حب وحرب وموت

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: تغنى الانسان منذ بداية تاريخه بالحب شعرا وغناء، ونذر بوحه المجنون رسوما على جدران المغاور والكهوف. كان الحب لدى الانسان الاول ممزوجا بالدهشة، وكثيرا بالخوف والالم والخيبة. كانت اول جريمة في تاريخ الانسان جريمة عاطفية بامتياز.

الاخ يقتل اخاه بسبب امرأة اعتبرها القاتل هي البدء والمنتهى، وهي كل الرغبة والمشتهى، حب رافقه العنف في اقصى مدياته، تلك المديات المفتوحة على الرغبة والشغف والشهوة، وعلى التدمير في لحظات الياس والقنوط.

الحرب تحاصر الحب وتقتلعه من القلوب وتخيم سحابة من الموت الثقيل على الانسان، تقاوم موتك في جحيم الحرب بصورة وجه تحبه تحملها في جيبك، او برسالة غرام الى امراة ترافقك مع اصوات اندلاع الكراهية وانت تصوب سلاحك نحو عدوك، هذا العدو الذي تكرهه والذي قد يفكر بامراة اخرى مثلك. وحين نتذكر الملاحم التاريخية الكبرى، جلجامش و الالياذة والاوديسة، تبرز ثلاثية (الحب – الحرب – الموت) بصورة لافتة.

الإلياذة

هي ملحمة شعرية تحكي قصة حرب طروادة وتعتبر مع الأوديسا أهم ملحمة شعرية إغريقية للشاعر الأعمى هوميروس وتروي قصة حصار مدينة طروادة.

وكلمة إلياذة هي كلمة ألليوس القسم القديم لمدينة طروادة. وتدور حول ملحمة المسيني أخيل الذي أبحر لطروادة من بلاد الإغريق لينتقم من باريس الذي قام بغواية هيلين زوجة الملك منيلاوس ملك أسبرطة ومن ثم هرب معها إلى طروادة، فقام الإغريق بتجريد حملة ضخمة للثأر بقيادة أجاممنون أخو منيلاوس، وقد هاجم جيش إمبراطور طروادة.

اعتبرها الكاتب الإيطالي أليساندروا باريكو الوجه الآخر الجميل للحرب والمعبرة عن السلام. ويرى باريكو ضرورة إعادة قراءة الإلياذة في هذا العصر لما تكتظ به من حروب ومعارك واغتيالات وعنف و... الخ.

الإلياذة والرغبات الأنثوية

واحدة من جماليات الإلياذة هي ربط الحرب بالرغبات الأنثوية، إذ تذكر في أكثر من مناسبة دور الأنثى ظاهرا ومستترا وعلاقتها مع الحرب والمقاتلين، كذكرها ذلك البطل الهارب من الحرب الذي يصطدم برغبات ثلاث إنسيات؛ دعوة أمه للصلاة، ورغبة هيلين للوقوف بجانبها عاطفيا، وأمنية أندروماك بالزواج والإنجاب. هذه الدقة في السرد تعد مكملة لحوادث الحرب الأساسية، إذ تعبر عن مدى تأثير العاطفة الأنثوية على الحرب، ولما للمرأة من صوت بارز.

أوديسة

تبدأ الملحمة بنهاية حصار طروادة وبدء عودة المحاربين إلى بيوتهم، لكن بسبب غضب إله البحر بوصيدون على أوليس، تمتلئ رحلته بالمشاكل التي يضعها في طريقه بوصيدون أو بسبب تهور بحارته. يبقى في رحلته مدة عشر سنوات يواجه خلالها الكثير من المخاطر، وطوال هذه الفترة تبقى زوجته بينلوب بانتظاره، ممتنعة عن الزواج، رغم العروض الكثيرة التي تتلقاها، خاصة بعد وصول أغلب المحاربين في حرب طروادة ما عدا زوجها. تنتهي الملحمة بوصوله إلى إيثاكا وقيامه بالانتقام من الذين اضطهدوا زوجته بتلك الفترة.

قصة بنلوب

تروي الملحمة بشكل متقطع، قصة بنلوب زوجة أوليس. قام بعض النبلاء بمحاصرة قصرها، ومطالبتها بالزواج من أحدهم، وعرضوا الكثير عليها. قامت بإقناعهم بالانتظار حتى تنتهي من خياطة ثوب العرس. فكانت تقوم بحياكته في النهار أمامهم، أما في المساء فتقوم بحل ما حاكته. منتظرة عودة زوجها أوليس. عندما عاد أوليس، قامت بإعطائه قوسه، فقام بجمع النبلاء إلى وليمة وقتلهم.

