مصر الصغيرة تجمع شتات المغتربين في أمريكا

 

شبكة النبأ: لم يقتصر الشتات كما هو معروف على بعض البلدان المنكوبة، بل شمل العديد من الدول والمجتمعات التي فشلت حكوماتها على تنمية اوضاعها وتحسين مستوي المعيشي للسكان. وتبرز الولايات المتحدة الامريكية كإحدى اكبر الدول الحاضنة للمهاجرين من مختلف اصقاع العالم، الا ان مؤخرا باتت المساحات التي يشغلها شتات بلدان الشرق الاوسط، والدول العربية تحديدا، مساحات بارزة، على شكل بؤر تبرز في الشارع الامريكي سيما في بعض الولايات التي تتركز بها الجاليات العربية.

فقد تغير الحي كثيرا منذ افتتح دومينيكو بينتو مدرسته فيراري لتعليم السواقة (قيادة السيارات) قبل أكثر من أربعين عاما مضت.

قال بينتو، وهو يشير إلى المحال والمتاجر المصطفة على جانبي شارع ستاينواي في حي أستوريا بمنطقة كوينز في نيويورك، "هذا الشارع كله كان يحتله الإيطاليون واليونانيون. أما الآن فلا يوجد إلا عدد قليل جدا من أماكن الإيطاليين."

فاليوم، معظم أصحاب المحال والمتاجر أشخاص جاءوا من بلدان الشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض المتوسط، أو ممن لهم ارتباط وعلاقات بها. بحسب موقع أميركا دوت غوف.

والواقع أن العديد من المحال والمطاعم المصطفة على امتداد جانبي شارع ستاينواي من الشارع الـ 25 حتى الشارع الـ 28 مملوكة لمصريين أو لبنانيين أو مغاربة، وهي منطقة أصبحت تعرف باسم مصر الصغيرة حيث بدأ يتكشف فيها فصل جديد آخر في قصة المجتمع الأميركي المتغير دوما.

يقول ستيفن ليفاين، منسق المناهج التعليمية لقسم محفوظات لاغوارديا وواغنر في الكلية الأهلية في كوينز إنه "مثلما كان الحال في الماضي، نرى جماعات تأتي إلى هذا البلد لأن هناك ظروفا اجتماعية واقتصادية تجبرهم على الرحيل، إذا جاز القول، ولهذا السبب يبحثون عن فرص في أماكن أخرى. وقد ظلت نيويورك دائما منذ إنشائها مكانا يؤمه الناس سعيا وراء تلك الفرص."

وحي أستوريا ظل منذ زمن طويل حيا يتكيف فيه المهاجرون مع وطنهم الجديد. فقد جرى استيطانه أول مرة من قبل سكان أميركا الجدد من غير السكان الأصليين في منتصف القرن السابع عشر، ومع إطلالة القرن الثامن عشر أصبحت المنطقة مركزا تجاريا يجتذب المستوطنين الألمان. من بين القادمين على المكان كانت أسرة ستاينواي التي افتتحت محل ستاينواي وأبنائه لصناعة البيانو في سبعينيات القرن التاسع عشر.

وتبع الألمان المهاجرون الأيرلنديون فالإيطاليون ثم اليونانيون، وكلهم لا يزال لهم وجود في أستوريا. وبدأ العرب القادمون حديثا يطبعون الحي، لا سيما شارع ستاينواي بطابعهم الخاص.

ويجمع أصحاب المحال والدكاكين على أن المصري، علي السيد، كان أول العرب المقبلين على الحي عندما افتتح كباب كافيه "مقهى الكباب" في العام 1987. وعلي السيد مصري أصله من الإسكندرية وله جذور تربطه بصعيد مصر صادف نجاحا في شارع ستاينواي لدرجة أن صحفا من بينها نيويورك تايمز كتبت تعليقات محبذه عن مطعمه.

والسيد، شأنه شأن العديد من المهاجرين، اختار الولايات المتحدة مقصدا أملا في عيش وحياة أفضل. وأما اختياره أستوريا فكان اقتصاديا لأنه المكان الذي كان قادرا على تكاليفه.

وأوضح السيد ذلك بقوله "إن السبب الذي جاء بنا إلى هنا هو الإيجار." وأضاف وهو يعد الأطعمة في مطعمه الصغير "لقد أدركت عندما افتتحت هذا المحل أن آخرين سيتبعون لأنهم يعتقدون أن طعام أمهاتهم أفضل وسيأتون محاولين منافستي."

لم يخب ظن السيد، فسرعان ما انضمت إلى محله مقاهي النارجيله ودكاكين البقالة ومحال الحلوى والشركات التي تقدم الخدمات للعرب علاوة على محال الأزياء الإسلامية. وشهد شارع ستاينواي قبل نحو عقد من الزمان افتتاح مسجد الإمام.  وتجسد منطقة مصر الصغيرة النمو الذي يشهده أي حي من أحياء المهاجرين الأميركية.

ووصف ليفاين هذا النمو بقوله إن مجموعة طليعية من المهاجرين تأتي وتؤسس عملا في حي ما "ثم تبدأ الخدمات في التوفر لجماعة عرقية أو إثنية معينة." من بين تلك الخدمات المطاعم الإثنية ومحال البقالة التي توفر المواد والخدمات التي يحتاجها الجيران الجدد، علاوة على المؤسسات الدينية.

