عالم اليوم "تعولمت" فيه مشاعر الخوف وصيحات الكراهية. وربّما
يتحمّل مسؤوليّة هذه "العولمة السلبيّة" التطوّر العلمي في وسائل
الإعلام وفي التقنيّة المعلوماتيّة، إذْ يبدو أنَّه كلّما اقترب العالم
من بعضه البعض إعلاميّاً وخبريّاً، تباعد ثقافيّاً واجتماعيّاً.
عالم العالم لا يعيش الخوف من "الآخر" كإنسان أو مجتمع مختلف في
ثقافته أو لونه أو معتقده فقط، بل يعيش أيضاً الخوف من الطّبيعة
وكوارثها، ومن فساد استهلاك بشرها.
عالم اليوم يخشى من الغد بدلاً من أن يكون كلّ يومٍ جديد مبعثاً
لأملٍ جديد في حياة أفضل. شعوبٌ تعيش الخوف من إرهاب ما قد يحدث في
أوطانها، وأخرى تعايش الإرهاب يوميّاً حصيلة احتلال خارجي أو تسلّط
داخلي. مجتمعاتٌ تخاف من "أشباح"، وأخرى تعيش الناس فيها كالأشباح! لكن
الجميع يشتركون في الخوف من المستقبل المجهول القادم. وكلّما ازداد
الشعور بالخوف، ازدادت مشاعر الكراهية لهذا "الآخر" المخيف!
إنَّ العالم يعيش هذه الحالة السلبيّة تحديداً منذ 11 سبتمبر/2001،
حيث كان هذا اليوم رمزاً لعمل إجرامي مدفوع بغضب أعمى لا يفرّق بين
مذنب وبريء، كما كان هذا اليوم تبريراً لبدء سياسة حمقاء قادها "محافظون
جدد" في واشنطن اعتماداً على تغذية الشعور بالخوف من ناحية، ومشاعر
الغضب الموصوفة بالكراهية من الناحية الأخرى.
فيوم 11 سبتمبر 2001 كان يوماً لانتصار التطرّف في العالم كلّه، يومٌ
انتعش فيه التطرّف السياسي والعقائدي في كلِّ بلدٍ من بلدان العالم،
وأصبح بعده " المتطرّفون العالميّون" يخدمون بعضهم البعض وإن كانوا
يتقاتلون في ساحات مختلفة.. وضحاياهم جميعاً هم من الأبرياء. وبعد
افتضاح أمر هذه السياسة، أميركيّاً ودوليّاً، خرجت أصوات عنصرية في
أوروبا وأميركا تُدين الإسلام والمسلمين والعرب بالجملة وليس لمحاسبة
أعمال فردية هنا وهناك، لتعيد قسمة العالم بين مجتمعات قائمة على الخوف
وأخرى على الكراهية.
في عقد التسعينات من القرن الماضي، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي،
كتب الكثيرون من العرب عن خطط إسرائيليّة لجعل " الإسلام" هو "العدو
الجديد" للغرب، والبعض الآخر كتب في أميركا والغرب مبشّراً بنظريّة "صراع
الحضارات". لكن كانت كلّها كتابات ومجرّد حبر على ورق إلى حين وقوع
أحداث 11 سبتمبر 2001 .
إذن، أليس من الحماقة في الأفعال أو الردود عليها، أن تسير الأمور
في العالم الإسلامي بهذا الاتجاه الّذي جرى التحذير منه طوال عقد
التسعينات!!
وما هي المصالح العربية والإسلاميّة من تأجيج مشاعر الكراهية لدى
هذا الطرف أو شعور الخوف لدى الطرف الآخر على مستوى الشعوب؟!
أصلاً، هي حربٌ فاشلة لنظريّة خاطئة إذا كان الغرب يعتمدها ويكرّر
فيها ما قام به مع الشيوعيّة في فترة الحرب الباردة. فالعدو الشيوعي
كان فعلاً يحكم دولاً تمتدّ من أقصى شرق آسيا إلى قلب أوروبا مروراً
بجماعات حزبيّة منتشرة في معظم أنحاء العالم. وكانت موسكو تمتلك فعلاً
قنابل نوويّة موجّهة نحو أميركا وحلفائها الغربيين، فأين وكيف هو واقع
حال "العدو الجديد" ؟!. إنّها "حرب الأشباح" لكنّها تستند إلى ممارسات
عنفية لجماعات متطرّفة مارست وتمارس الإرهاب في دولها أولاً وضدّ أبناء
شعبها، كما حدث ويحدث في عدّة دول عربيّة وإسلاميّة.
