يبدو أنه قد حل العصر الذي يمكن فيه
للفلسفة أن تنشغل بالدين بأكثر حرية وبصورة أجدى وأنجع
إذا نحينا الدين جانبا واقتصرنا على دراسة الفلسفة كمجال للفكرة
الشاملة فإنه من الطبيعي أن نقول بالتخاصم بين الفلسفة والدين باعتبار
أن الأولى تهتم بالنقد والحرية والثاني يؤثر التسليم والإتباع.
ان الروح تتمثل نفسها في الدين على نحو خيالي وبتوسط الأسطورة وان
التمثلات الأسطورية هي منتجات خيالية ابتكرها الكهنة لخداع الناس
ولتحقيق مآربهم الضيقة، ولكن الروح قد تتصور نفسها في الفلسفة على هيئة
فكر بالفعل وتنتقل بالإنسان من حال اليقين الحسي إلى الوعي بالذات،
وهذا دليل آخر على وجود خلاف بينهما. علاوة على أن الدين أنتج لاهوتا
عقليا وكلاما جدليا أبعد الناس عن الإيمان الصافي والرحب وعن التجربة
الروحية المتفدقة، بينما الفلسفة أنتجت دينا مدنيا يتلاءم مع شؤون
الدنيا ويدعم القوانين الاجتماعية والحقوق الوضعية، وفي ذلك تباين ثالث.
لقد ترتب عن هذا الوضع المتفجر دخول اللاهوت الكنسي في صراع مع
الفلسفة وخشيته منها ودخول الفلسفة في صراع مع الدين الشعبي وحذرها
الشديد منه وصارت الفلسفة معادية للدين والدين معاديا للفلسفة وبدا
وكأن الدين يطلب من الإنسان التخلي عن الفلسفة ليكون مؤمنا حقيقيا وبدا
أيضا وكأن الفلسفة تطلب من الإنسان التخلي عن الدين ليصير فيلسوفا
بإطلاق.
زد على ذلك أن الفلسفة حينما تتدخل في الشأن الديني كثيرا ما تفسده
وتهدمه وتدنسه حسب رجال الدين وان الدين حينما يتدخل في الشأن الفلسفي
كثيرا ما يحرمه ويعطله ويكفره حسب العديد من المفكرين الأحرار
والفلاسفة النقديين.
كما تحدث خصومة وتحدي بين العقل الإلهي والعقل الإنساني وبين علوم
الدين النقلية والعلوم الصحيحة والطبيعية التي يبدعها الاجتهاد العقلي،
إذ في نظر المتدين يوجد في الدين من الإعجاز والأسرار ما يفوق قدرة
العقل البشري، وفي نظر الفيلسوف يوجد في الإبداعية الإنسانية من قدرة
على الخلق والابتكار ما لم يخبر به ظاهر الدين.
علاوة على أن الحقيقة في الدين تنزل من الفوق إلى التحت ومن السماء
إلى الأرض عن طريق الرسالة التي تحملها الملائكة وعبر واسطة الرسل
والأنبياء والذين يظهرون المعجزات ويبينون علامات على صدق ما يوحى لهم
وما أوصوا به من طرف الله، وهنا تتمثل مهمة الإنسان المخلوق في الإصغاء
والتطبيق والحمد والشكر. في حين أن الحقيقة في الفلسفة تصعد من التحت
إلى الفوق ومن الأرض إلى السماء وتكمن في قرارة الذات وتحمل علامتها في
ذاتها وتبدعها بنفسه وتمنحها للعالم.
