|
كان العراق منذ القدم محط اهتمام دول العالم لما يتمتع به من موقع
جغرافي وحضارة وتراث تاريخي ضارب في الاعماق, فهو موطن الحرف الأول
ومسقط رأس القانون , وعاصمته ذاع صيتها في ربوع العالم فهي موطن الف
ليلة وليلة وقصص السندباد البحري وعلي بابا وكليلة ودمنة وغيرها وهي
أرض الأنبياء والمقدسات وأرض الأحلام بالنسبة لقادة الدول والحالمون
على حدٍ سواء.
يقول (ريج): أنظرُ اليها كونها احدى المدن التي كان (نابليون) يزمع
ان يقيم فيها مركزا لقيادته في طريقه لاحتلال الهند[1]، ولعل
البريطانيون أدركوا هذه الحقيقية, فازداد شعورهم باهمية العراق
الاستراتيجية مطلع القرن العشرين، ونظرا لموقعه الجغرافي ومركزه السوقي
الذي يربطه بايران والخليج، ويجعله طريقا سريعا ومختصرا تأتي منه
المواد الاولية، وتعود الصناعات البريطانية عبره ثانية الى اسواق
الشرق[2] لذا دخل ضمن دائرة إهتمام الحكومة البريطانية حتى من قبل أن
نزول القوات البريطانية في البصرة عام 1914م بقرون.
وعلى الرغم من أن العراق فقد شكل الدولة وأصبح جزءً من دولة أخرى
كما أشرنا سابقاً ولكن كان يتمتع بعلاقات مع شعوب العالم لذا يمكن أن
أطلق عليها مصطلح ((العلاقات غير الرسمية)), فعلى سبيل المثال كانت
هناك علاقات للعراقيين مع فرنسا[3] وبريطانيا وألمانيا وغيرها من
الدول[4] منذ القدم وقبل تأسيس الدولة العراقية وذلك في أيام حكم
المماليك[5] والذي كان يتمتع فيه العراق بشكل من أشكال الحكم الذاتي أو
الاستقلال الجزئي وبما أن هذه الدراسة تسلط الضوء على العلاقة بين
العراق وبريطانيا فسوف نسلط الضوء على جذور تاريخ العلاقة بينهما.
يرجع تاريخ العلاقة بين العراق و بريطانيا الى العام 1640م حينما
شوهد موظفو ووكلاء شركة الهند الشرقية[6] في البصرة والتي أسست لهذه
العلاقة, ولو أن الشركة لم تتمكن في بادئ الأمر من تجد موطئُ قدم لها
بشكل ثابت إلا أنها وجدته وثبتته بعد قرن من العام المذكور[7] فقد اصبح
وزن الشركة ملحوظاً منذ حوالي 1775م عندما كان الإنكليز يحمون ويقودون
السفن المسلحة التي يملكها والي بغداد والتي كانت ترفع العلم البريطاني.[8]
وكان الوالي في أغلب الاحيان يتصرف بإيحاءات من الممثل البريطاني
والذي كانت له علاقات مع شيوخ العشائر الرئيسيين وكان المقيم البريطاني
يمتلك سفن تحمل المدافع تجوب في نهر دجلة[9] وفي العام1798م سمح الوالي
حسن باشا بتعيين مبعوث بريطاني دائم في العراق وفي العام 1808م[10]
عينت بريطانيا المستر ريج قنصلا في بغداد ويعتبر هذا الرجل هو أول من
عمل على تكريس الدور البريطاني في العراق وقد نجح في ذلك نجاحاً
كبيراً[11], وكان ريج يتمتع بعلاقات كبيرة ومهمة مع العراقيين وكانت
شخصيته أقوى من شخصية الوالي العثماني فكان محط تقدير وإعجاب العراقيين,
خصوصا وأن النزاع كان على أشده بين الولاة والقادة في بغداد وكانوا في
تغيير مستمر , فقد شعر العراقيون بأن المستر ريج باقٍ بقوته ولم يتغير
خصوصاً حينما رأوا أن الولاة في بغداد يلجؤون اليه في دعمهم وتثبيتهم
فأصبح الناس كما يذكر الدكتور الوردي في كتابه لمحات اجتماعية أن الناس
في بغداد كانوا لا يقيمون وزناً لوعود بشواتهم وأعيانهم إلا إذا كانت
مدعومة بضمان من المستر ريج[12].