جلجامش

تعد ملحمة جلجامش واحدة من أبرز الأعمال الأدبية الخالدة بما تزخر به من رموز مسكونة باستشراف أحلام الإنسان وقادرة علي الإيماء الي الأسئلة الأولي التي دارت في خلده وأقضت مضجعة وباغتت فراديس استقراره. فقد كان طموح جلجامش أكبر من هواجس عشتار، إذ لم يشأ أن ينهي.. مغامراته البطولية بالاقتران بها، ولم تفلح هي بكل حضورها المترع بالأنوثة الرامزة للحياة بوجهيها أن تلفت أنظاره اليها، لإن جلجامش كان يعي نزقها وأطوارها المتقلبة لذلك فإنه طالما نظرَ بازدراء الي توسلاتها وسخر منها مذكراً إياها بمصائر عشاقها وضحاياها الذين أنساقوا وراء فتنتها واحترقوا بهشيم وعودها.

ويقف في الجانب الآخر من هذه الملحمة (انكيدو) رفيق وحوش البر وانيسها حيث يعشق (شمخة) هذه المرأة التي حلت المعرفة في أهابها فيبتهج بحضورها المباغت في عالمهِ المسكون بالبدائية، ويقوده ليتجه بكينونته الجديدة صوب الحضارة (مدينة أوروك) يومذاك وقد شكر (انكيدو) أول مرة لتلك (المرأة) براعتها في أن تهب الحياة طعماً مدهشاً بيد أنه عاد لاحقاً وشتمها حين أحس بأن هذا الوعي المعرفي الذي اكتسبه قد غدا جزءاً من عذاباته، فناحَ وبكي حين تذكر عفوية حياة الغاب ولذتها في الابتعاد عن أجواء العقل ومكابداته.

ويلتقي (انكيدو) في خضم هذا التنامي في شخصيته ب (جلجامش) وفي أجواء تنسجها الملحمة بأسلوب شعري تشع منه حرارة الاحتدام، وعنف الصراع المفضي الي اتّساق في الرؤي وصداقة ابدية تباركها أم جلجامش (ننسون) تجعلهما يتآزران في ردع قوي الشر المتمثلة في وحش غابات الأرز وحارسها (خمبابا) ويتم له النصر، بيد أن نشوة الفوز تتلاشي بموت أنكيدو هذا الحدث المباغت الذي ينحو بأحداث الملحمة باتجاه جديد إذ يتهافت صبر جلجامش العظيم إزاء تلك الفجيعة فيبرز نائحاً مزمجراً بيد أنه يلبس إهابا آخر يناقش عبره فلسفة الإنسان الأول للحياة وبأسلوب يتسق وطفولة العقل البشري حينذاك أي قبل ما يقارب من خمسين قرناً فيصر علي معرفة كنهها ولكي يزيل غبار الحيرة عن كاهله، فإنه يشد الرحال الي أرض أتونا بشتم الخالد.

ويرسم لنا متخيل الملحمة ملامح امرأة أخري تبدو علي النقيض تماماً من شخصية عشتار، وأن بدت في إطار الرقم الطينية اقل شأناً منها واهمية وخطراً، أنها امرأة من عامة الناس لكنها تعرف السبيل الي ارض اتونبشتم يسعي اليها جلجامش عبر رحلته المنشودة وإذ تصفها الملحمة ب (صاحبة الحانة) فإن في ذلك مدلولاً رمزيّاً واسع المساحة كما ترى ذلك الدكتورة وجدان الصائغ.

تبدأ الملحمة بالحديث عن جلجامش ملك أوروك الذي كان والده بشرا فانيا ووالدته إلهة خالدة وبسبب الجزء الفاني من دمه يبدأ بادراك حقيقة أنه لن يكون خالدا.

قام الناس بالدعاء من الآلهة بأن يجد لهم مخرجا من ظلم جلجامش فاستجاب الآلهة وقامت إحدى الآلهات واسمها أرورو بخلق رجل وحشي كان الشعر الكثيف يغطي جسده ويعيش في البرية يأكل الأعشاب ويشرب الماء مع الحيوانات أي أنه كان على النقيض تماما من شخصية جلجامش، وهذا هو انكيدو.

تحاول الآلهة عشتار التقرب من جلجامش بغرض الزواج منه ولكنه يرفض العرض ويسخر منها ويتهمها بكل التهم التاريخية اللاحقة التي سيستخدمها الذكور في النيل من الإناث، فهن غادرات ماكرات لا يخلصن لأحد ويلوثن من يتصل بهن لذا يرفض جلجامش الاقتران بعشتار ويذمها مع بنات جنسها.

فتشعر عشتار بالإهانة وتغضب غضبا شديدا فتطلب من والدها آنو، إله السماء، أن ينتقم لكبريائها فيقوم آنو بإرسال ثور مقدس من السماء لكن أنكيدو يتمكن من الإمساك بقرن الثور ويقوم جلجامش بالإجهاز عليه وقتله.

