صحافتنا الثقافية ومخاطر القيّم الموروثة

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: يعتبر التجديد والتطلع الى المغايرة من أهم المزايا التي توافرت عليها الطبيعة البشرية، ولهذا لن يركن ولا يخضع الانسان لآلية العيش المتزمتة، ولا يقبل بسكونها وثباتها مهما كانت الوسائل والاسباب الضاغطة في هذا الاتجاه، فهناك دائما فسحة للتغيير وهناك حلم لحظوي يرافق الانسان كظله، يدفعه نحو البحث عن أنماط ثقافية مختلفة –ليس من اجل الاختلاف المجرد- بل لابد أن ينطوي الاختلاف على مزايا أفضل، وهذا ديدن الانسان منذ أن بدأ مشوار الحياة.

في فترات معينة عانى العراقيون من ثبات في الرؤية والحركة والانتاج في المجالين الفكري والمادي، وكانت السياسة في تلك الفترات القريبة والمنظورة والبعيدة، تسوّر حركة الحياة بقوى مرئية وخفية كي تسيّرها في مسار واحد، قار وساكن، تتشابه فيه الرؤى والاعمال معا وتذوب في بوتقة واحدة تمثل مصالح السلطة الحاكمة، بحيث تصبح حركة المجتمع بمجملها تحت رحمة الحاكم وحاشيته ومؤازريه، ولعل النقطة الأخطر في هذا الجانب تتمثل بخضوع الثقافة ومكوناتها لسطوة السلطة وعدم قدرتها على التحرك الحر كونها تمثل المفتاح الأنسب لبوابة الخلاص من العبودية السياسية والثقافية.

وجاءت الفرصة المرتقبة بعد نيسان 2003، وأفاد منها الساسة العراقيون في تأسيس التجربة المغايرة وأطلقوا عليها تسميات عديدة وكبيرة تمحورت جلها حول النهج الديمقراطي الجديد، ولسنا هنا في مجال تقييم المعطيات السياسية، ولكن الفرصة ذاتها أصبحت متاحة للمثقفين العراقيين ابتداء من التأريخ المذكور أعلاه، وحدثت هزة التغيير الثقافي، فهزت بدورها جميع مفاصل الثقافة العراقية، ومثلما تهاوت أركان السياسة الساكنة ونهضت من تحت ركامها تجربة جديدة، يمكن أن نطلق الوصف نفسه على الثقافة العراقية، فقد تهاوت معظم الاركان الساندة لثقافة ما قبل نيسان 2003 وبات من الواضح للنخبة الثقافية أن الفرصة أصبحت متاحة لتأسيس مسار ثقافي مختلف ومتحرك في آن، على الرغم من أن العقبات ستظهر تباعا في طريق الثقافة الشاق والطويل معا، ولكن ليس ثمة خيار آخر، لأن خسارة هذه الفرصة تعني خسارة ثقافية لايمكن أن تعوَّض خاصة أننا أصبحنا (طلقاء) في فضاء ثقافي طليق ومنفتح على آفاق لا محدودة، بعد الحصار الذي عانته الكلمة والفكر معا، بمعنى أن الثقافة تم عتقها كليا من سطوة السلطة وصار بمقدورها أن تؤسس لمسار آخر جديد مغاير ومنفتح على اتجاهات تنم عن تعدد خيارات الحرية ذاتها.

ولكن ستظهر معوقات كثيرة كما هو متوقع، فقد ظهر المثقف المزيف والباحث عن المنفعة الفردية قبل الثقافية، واختلطت الأسس الخاطئة مع الصحيحة، مثلما اختلط المثقفون المعنيون مع غير المعنيين، وبدأ الغربال يهتز ويفضح الدخلاء ويفرز الأصلاء، وهكذا صار الصراع قويا وواضحا ضمن معايير القيم التي تحاول أن تؤسس لثقافة رصينة.

وينسحب هذا بطبيعة الحال بقوة على الصحافة الثقافية، وهكذا باتت المعاناة جلية بين القيم الموروثة والقيم الجديدة التي لم تقوَ على الوضوح والاستقلالية والنقاء بعد، ومع أن التداخل بين السياسة والثقافة والاقتصاد والاجتماع وعموم المجالات الحياتية يسهم بحالة من التناقل القِيَمي بين هذه المجالات مجتمعة، إلا أن ساحة الثقافة بدت الاسرع تخلصا من التصادمات والاسرع استيعابا لهول الزلزال الذي ضرب أسس واركان العراق كافة، فبدأت تتبلور قيم جديدة (تتراوح بين النقاء والمخادعة) لتؤسس لمسارات عديدة في الثقافة العراقية ومنها الصحافة الثقافية التي جربت ولأول مرة تعدد النوافذ الثقافية حتى بلغت العشرات بعد أن اقتصر حضورها وفعلها على بضع صفحات ثقافية محاصرة بالتوجه الخادم للسلطة السياسية، الامر الذي أفقدها قوة الحضور والفعل والتحريك، وجعلها ضحية التنميط المسبق، فكانت فقيرة قارة ومعروفة التوجهات سلفا.