لقد دعم ريج نفوذه في المجتمع العراقي بناءاً على دراسته لثقافة
العراقيين والعوامل المؤثرة فيهم فزاد من مظاهر الابهة والفخامة
باستخدامه الموسيقى العسكرية عند خروجه وعند عودته وفرض على حرس
القنصلية البريطانية[13] زياً خاصاً فجعل أهالي بغداد يقفون على الطريق
وهم مدهوشون لمنظر موكبه المهيب [14] واعتقدوا بأنه صاحب الكلمة
المؤثرة في رسم السياسة العراقية ولعل العقل الباطن العراقي يحمل
الصورة ذاتها الى زمن قريب باعتقادهم بالتأثير والنفوذ البريطاني في
العراق , ولعل النزاع الذي حصل بين ريج وداوود باشا[15] في العام 1820م
يوضح ماذهبنا اليه من قوة النفوذ البريطاني ولعل العقل الباطن
للعراقيين على حق.
ففي العام المذكور فرض والي بغداد داوود باشا ضرائب إضافية على
الصادرات والواردات البريطانية فأحتج ريج على هذا الاجراء بقوله أن
للبريطانيين حقوقا أقرتها الاتفاقيات مع العثمانيين فرد الوالي بأنه لا
يعترف بأي حق للبريطانيين في بغداد وتطور الأمر ومنعت السفن البريطانية
من دخول الى ميناء البصرة وأراد القنصل البريطاني الخروج من بغداد
وحوصرت القنصلية البريطانية بالمسلحين وحصن ريج نفسه بالجنود وكادت
تنشب معركة بين الطرفين ثم حلت بعد إدراك الوالي الى حجم المشكلة فأرسل
مفاوضين عنه الى المستر ريج فاستقبلهم القنصل البريطاني بغضب وإنزعاج
شديدين[16].
هذه الحداثة تؤكد على حجم النفوذ والعلاقة بين بريطانيا والعراقيين
ومدى الصلة والتأثير لدى ريج في المجتمع العراقي لأنه كما يذكر أنه كان
وثيق الصلة بأعيان بغداد وبقادة العسكر , ولعل إستقباله لمبعوثين
الوالي تدلل على حجم موقعة في بغداد آنذاك. واستمرت العلاقة البريطانية
العراقية بعد ذلك فعينت الحكومة البريطانية الكابتن تيلر قنصلا جديلا
في بغداد ليكون خليفة ريج في هذا المنصب وذلك في العام 1821م.[17]
وحاول القنصل الجديد أن يتولى الضباط البريطانيون مهمة تدريب الجيش
العراقي حينما التمس رغبة الوالي في تطوير القدرات العسكرية العراقية
وبالفعل أعتد داوود باشا على بريطانيا في تسليح الجيش وجلب بعض الضباط
البريطانيين امثال جورج كيبل ورفاقه لهذه المهمة [18] لم تنحصر العلاقة
بين بريطانيا والعراقيين في التمثيل الرسمي فحسب بل تعداه الى التمثيل
الشعبي فقد بعثت بريطانيا المبشر المسيحي غروفز الذي سكن بغداد وأتصل
بأهلها واصبحت له علاقات معهم ووقف معهم في زمن محنة وباء الكوليرا.
أما على الصعيد التجاري فكانت هناك صلات بين التجار البريطانيين
والعراقيين فقد ذكر بطاطو في كتابه العراق ان البريطانيون كانوا يحضون
بمعامله خاصة ومتميزة في السوق العراقية فبموجب معاهدة الامتيازات
الانكلو عثمانية عام 1675م فقد أعفي التجار البريطانيون من الضرائب
فأما البضائع التي يقومون باستيرادها وتصديرها فلا تخضع إلا لرسم
مقداره 3% بينما كان العراقيون يدفعون 7.5% ولربما تصل الى 8.5% في
بغداد , وكان التجار الذين يتمتعون بحماية البريطانيين متحررين من
الضرائب والفرائض التي يفرضها الباشوات , وهذا يدلل على وجود علاقات
خاصة بين العراقيين وبريطانيا , ومن جانب آخر كان البريطانيون يولون
للعراق أهمية خاصة ولعل هذه السياسة كانت ذات مغزى بعيد إتضح فيما بعد
فقد صرح اللورد كيرزن في العام 1892م بأهمية بغداد التجارية فقال يجب
أن تدخل بغداد ضمن السيطرة البريطانية, وذلك بعد التقرير الذي رفعة
نائب القنصل البريطاني في البصرة الذي يحمل الرقم 921 للعام 1891م حيث
قال إن تجارة ميناء البصرة تقع كلياً في أيدي أربع شركات بريطانية [19]
وقد أسهب لورد بريطاني في خطابه الذي ألقاه في مجلس [20]اللوردات عام
1911م فقال (من الخطأ أن نفترض ان مصلحتنا السياسية تنحصر في الخليج
كما انها ليست منحصرة بين بغداد والبصرة بل تتعداها وتمتد الى بغداد
نفسها)[21] , وفي العام 1909م كانوا التجار البريطانيون يجوبون بغداد.
