مطلب تجميد الاستيطان قد ينقلب على الفلسطينيين إن لم يُحسِنوا
إدارة الأزمة في هذه المرحلة العصيبة. يبدو أن توافقا أمريكي إسرائيليا
على تجميد الاستيطان لثلاثة أشهر ولمرة واحدة قد تم وسيعلن في وثيقة
رسمية في وقت قريب، وهو سيكون بمثابة رصاصة الرحمة الموجهة لعملية
التسوية التي قامت على أساس مؤتمر مدريد 1999 واتفاقات أوسلو 1993، مع
أن اتفاقات أوسلو ترقد في غرفة الإنعاش منذ عقد من الزمن.
كان الموقف الفلسطيني بداية التسوية يعتبر الاستيطان غير شرعي ولا
قانوني وبالتالي كان المطلب الفلسطيني وقف عملية الاستيطان وإزالة
المستوطنات. مع استمرار المفاوضات وبسبب غموض اتفاقات أوسلو ولسوء
إدارة المفاوضين الفلسطينيين لعملية التفاوض استمرت المفاوضات مع
استمرار الاستيطان، وتراجعت مركزية وقف الاستيطان عند المفاوض
الفلسطيني الذي كان يكتفي بطرح الموضوع بين الفينة والأخرى دون ربط
استمرار المفاوضات بهذا الوقف، الأمر الذي أدى لتعاظم عمليات الاستيطان
مع استمرار المفاوضات أو الحديث عنها واستمرار الوعود الأمريكية
والأوروبية الزائفة بقرب التوصل إلى حل مع كل جولة مفاوضات.
مطلب تجميد الاستيطان الذي يسعى إليه الفلسطينيون الآن كان مطلبا
إسرائيليا في البداية هدفه التحايل على المطلب الفلسطيني الأول بوقف
الاستيطان تمهيدا لإزالته. بعد أن أخذت إسرائيل ما تريد من سياسة
التجميد بدأت بالتهرب منها وتلقفت واشنطن الكرة لتستعمل ورقة التجميد
وكأنها موقف أمريكي متعاطف مع الفلسطينيين والعرب ورهنت العودة
للمفاوضات بتجميد الاستيطان.
بتنسيق بين تل أبيب وواشنطن تمت اللعبة الجديدة بحيث ترفض إسرائيل
بقوة تجميد الاستيطان فتتوقف المفاوضات وتتدخل الأنظمة العربية، التي
تتخوف أن يبحث الفلسطينيون عن وسائل أخرى غير المفاوضات، مناشدين
واشنطن الضغط على إسرائيل لتجمد الاستيطان فقط حتى يعود الفلسطينيون
لطاولة المفاوضات، وبالفعل يصبح موضوع تجميد الاستيطان ومطالبة إسرائيل
بالعودة للمفاوضات قضية حوار ما بين واشنطن وتل أبيب، هذه الأخيرة
تتمنع وتقدم شروطا ومطالب والأولى تنصاع وتلبي المطالب الإسرائيلية ثم
يتم تقديم ما تم التفاهم عليه للفلسطينيين فإما أن يقبلوا فيخسروا
مصداقيتهم وقضيتهم، أو يرفضوا فتحملهم واشنطن مسؤولية فشل المفاوضات.
اعتماد الصيغة الجديدة لتجميد الاستيطان سيكون تدشينا لتسوية
إسرائيلية أو حسب الشروط الإسرائيلية يتم تمريرها كتسوية سلام أمريكية
وستصبح أكثر خطورة إن تبنتها اللجنة الرباعية. إن كانت القيادة
الفلسطينية واعية لخطورة المناورة الجديدة وقد رفضت هذه الرؤية الجديدة
للتجميد فإن الأمر يتطلب من الفلسطينيين مجتمعين ومن العرب ما هو أكثر
من الاكتفاء بالرفض. تجميد الاستيطان لمرة واحدة واستثناء القدس يشكل
خروجا عن سياق مرجعيات وفلسفة التسوية السلمية ويعتبر تحايلا على
المطلب الفلسطيني بتجميد الاستيطان، تجميد الاستيطان أصبح ورقة بيد
الإسرائيليين وليس ضدهم الأمر الذي يتطلب إعادة النظر بالمطلب
الفلسطيني بتجميد الاستيطان فقط كشرط للعودة للمفاوضات.
ما تسرب من معلومات حول صفقة تجميد الاستيطان لثلاثة أشهر غير قابلة
للتجديد مع استثناء القدس من التجميد يعد أخطر منعطف في مسيرة التسوية
والمسمار الأخير في نعشها قبل توديعها بغير رجعة إلى مقبرة التاريخ،
إنه مصيدة خطيرة يتم إعدادها للمفاوض الفلسطيني. إن كانت واشنطن من
خلال خطتها التي اقترحتها على نتنياهو تبدو وكأنها بذلت جهدا للدفع
بعملية السلام للأمام وإنها تلبي المطلب العربي بتجميد الاستيطان قبل
العودة للمفاوضات، إلا أن هذا التفاهم الأمريكي الإسرائيلي يعكس تعبيرا
عن ضعف الإدارة الأمريكية وتراجعها عن مواقفها السابقة ومناورة خطيرة
لقطع الطريق على الفلسطينيين والعرب حتى لا يبحثون عن بدائل أخرى
للتسوية غير التسوية الأمريكية كاللجوء للأمم المتحدة.
