجربتنا، يتطلب العمل على إعادة الاعتبار لمفهوم الفردية في بيئتنا
الثقافية والاجتماعية.. لأن قمع الأفراد وقتل طموحاتهم وتطلعاتهم، لا
يفضيان إلى بناء مؤسسات، بل يؤديان إلى سديم بشري، ليس قادرا على فعل
شيء ذي بال على الصعيد الحضاري والمؤسسي..
ونكران الذات كقيمة، لا يؤسس لحيوية مستديمة ودينامية قادرة على
اجتراح فرادتها التاريخية.. وإنما هي قادرة على تكرار تجارب الآخرين
بدون روحها وحيويتها، واستنساخ خطوات الآخرين ومبادراتهم، دون ظرفها
الاجتماعي والتاريخي، ودون الكتلة التاريخية التي تقف وراءها، وتمدها
بأمصال الحياة والحيوية والإنجاز..
فالعلاقة جد ضرورية وحيوية، بين إعادة الاعتبار إلى الفردية
وممارستها على نحو إيجابي وحضاري، وبين العمل المؤسسي.. فالمؤسسات لا
تبنى على أنقاض الأفراد، بل تبنى على حضورهم وشهودهم وفعاليتهم الذاتية..
وحينما تغيب الفردية، يبقى السديم البشري، ولا يمكن للسديم البشري،
أن يبني مؤسسة، أو يشيد تجربة متميزة..
والفردانية الحديثة في التجارب الحضارية المعاصرة، هي عنصر الحيوية
والفعالية فيها، كما أنها منصة الانطلاق للإبداع والابتكار والتميز..
وحينما ندعو إلى ضرورة إعادة الاعتبار إلى مفهوم الفردية، فإننا
ندرك أهمية أن تمارس هذه الفردية على نحو إيجابي بعيدا عن الأنانية
والانحباس في المصالح الضيقة..
والممارسة الإيجابية تستند إلى قيمة المسؤولية الذاتية والعمل
الصالح، وأن الله سبحانه وتعالى لن يثيبنا على عمل غيرنا، وإنما على
عملنا، وأن الحساب الأخروي سيطال أعمالنا وأدوارنا بعيدا عن أي اعتبار
آخر.. فإذا أردنا الفلاح الدنيوي والأخروي، فينبغي علينا كآحاد أن نقوم
بدورنا في هذه الحياة، ونتحمل مسؤولية وجودنا.. هذه في البيئة والخلفية
الفلسفية والثقافية، لممارسة الفردية على نحو إيجابي..
فتعالوا جميعا إذا أردنا النجاح، واجتراح تجربتنا الذاتية، وبناء
مؤسسات تتجاوز حدود ومصالح الأشخاص الضيقة، أو التي تدور مدار هؤلاء
الأشخاص، أن نعيد الاعتبار للفرد في مجتمعنا، ونتعامل معه بوصفه حجر
الأساس في كل مشروع..
وحدها الفردية الإيجابية، هي التي تهيئ الأرضية والمناخ لصناعة
الفعل المؤسسي المتميز والمستقر في فضائنا السياسي والاجتماعي
والثقافي.. |