وقد كتب نائب عراقي في البرلمان التركي في جريدة طنين التركية وهو
يتحدث عن حجم النفوذ البريطاني في العراق عام 1910م يقول (أنى جلت
بنظرك في البصرة يصدمك فوراً ألف شئ يرتبط بإنكلترا[22]) ولعلنا نجد
أثار ذلك في لهجة العراقيين ولربما شاهدت الكثير من الأميين في البصرة
يتحدثون الانكليزية وذلك من آثار تلك الحقبة.
وقد حملت الغرفة التجارية الأولى في بغداد أسماء 12 تاجراً بريطانيا
كانوا أعضاء في تلك الغرفة تأسست في العام 1926م [23]. ناهيك عن بعض
العلاقات التي كانت بين بعض القادة العراقيين والحكومة البريطانية قبل
الاحتلال البريطاني للعراق كالعلاقة التي ربطت السيد طالب النقيب عام
1913م مع بريطانيا[24]. يستدل مما سبق بأن العلاقات العراقية
البريطانية غير الرسمية كانت وثيقة وممتدة قبل الاحتلال البريطاني
للعراق عام 1914م , فلم يكن البريطانيون في العام المذكور قد دخلوا
بلداً غريباً لا يعرفونه ولم يكن العراقيون يتعرفون على البريطانيين
لأول مرة بل شفع التاريخ السالف للطرفين بالتعرف على بعضهم البعض عن
كثب ولكن هذه المرة اتخذ شكل العلاقة الرسمية التي ستنظم فيما بعد
بمعاهدة لترسم شكل العلاقة الرسمية بين البلدين وهي معاهدة 1922م, التي
رفضها كل الوطنيون لأنها تحمل صفات الانتداب ولم تكن إلا معاهدة بين
طرف غازي وطرف محتل , ومن الطريف ذكره أن اللغة الرسمية في الدوائر
الحكومية العراقية منذ العام 1917م – 1920 م هي اللغة الانكليزية
واستبدلت بعد تشكيل أول وزارة عراقية برئاسة عبد الرحمن النقيب.
..................................................
[1] - بغداد في الأيام الخوالي عن رحلة المقيم
البريطاني في بغداد من 1808م – 1821م/ كونستانس.م. الكسندر ص59 عن رحلة
المقيم البريطاني ريج ترجمة بهاء الدين نوري / سنة 2008- الدار العربية
للموسوعات.
[2] - نصف قرن من النفوذ البريطاني /جريدة الصباح
العراقية / 26-8-2101 العدد2033
[3] - لويس جاكوس روسيو هو القنصل الفرنسي في بغداد
1772م -1776م وفي البصرة من 1782م- 1791م وهو قريب الكاتب الفرنسي
الشهير جان جاك روسو وكان يتمتع بمكانة جيدة في بغداد. حنا بطاطو –
الكتاب الأول / الهامش ص 262.
[4] - لقد ذكر الدكتور الوردي في لمحاته أن فرنسا
كان لديها قنصل في بغداد وكذلك المانيا منذ العام 18
[5] - بدأ حكم المماليك للعراق عام 1749م بولاية
سليمان باشا الملقب بأبي ليلة وأنتهى في العام 1831م حينماعزل داوود
باشا أي ما يقارب الثمانين عاما , والمماليك هم في الغالب من جورجيا
والداغستان وبلاد الشركس وأباضة واللاظ, وجميعها من منطقة القفقاس
وكانوا يستجلبون وهم أطفال صغار ويدخلون المدارس ويتعلمون القراءة
والكتابة وفنون القتال والفروسية ثم يصبحوا بعد ذلك القوة الضاربة
لحماية الوالي العثماني , وأول من أدخلهم الى العراق هو الوالي المشهور
حسن باشا وولده أحمد باشا وبعد موت الاخير استلموا الحكم وأصبحوا قادة
البلاد والعباد , ولايزال بعض العوائل العراقية من بقاياهم. راجع علي
الوردي – لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث الجزؤ الأول.