يمكن تلخيص خطورة المقترح الجديد لتجميد الاستيطان والإصرار
الأمريكي على إعادة الفلسطينيين لطاولة المفاوضات فيما يلي:-
1- استمرار التأكيد على الهيمنة الأمريكية على ملف التسوية في
المنطقة وبالتالي استمرار تفرد واشنطن بإدارة الصراع مما يقطع الطريق
على أية قوى، تعتبرها واشنطن معادية كإيران أو جماعات الإسلام السياسي،
لتملأ فراغ فشل التسوية الأمريكية.
2 –قطع الطريق على أي حراك دولي قد يطرح مشاريع تسوية جديدة
كالمؤتمر الدولي للسلام أو تفعيل الدور الأوروبي.
3- قطع الطريق على الفلسطينيين والعرب أو أية جهة دولية متعاطفة
معهم لردعهم من الذهاب لمجلس الأمن، وقد لاحظنا أنه من ضمن الصفقة
الأخيرة التي عقدتها واشنطن مع تل أبيب التعهد باستعمال واشنطن حق
الفيتو في مجلس الأمن ضد أي مشروع يتقدم به العرب للاعتراف بالدولة
الفلسطينية أو انتقادها على سلوكياتها، ومن المعروف بأن الذهاب إلى
مجلس الأمن هو البديل الذي لوحت به القيادة الفلسطينية في حالة فشل
المفاوضات وهو ما أثار قلق إسرائيل. ونعتقد أن إرجاع القضية الفلسطينية
إلى بعدها الدولي واعتماد قرارات الشرعية الدولية بكاملها بما في ذلك
قرار التقسيم كمرجعية لأي مفاوضات مستقبلية هو المخرج الوحيد لإخراج
القضية من مأزقها.
4- اختزال موضوع الاستيطان بتجميده يرسخ مبدأ تجميد الاستيطان بدلا
من مبدأ رفض الاستيطان. مبدأ رفض الاستيطان والمطالبة بوقفه يعني أن
الاستيطان غير شرعي وأن الضفة والقدس أراضي فلسطينية محتلة، أما
الاكتفاء بمطلب التجميد فيعني أن الضفة والقدس أراضي متنازع عليها
ونتيجة المفاوضات هي التي ستحدد مصيرها وهويتها.
5- استثناء القدس الشرقية من التجميد يعني الاعتراف بالمزاعم
الصهيونية بان القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل وبالتالي خارج التسوية.
والقدس التي تتحدث عنها إسرائيل تشمل التجمعات الاستيطانية الكبرى
والبلدات المحيطة بالقدس.
6- رفض القيادة الفلسطينية للشروط التي تضعها إسرائيل حتى تعود
لطاولة المفاوضات وخصوصا مطالبتها بالاعتراف بيهودية الدولية واستثناء
القدس ورفض العودة لحدود 1967، وتمسك القيادة الفلسطينية بالثوابت زاد
من شعبية القيادة الفلسطينية وخلق أجواء شجعت على التفكير الجاد
بالمصالحة. العودة لطاولة المفاوضات وخصوصا إن كانت بغير الشروط
الفلسطينية سيقطع الطريق على المصالحة وبالتالي عن بحث الفلسطينيين عن
بدائل وطنية إستراتيجية وحدوية. ومن المؤكد أن هناك علاقة تلازمية ما
بين المصالحة والتسوية السياسية.
7- حزمة المساعدات الاقتصادية والعسكرية بالإضافة إلى الضمانات
الأمنية التي منحتها واشنطن لتل أبيب ستزيد من تعنت إسرائيل وسيجعلها
أكثر قوة على طاولة المفاوضات، مع الخشية بأن الاتفاقات والتفاهمات
السرية بين الطرفين أكثر خطورة من الاتفاقات والتفاهمات التي تم
الإعلان عنها.
8 – إلا أن الأخطر والأكثر خبثا هو الحديث عن تجميد الاستيطان لمرة
واحدة. إن عاد المفاوض الفلسطيني للمفاوضات على أساس هذا الشرط فلن يكن
أمامه إلا القبول بالصيغة التي تقدمها واشنطن، ومن المعروف أن موقف
واشنطن بات قريبا جدا من الموقف الإسرائيلي سواء فيما يخص القدس أو
اللاجئين أو الأمن أو الحدود، في حالة رفض المفاوض الفلسطيني لتسوية
على هذا الأساس وانتهت مدة الشهور الثلاثة فسيعود الاستيطان بشكل مكثف
وآنذاك لن تتدخل واشنطن مرة أخرى للمطالبة بتجميد الاستيطان بل ستُحمل
الفلسطينيين مسؤولية فشل المفاوضات واستمرار الاستيطان.
التصريحات الفلسطينية الأولية إيجابية من حيث رفض الخطة الأمريكية
متمنين ثبات موقف الرفض هذا ودعمه من الطرف العربي، ولكن إن كنا نتفهم
تمسك القيادة الفلسطينية بخيار السلام وتمسكها بتجميد الاستيطان قبل
العودة للمفاوضات إلا أننا لا نتفهم عدم وجود حراك أو سعي فلسطيني جاد
وشامل للبحث عن خيارات واقعية وعقلانية بديلة، إن لم تكن بديلة راهنا
فعلى الأقل ممكنة مستقبلا.
Ibrahem_ibrach@hotmail. com |