لكن هل هذه الخصومة بين الفلسفة والدين هي أمر طبيعي وشيء متوارث أم
هو أمر طارئ وخطأ وقع التسليم به دون تحري أو نقاش؟ وألا يسبب لنا
التقريب بين الفلسفة والدين إرباكا وحرجا؟ وهل يمكن الإقرار بوجود وحدة
بين الفلسفة والدين؟ وكيف نفهمها إذا ما كان الخلاف بينهما قائما
والتنافي مستمرا؟
والحق أنه إذا تتبعنا التكوينات الروحية للتفكير والمنابت المعنوية
للتفلسف والتجليات الأخرى للروح والمصادر الميثولوجية والرمزية للعقل
فإننا نتجاوز كل هذه المعارك والالتباسات ونجد تداخلا وظيفيا وصلة قربى
بين الطبيعة الحقيقية للدين والجوهر الصافي للفلسفة ويظهر لنا الإلهي
فيما ينتجه الإنسان ويتجلى لنا الإنساني فيما يبعثه الله. فهل ترك هيجل
العلاقة بين الدين والفلسفة بهذه الكيفية التنابذية أم أنه أوجد صلة
جديدة بينهما على غير عادة الفلاسفة الذين سبقوه ورسم بذلك الطريق الذي
سيتبعه الطرفين في المستقبل؟ أليس من الأجدى أن ننظر إلى هذه العلاقة
بصراحة ونزاهة وعلى نحو فعلي دون نفاق أو اخفاء وتمويه؟
في الواقع نجد خلال التاريخ أن الدين والفلسفة كثيرا ما كانا شريكين
أو خصمين سواء في عصر اليونان أو زمن الرومان، كما أن تعارضهما سمة
هامة جدا في تاريخ الفلسفة، فمجرد زعم أو ادعاء أن الفلسفة كانت تزدرى
الدين، إذ الواقع أن الفلسفة لم تهمل الدين إلا في الظاهر فحسب. ففي
التاريخ لم يحدث أبدا أن ترك الواحد منهما الآخر دون أن يمسه.
إن التظاهر بعدم الرغبة في تناول الظاهرة الدينية بالتمحيص والتأكيد
على ضرورة الاحترام والتقديس لمحور الإيمان وإبداء الرغبة في عدم
المساس يعطي الانطباع بأن الفلسفة في جوهرها تعارض الدين وتنقلب عليه
كردة فعل على تجاهل رجال الدين الأفكار الفلسفية وتحرجهم الشديد من
صدقية براهينها، ولذلك ينبغي على الفلسفة أن تتوجه دون تردد الى
الاهتمام بالدين دراسة وتفهما.
هكذا يتبين لنا أن العلاقة بين الدين والفلسفة وثيقة جدا والقواسم
المشتركة بينهما كثيرة وذلك لكون الدين يرتبط بالفلسفة ارتباطا مباشرا
ويتضمن قضايا فلسفية وينتمي إلى تاريخ الفلسفة، كما أن الفلسفة تشارك
الدين في الاهتمام بالروح الكلي وتتضمن مسلمات دينية وتنتمي إلى
الحقيقة المطلقة للدين وحلت محله وأخذت عنه المشعل في العديد من
المهمات والوظائف وساهمت في تنميته وتطويره وعقلنته ومكنته من الوعي
بذاته. وعلى الرغم من كثرة الاختلافات التي تنشأ بينها تاريخيا إلا أن
الفلسفة والدين يمتلكان العديد من النقاط المشتركة ويتبادلان الخدمات
في الكثير من الأحيان.
إذا كانت العلاقة بين الفلسفة والثقافة العلمية شكلية وخارجية فإن
العلاقة بين الفلسفة والدين مضمونية وترتبط بالمحتوى والغايات وذلك
لكون مضمون الدين ليس هو الدنيوي بل انه يواجه اللامتناهي وان الأفكار
الدينية مع الشعر والميثولوجيا والأسرار هي أكثر تكوينات الروح قربا من
الفلسفة.
اللافت للنظر أنه يوجد موضوع مشترك تتقاسمه كل من الفلسفة والدين
وهو الحق على نحو مطلق ويسميه الدين الوجود الأسمى وتنعته الفلسفة
بالجوهر المطلق والعقل الكلي. كما يطمحان إلى نفس الهدف وهو تحقيق
المصالحة مع المطلق والاتحاد بالفكرة الشاملة على قدر طاقة الإنسان.
لكن ماذا لو افترضنا خلو الدين من الفكر وخلو الفلسفة من المسلمات
الماورائية، وماذا لو كان الدين مجرد معطى طبيعي أو تجربة مدنية
والفلسفة اقتصرت على أن تكون مجرد تأمل مثالي أو تجربة مذهبية روحانية؟
الجواب هو أن الفلسفة والدين يتحدان في المضمون والغاية ولكن
يختلفان في الشكل. ولكن على الرغم من ذلك نعثر داخل الدين على فلسفة
عفوية تعبر عن نفسه بشكل مباشر ونعثر كذلك في الفلسفة على عناصر دينية
ومعتقدات ضمنية تمثل الفرضيات القبلية لكل رؤية للكون وتشكل شروط أصلية
في تحديد طبيعة الذات والحقيقة والقيمة.