[6] - حنا بطاطو الكتاب الأول/ العراق ص 272
[7] - حنا بطاطو الكتاب الأول/ العراق ص 272 منشورات
دار القبس الكويتية –وينظر ملبورن / تجارة الشرق ج1 ص 120 ترجمة عفيف
الرزاز.
[8]- حنا بطاطو – الكتاب الأول العراق الطبقات
الإجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني وحتى قيام الجمهورية-
ص. 272
[9] - الوردي مصدر سابق
[10] - لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث/
الدكتور علي الوردي- ج1 - ص 241الطبعة الأولى – إنتشارات المطبعة
الحيدرية سنة الطبع 1996م.
[11] - مصدر سابق / د. على الوردي ج1- ص 241
[12] - الوردي / مصدر سابق – ج1 ص241
[13] - كانت القنصلية البريطانية يومذاك تقع على
ضفاف نهر دجلة في جانب الرصافة على مقربة من جسر الاحرار وكان يقف الى
جانبها يخت مسلح لحراستها. الوردي/ مصدر سابق ج1 ص 242.
[14] - علي الوردي لمحات إجتماعية ممن تاريخ العراق
الحديث ج 1 ص 241
[15] - داوود باشا والي بغداد (1816م- 1831م) هو
مملوك من الكرج جورجيا إشتراه سليمان باشا وأولاه الرعاية والتعليم
,اظهر براعة فائقة في القيادة وذكاء في التعامل مع الناس فغدا علما من
اعلام المجتمع العراقي وقتذاك , عينه الوالي سليمان باشا خازندار بغداد
في العام 1800م وترقى في المناصب فعين رئيسا ً للعسكر في العام 1814م ,
فأظهر حزما وقوة في محاربة القبائل البدوية وحقق إنتصارات كبيرة ساعدت
على إستقرار البلاد ورقيها وساهمت في الوقت نفسه بعلو مكانته وسمعته
بين الناس. عين في العام 1816م واليا لبغداد بفرمان من السلطان
العثماني وحظي زمنه بالكثير من الاستقرار , فكان محبا للادب وأهل العلم
وسعى الى إنشاء جيش قوي وكانت له نوايا لاستقلال العراق على غرار والي
مصر محمد علي باشا ولكنه لم ينحج بعد ان جهز السلكان العثماني حملة
لأسقاطه ومنثم عاش فترة من حياته في الاستانه إنتقل بعدها الى المدينة
المنورة وأنشأ هناك دار للتعليم ومات في المدينة المنورة في العام
1844م. داوود باشا والي بغداد / عبد العزيز سليمان نوار ترجمة أحمد عزت
عبد الكريم دار الكتاب العربي 1968م ص 26 وينظر الى آغا بزرك الطهراني
أعلام الشيعة الكرام البررة في القرن الثالث بعد العشرة دار المرتضى
مشهد إيران.
[16] - الوردي مصدر سابق ج1 ص 243
[17] - مصدر سابق ج1 ص 242
[18] - داوود باشا والي بغداد / عبد العزيز سليمان
نوار – ترجمة أحمد عزت عبد الكريم ص 322-323 – دار الكتاب العرب
[19] - بطاطو العراق منشورات دار القبس الكويتية ص
278-279 الهامش.
- اللورد كيرزن قبل ان يصبح رئيسا للوزراء [20]
[21] - العراق – دراسة في تطوره السياسي ترجمة جعفر
الخياط ص 42 عن موسوعة الاحزاب العراقية ص 19 حسن لطيف كاظم الزبيدي
مؤسسة العارف للمطبوعات –بيروت لبنان 2007م.
[22] - كتاب العراق حنا بطاطو الكتاب الأول ص280
طبعة دارالقبس – الكويت ص 279.
[23] - كتاب العراق حنا بطاطو الكتاب الأول ص280
طبعة دارالقبس – الكويت ص 278 راجع بطاطو نفس المصدر ص 283 الجدول رقم
9-4.
23- الصفوة بين النجاح والفشل د. خالد التميمي / دار
كنوز المعرفة العلمية - الاردن – عمان 2010م ص152 |