قبل نزول الرسالات السماوية، قدّست بعض الشعوب النّار وجعلت منها
إلهاً يُعبد. وباستثناء القداسة التي يوليها الهندوس لنهر الغانج، لم
يحدّثنا التاريخ – على حدّ علمي- عن تقديس شعب ما أو عبادته للمياه!
فعلى الرغم من أنّ المياه تحوز على "أكثرية الثلثين" من مساحة الأرض
ومن جسم الإنسان، فإنّ الشعوب القديمة لم تمنحها ما حازته النّار لديها
من قداسة!
الغريب في الأمر، أنّ النّاس أدركوا دائماً، بالفطرة وبالممارسة، ما
أكّده النصّ القرآني: "وجعلنا من الماء كلَّ شيءٍ حي"، وبأنّه متى
انعدمت المياه فإنّ الهلاك هو مصير الناس والأرض معاً، وبالرغم من ذلك
حازت النّار على الأفضلية مع أنّ المياه هي التي تطفئ حرائق النار!!
تُرى، هل هو تأكيد جديد بأنّ الناس، أو لِنقلْ الجهلاء منهم الذين
سبقوا عصور الرسالات السماوية، يخافون عادةً ما هو رمز للعنف والهلاك
والدمار فيضطرون إلى تقديسه وتكريمه، بينما يتجاهلون ما لديهم وما
حولهم من قوّة "ناعمة" في معظم الأحيان، وربّما "لا لون لها ولا طعم
ولا رائحة" إنْ كانت نقيّةً صافية، لكنّها حين تكون كذلك، فإنّ الناظر
إليها يرى فيها نفسه، كما تعكس كل ما حولها من بشر وطبيعة، فيرى الناس
زرقة السماء في مياه الأرض الصافية، ويمتزج جمال نقاء ما هو في العُلى
مع صفاء ما هو على الأرض.
اليوم، يعيش العالم أيضاً، هواجس "الاحتباس الحراري" والخوف من "التغييرات
المناخية"، ممّا يهدّد مستقبلاً بحالات عديدة من الجفاف أو الطوفان،
وممّا سيترك أثراً كبيراً على فصول الاعتدال بالطبيعة (الربيع والخريف)،
ويجعل الكرة الأرضية أسيرة الصيف الحار الحارق أو الشتاء البارد القاسي.
وهذا الاختلال في التوازن الطبيعي للمناخ هو على الأرجح من صنع
الإنسان الذي استخلفه الله على الأرض لبنائها وإعمارها والحفاظ عليها،
فهي أمانة مستخلفة من الخالق لم يُحسن الإنسان رعايتها.
وما يحدث في الطبيعة والمناخ من تطرّفٍ نراه أيضاً في الأفكار
والمعتقدات حيث يتّجه الناس أكثر فأكثر لتبعية "رموز نارية" تشعل اللهب
هنا وهناك، تحرق الأخضر واليابس معاً، فتذهب ضحية هذه القيادات
والأفكار والجماعات، نفوسٌ بريئة وأوطانٌ عريقة!
هو عصر التطرّف في المناخ وفي الأفكار، هو عصر العودة إلى "البدائية"
بما فيها تقديس "النار" ومُشعليها، بينما الناس هم حطبها ووقودها،
والمسؤولية هنا هي على التابع والمتبوع معاً، وعلى المتقاعسين عن دورهم
في رعاية الأمانة وفي الحفاظ على توازن الطبيعة واعتدالها.
لكن الفكر المعتدل المطلوب ليس هو بالفكر الواحد في كلّ مكان، ولا
يجب أن يكون. فالاعتدال هو منهج وليس مضموناً عقائدياً.
وقد يكون المضمون دينياً أو علمانياً، وطنياً أو قومياً أو أممياً،
لا همّ بذلك، فالمهم هو اعتماد الاعتدال ورفض التطرّف كمنهاج في
التفكير وفي العمل وفي السلوك الفردي أيضاً.
فالاختلاف هو سنّة الخلق وإرادة الخالق، بينما دعاة التطرّف اليوم
(وهم أيضاً ينتمون إلى أديان وشعوب مختلفة) يريدون العالم كما هم عليه،
و"من ليس معهم فهو ضدّهم"، ويكفّرون ويقتلون من ليس على معتقدهم حتى لو
كان من أتباع دينهم أو من وطنهم وقومهم.
هو فكر كابوسي جاهلي يستفيد حتماً من أيّة شرارة نار يُشعلها متطرّف
آخر في مكان آخر، فالحرائق تغذّي بعضها البعض، لكن النار مهما احتدّت
وتأجّجت، فإنّها ستأكل في يومٍ ما – عساه قريباً- ذاتها، حتى لو تأخّرت
أو تقاعست عن دورها قوى مياه الإطفاء هنا أو هناك.
*مدير مركز الحوار العربي في واشنطن
sobhi@alhewar.com |