من هذا المنطلق ان الفلسفة تشارك الدين في المضمون والحاجة
والاهتمام: فموضوعها هو الحقيقة الأبدية، انه الله لا غير، انه شرح
الله لا غير، إن الفلسفة لا تشرح غير ذاتها عندما تشرح الدين وهي تشرح
الدين عندما تشرح ذاتها. إنها الروح المفكر الذي ينفذ إلى هذا الموضوع،
إلى الحقيقة، وهي من بعض الوجوه تبلغ في هذا الانشغال بالدين إلى
الاستمتاع بالحقيقة والى تطهير الشعور الذاتي، وهكذا فإن الدين يطابق
الفلسفة في نفس الموضوع.
إن الدين هو طريقة يعي بها الإنسان المطلق اللامتناهي ويسمح من
خلال العبادة والخشوع بإزالة التعارض بين الناسوت واللاهوت وانجاز
المصالحة بينهما وبلوغ درجة الاتحاد والاستمتاع بهذه الدرجة الوجودية،
وبهذا يكون المعتقد الديني الانجاز الأسمى للعقل ويسمح بادراك لله من
حيث هو مطلق لذاته وفي ذاته وتكون الشعوب قد عبرت من خلاله عن إدراكها
للموجود الأسمى وتوقه لبلوغ اللامتناهي.
وإن فضيلة الدين تكمن في كونه يساعد عبر نزعته التشبيهية على تقريب
العالم الروحي من الأفكار الطبيعية والتعبير بما هو حسي عن الروح
المطلق والعقل الكلي.
كما يقول هيجل: لقد وضعت الشعوب في دياناتها أفكارها حول وجود
العالم والمطلق وعما هو في ذاته ولذاته وما كانوا يتصورنه عن العلة
والجوهر والوجود وجوهر الطبيعة والروح وأخيرا رأيهم الخاص في الكيفية
التي ترتبط بها الروح البشري أو الطبيعة البشرية بتلك الأمور وبالله
والحقيقة.
لكن بقيت جملة من الإشكاليات حري بنا أن نطرحها وهي كالآتي: ماهو
الدين الذي تفترضه الفلسفة معقولا؟ وماهي الفلسفة التي يعبر عنها الدين
بشكل بديهي؟ و ماهي الأفكار الفلسفية الموجودة في الدين؟ والى أي حد
يجب أن نأخذ العامل الديني بعين الاعتبار؟ وكيف نتعامل مع الجانب
الإلحادي والريبي في الفلسفي من وجهة نظر دينية؟ وما محل الجانب
الأسطوري والغيبي في الديني من الإعراب الفلسفي؟ وهل ينبغي على كل
إنسان أن يتخذ لنفسه مذهبا فلسفيا معينا لصلاح دنياه وسداد فعله في
عالم الشهادة مثلما يكون ملزما باعتناق ديانة ما لنجاته في الآخرة و
هدوء نفسه في عالم الغيب؟
والى أي مدي يجوز القلب الذي قام به فيورباخ وماركس للفلسفة الدينة
الهيجلية؟ وهل كان إصرار هيجل على الوحدة بين الفلسفة والدين هو العامل
الرئيسي الذي سهل عملية القلب والشروع في النقد الجذري لللاهوت ولكامل
الفلسفة المثالية؟ ولماذا تواصل الدين في المشهد الفكري المعاصر وعادت
فلسفة مابعد الحداثة إلى الاهتمام بالديني؟ ألا يعني صمود يبعث على
الدهشة للهيجلية في حقبة ما بعد ماركسية للعقل؟ وما صحة ما يتردد من
انه استعادة هرمينوطيقية لفلسفة دينية ما قبل هيجلية وبالتحديد الى
توجه الدين في حدود العقل عند كانط أو إلى مذهب وحدة الوجود عند
اسبينوزا؟
* كاتب فلسفي
..................................................
المراجع:
هيجل، دروس في فلسفة الدين، عن الفرنسية نص ج،
جبلان، باريس مطبوعات فران، الجزء الأول.طبعة 1959، ص. 32، نقله إلى
العربية د. أبو يعرب المرزوقي.
هيجل- محاضرات في تاريخ الفلسفة، المجلد الثالث،
ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، طبعة 1997. |