ولكن هل تمكنت الصحافة الثقافية الجديدة أن تقف على قدميها، وأن تعلن مزايا تجربتها بلا نواقص او غوامض في هذا المفصل او ذاك؟ وهل اكتملت منظومة القيم الحافظة لتجربتها؟.

يبدو أن صحافتنا الثقافية مرهونة بحالة التناقل القيمي بين الفعل السياسي والثقافي، بكلمة أوضح أن الاختلال في الفعل السياسي ينسحب تلقائيا على الفعل الثقافي، ولا خلاص كلي من هذا الترابط القسري، وهذا ما يفسر النجاح الجزئي للصحافة الثقافية في الافلات من أحادية التوجه والمسار، والانفتاح المهم على التجارب الانسانية الخلاقة، وهو أمر كانت صحافتنا الثقافية تحلم به في ظل السيطرة الكلية للسياسة على الثقافة بكل فروعها.

وهكذا يمكن تأشير حالات نجاح لصحافتنا الثقافية وتأسيس منظومة قيم تصب في صالح المثقف والثقافة معا، ولا يعني هذا الوصول الى حالة الاكتمال المأمولة، لكن لا احد منا يمكنه إنكار الفعل الثقافي المتوهج لبعض الصفحات الثقافية التي أسهمت بوضوح في التأسيس الجديد لصحافة ثقافية حيوية تتعدد فيها الرؤى والاتجاهات ومحاور الاختلاف والتفاعل والتنافس المتفَق على قواعده مسبقا، كما أننا لا يمكن أن نغض الطرف عن حالة الانفلات والفوضى التي عمت الصحافة الثقافية بسبب الاجواء العشوائية التي أفرزتها الاحداث السياسية.

ولكن يبقى الأمل قائما، وربما شاخصا، في أن تنهض الصحافة الثقافية اليوم بدورها المحدث والمتعدد المسارات والرؤى، وهي خطوة مهمة وجادة ومرتقبة في آن، لا نصاف المثقف والثقافة العراقية، وتأشير وتعضيد المواهب المبدعة التي تستحق الدعم والاشادة والترسيخ، وذلك بتقديم الجهد الكافي لصناعة المبدع النجم، وتسويقه (اقتصاديا) والتعامل مع الأمر بصيغة الربحية المحسوبة مسبقا، لكي يتخلص المبدعون العراقيون من حالة التهميش الرسمي التي يتعرضون لها –وهي حالة مزمنة- رافقت الثقافة العراقية طويلا، على خلاف ما يجري مع المثقفين والمبدعين في المجتمعات المتقدمة التي تأخذ على عاتقها دعم المثقف وتحصينه من ضغط الفقر والعوز المادي، وهو أمر يتعلق بمنظومة القيم التي لابد من ترسيخها بين الوسط الثقافي من جهة وبين الاوساط التي تتعامل بوعي مع أهمية الثقافة ودورها في حياة الشعوب.

ولابد أن نؤشر هنا خطورة الانصياع للقيم الموروثة في صحافتنا الثقافية، ومنها حالات الانتفاع المتبادل –وهي حالة لا تحتاج لشرح- والتركيز المصطنع على اسم ما لا يدعمه منجز ابداعي ثر، والابتعاد عن تضخيم ذوات القائمين التنفيذيين في المؤسسات الثقافية خاصة الرسمية منها، وهو مرض لا يليق بصحافة ثقافية تؤسس لمنظومة قيم حيادية لائقة.

على أننا لابد أن نؤشر في المقابل خطوات داعمة لصحافتنا الثقافية، خاصة ما تتمتع به بعض الصفحات الثقافية من مهنية راقية، بسبب إدارتها من لدن كوادر مؤهلة، قامت ولاتزال بدورها المهم في ادارة وتفعيل المنتج الابداعي عرضا وتسويقا، وكثير من المتابعين يشهد برصانة هذه الصفحات وقدرتها على التعامل المحدث مع الابداع والمبدعين من خلال مهنيتها العالية وانفتاحها الفكري غير المشوب بالتردد.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 30/تشرين الثاني/2010 - 23/ذو الحجة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م