بعد مقتل الثور المقدس يعقد الآلهة اجتماعا للنظر في كيفية معاقبة جلجامش وأنكيدو لقتلهما مخلوقا مقدسا فيقرر الآلهة على قتل أنكيدو لأنه كان من البشر أما جلجامش فكان يسري في عروقه دم الآلهة من جانب والدته التي كانت آلهة فيبدأ المرض المنزل من الآلهة بإصابة أنكيدو الصديق الحميم لجلجامش فيموت بعد فترة.

بعد موت أنكيدو يصاب جلجامش بحزن شديد على صديقه الحميم حيث لا يريد أن يصدق حقيقة موته فيرفض أن يقوم أحد بدفن الجثة لمدة أسبوع إلى أن بدأت الديدان تخرج من جثة أنكيدو فيقوم جلجامش بدفن أنكيدو بنفسه وينطلق شاردا في البرية خارج أورك وقد تخلى عن ثيابه الفاخرة وارتدى جلود الحيوانات.

بالإضافة إلى حزن جلجامش على موت صديقه الحميم أنكيدو كان جلجامش في قرارة نفسه خائفا من حقيقة أنه لابد من أن يموت يوما لأنه بشر والبشر فانٍ ولا خلود إلا للآلهة. بدأ جلجامش في رحلته للبحث عن الخلود والحياة الأبدية.

بعد حصول جلجامش على العشب السحري الذي يعيد نضارة الشباب يقرر أن يأخذه إلى أوروك ليجربه هناك على رجل طاعن في السن قبل أن يقوم هو بتناوله ولكن في طريق عودته وعندما كان يغتسل في النهر سرقت العشب إحدى الأفاعي وتناولته فرجع جلجامش إلى أوروك خالي اليدين وفي طريق العودة يشاهد السور العظيم الذي بناه حول أوروك فيفكر في قرارة نفسه أن عملا ضخما كهذا السور هو أفضل طريقة ليخلد اسمه. في النهاية تتحدث الملحمة عن موت جلجامش وحزن أوروك على وفاته.

لم يصل جلجامش إلى الخلود، لكنه جعل حياة الخالدين مملة وحكم عليهم بالوحدة الأبدية، فقد اخذ في طريق عودته من دلمون البحار "اورشنابي" الذي كان صلتهم الوحيدة بأرض البشر غير الخالدين، وبدل أن يحتطب ويحمل المؤن للحكيم الخالد وزوجته تحولت مهمته حضارية، فقد أعطاه جلجامش مهمة إعلاء أسوار أور. فالدرس الحقيقي الذي حاول ذكور قرون ما قبل التاريخ تلقينه لمن جاء بعدهم هو أن البناء والعمران طريق الخلود..

ماهي وجهة نظر التحليل النفسي حول هذا الموضوع ؟

يقول فرويد في كتاب (أفكار لأزمنة الحرب والموت): (إن الميول العدوانية ميول غريزية مستقلة فطرية في الإنسان، وإنها أمنع المعوقات التي تقف في وجه الثقافة. وكنت قد أفصحت من قبل عن اقتناعي بأن الثقافة مرحلة من مراحل تطوّر الحضارة، وما زلت مقتنعا بما قلت، وقد اضيف عليه أن الثقافة قد ثبت أنها تعمل في خدمة غرائز الحياة (الإيروس) التي تربط الأفراد بعضهم بالبعض وتصنع منهم الأسر ثم القبائل فالأجناس والأمم وتوحد بينهم في وحدة كبرى هي الإنسانية).

يطرح فرويد ايضا مفهوم (الازدواج) و نجد أنه يتحدث عن ميول فطرية، لكنها تعمل باتحاد واتصال مع الأنا، أي الضمير، ومع العالم الخارجي، حينما تتحول موضوعات. وتظلّ هذه الميول تحمل طبيعة الازدواج، من دون أن تكون صفة مرضية. ومثل هذا الأمر ينطبق على الظواهر الاجتماعيّة والمجتمعات أيضا، كما يرى فرويد.

ولكن، حينما تتجاوز هذه الازدواجية حدودها، كميل فطري غريزي، في مرحلة متقدمة من مراحل التجربة (تطور نموّ الشخصيّة) فقد تغدو ميلا مرضيا. أي أن ميول الكراهية والحب موجودة فينا، استنادا الى وجود غرائز الحياة (الحبّ) وغرائز الموت (التدمير).

(الحرب تشدّ قلب الإنسان وعبارته الى الحبّ... فيغدو الشعر هو التعبير عن الحنان المفقود... لا وقت أفضل من أيام الحروب لكي تكون القصيدة ملاذ الإنسان... متنفسه ومخيلته... أمانه المفقود، ومنزله كبدل عن منزله المهدّم. فدم القصيدة هنا هو دم الكائن البشري بامتياز). كما يرى الشاعر محمد علي شمس الدين في قراءته لديوان الشاعرة ريم قيس كبة (متى ستصدق أني فراشة)؟

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 22/تشرين الثاني/2010 - 15/ذو الحجة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م