محسن بدران (بربطة العنق) وبجانبه علي السيد (بالمئزر) يستمتعان بشرب الشاي وتدخين النارجيلة في مقهى مصر.

يشتري السيد لوازم مطعمه طازجة يوميا من الأسواق القريبة في حي أستوريا. والسيد لم يكتسب شهرة واسعة كطاه ممتاز (شيف) وحسب، وإنما كعالم أيضا نوعا ما بتاريخ الأطعمة. وهو يقول إن الكشري – الذي يعتبره كثيرون طبقا شعبيا وطنيا في وادي النيل، وهو قريب جدا إلى طبق المجدرة في بلاد الشام – استقدم إلى مصر مع العمال الآتين من الهند عندما كان الحكم البريطاني باسطا سيطرته على البلدين.

ويستمتع السيد بعد انتهائه من العمل بشرب الشاي وتدخين النارجيلة مع أصدقائه في مقهى مصر عبر الشارع. من بين الأصدقاء محسن بدران الذي يقيم في حي آخر من بلدة كوينز – لكنه بدأ في تدخين الشيشة منذ أربع سنوات ويجتذبه شارع ستاينواي.

قال بدران وهو يرشف الشاي الكشري (الشاي المصنوع بأوراق الشاي الطبيعية التي تبقى في الكأس مضافا إليه السكر ثم يصب عليه الماء المغلي) "إن من المريح أن آتي للتحدث مع الناس هنا. فأنا أختلط خلال النهار مع أناس غير عرب، ولكنني أقابل العرب الآخرين عندما آتي إلى هنا وأندمج روحيا معهم."

غير أن بدران ينبه إلى أن العيش في حي مثل مصر الصغيرة يمكن أن يكون له تأثير إيجابي أو سلبي على المهاجرين الجدد.

ويوضح بدران قائلا: "عندما يأتي شخص ما إلى هنا لا يشعر بأنه غريب ولا يحس أنه أجنبي ويتعلم الكثير عن التسامح والاندماج في بوتقة الانصهار الكبرى." لكنه يضيف أن "المرء إذا استقر هنا فترة طويلة فإنه لا يخرج لرؤية أميركا والأمور الرائعة التي يتيحها هذا البلد، فلا يصير أميركيا، الأمر الذي قد ينفي الغرض الأساسي من الهجرة."

ويشير ليفاين إلى أن المهاجرين دأبوا من الناحية التاريخية وبأغلبية ساحقة على الانتقال إلى جبهة حدودية جديدة بعد الإقامة في مكان يذكرهم بالوطن.

ويضيف ليفاين قوله "لا بد لأطفالك من أن يبدأوا الدراسة، وأنت ستقابل أناسا من أمكنة كثيرة مختلفة ومتنوعة. قد يكون في ذلك نوع من العزلة، لكن التاريخ يدل على أنه كان هناك دوما تكيف واندماج."

في طرف من الحي، إلى الجنوب مباشرة من شارع بوليفارد أستوريا يقدم المصري المولد محمد سعد لزبائنه العرب في محله البقالة الطريفة والجزارة الذي افتتحه قبل سنة في الحي الذي يقيم فيه منذ 11 سنة.

يقف سعد على خدمة زبائنه حيث تحيط به ثلاجة زجاجية تحتوي لحوم الضأن والبقر والدجاح الحلال المبرّدة وبجانبها ثلاجة أخرى مملوءة بصنوف الأجبان الرومي والإسطمبولي المستوردة من مصر. وأكثر ما يجتذب الزبائن هو الفطائر الحلوة أو المالحة المصنوعة من طبقات رقيقة وبنكهات ومذاقات متنوعة تخبز في المحل. وهي تذكر المصريين بالحياة في بلدهم الأصل.

ويعتقد سعد أنه مثلما تجتذب الأطعمة والمواد الغذائية الزبائن إلى محله، كذلك يجتذب استعمال اللغة العربية في الحي العرب القادمين حديثا إلى أميركا.

ويوضح سعد أن "اللغة الإنجليزية تكون في البداية صعبة عليهم (المهاجرين) عندما يلازمون العرب. فكل تلك الجماعات تتجمع مع بعضها في مناطقها لأنها تتكلم لغتها، ومعرفة اللغة التي يملكونها لا تنفعهم، لذلك يبقون في منطقة يعرفونها." 

إلا أنه على الرغم من التقوقع الثقافي للحي فإنه يظل جزءا ظاهرا من أميركا. ويقول أصحاب المحال والمقاهي إن أعمالهم واجهت صعوبات خلال الضائقة الاقتصادية طيلة ثلاث سنوات ظلت فيها الإيجارات وتكاليف التشغيل في تزايد بشكل يجعل من الصعب العمل وتحقيق الربح.

ويقول السيد "إن الجميع يواجهون أوقاتا اقتصادية عصيبة. فهم في أميركا، وهذا ما هو جار الآن."

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 29/تشرين الثاني/2010 - 22/ذو الحجة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م