لماذا يفشل العديد ممّن يحتلون مناصب عليا في اتباع ذات القواعد
الأخلاقية التي يروّجون لها؟
هذا السؤال انتشر كالبرق في العديد من المنتديات العربية بعد صدور
أول دراسة أكاديمية تظهر مدى تأثير السلطة والنفوذ في السلوك الأخلاقي
لأصحاب القرار في الوزارات الحكومية والمؤسسات والشركات الخاصة في معظم
دول العالم.
الدراسة تؤكد أن السلطة تولد النفاق، وتجعل الناس أكثر صرامةً حيال
تصرفات الآخرين، وأكثر ليونةً مع الذات. من خلال الصفحة الإلكترونية
لشبكة (CNN العربية) اطّلعتُ على خلاصة الدراسة التي أعدّها مجموعة من
الباحثين في جامعة (نورث ويسترن) بالولايات المتحدة. وأظهرت الدراسة
“أنّ أولئك الذين يحتلّون أكثر الوظائف نفوذاً هم الأكثر نفاقاً في
تصرّفاتهم الشخصية وأشدّ صرامة عند الحكم على الآخرين.
أمّا الفئة الأقلّ نفوذًا، فكانت الأكثر حزمًا مع النفس عن الآخرين،
وهي ظاهرة أطلق عليها معدّو الدراسة – هايبركريسي (hypercrisy). ويعتقد
الباحثون بأنّ السلطة والنفوذ قد يؤديان إلى انفصالٍ تامٍّ بين الحكم
العام والسلوك الخاص. البروفيسور (آدم غالنسكي) الذي شارك في إعداد
الدراسة يقول: “في نهاية المطاف أنماط النفاق hypocrisy والهايبركريسي
hypercrisy تكرس اللامساواة الاجتماعية، فالأقوياء يفرضون القواعد
والقيود على الآخرين، بينما يتجاهلون هذه القيود على أنفسهم، في حين
يتعاون الضعفاء على تناسخ عدم المساواة الاجتماعية؛ لأنهم لا يشعرون
بالاستحقاق ذاته”.
تصريح البروفيسور غالنسكي يؤكّد ما أشار إليه القرآن الكريم في سورة
(البقرة)، حيث يقول عزّ من قائل: (أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم
وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون). هذا التوبيخ الإلهي لجماعةٍ من
اليهود جاء بعد ما كان القادة الدينيون يقومون بوعظ الناس وإرشادهم في
الوقت الذي نسوا فيه أنفسهم في تركهم لفعل البرّ.
النفاق يعتبر آفة اجتماعية، تظهر معالمه من خلال ممارسة التملّق
والتزلّف لمسؤول في وزارة أو في مؤسسة أو شركة خاصة. في ظلّ هذه الآفة
تكثر الطفيليات في مراتب إدارية مختلفة، فيظهرون في صورة مدّاحين
وطبّالين ومتملّقين ومتسلّقين. ومادام الكبير يمارس النفاق، فالصغار
يتخلّقون بأخلاق الكبار، وهكذا تتغلغل الآفة في عروق الوزارات
والمؤسسات.
والسؤال الذي يُثار: لماذا يحدث انفصال تام بين الحكم العام والسلوك
الخاص لأصحاب السلطة والنفوذ؟ وهل يُصاب هؤلاء بانفصامٍ في الشخصية؟
وهل المنصب السياسي والإداري له قدرة على التأثير في سلوك الفرد؟
بالطبع، لدى علماء النفس إجابات شافية لكلّ تلك الاستفسارات، وهي خارج
عن اختصاصنا نحن أصحاب الرأي.
بيد أنّني أرغب في أن أسلّط الضوء على زاوية أخرى من النفاق، وهو
النفاق السياسي (Hypocrisy Political) الذي يعتبر آفة من آفات السياسة،
والذي ابتُلِي به الكثير ممّن يتعاطون العمل السياسي، وأخصّ بالذكر تلك
الفئة التي تسلّقت جدران الأنظمة السياسية حتى وصلت إلى مناصب لا
تستحقّها، فباتت وظيفتها التبجيل للحكّام والمسؤولين، وتحسين صورتهم.
وشريحة أخرى تحسب نفسها على المعارضة، لكنّها تنافق جمهور المعارضة،
فتراه يمارس التملّق مع رجالات الدولة من أجل مصالحه الشخصية، ولا
يتقيّد بالمبادئ والقواعد السلوكية لجماعة المعارضة، وله شخصيتان
متناقضتان، وخطابان مختلفان .. خطاب جماهيري يظهره في صورة سياسي معارض،
وخطاب انبطاحي يستخدمه في المكاتب الخاصة مع الوزراء.
هذه الازدواجية في المعايير الأخلاقية التي اتصف بها بعض الناشطين
السياسيين قد أعطت صبغة سيئة للعمل السياسي. من المؤسف، إننا نجد أن
النفاق في بعض المجتمعات قد أضحى سلّمًا للظهور والارتقاء والوصول إلى
المناصب الرفيعة على حساب الناس، وخاصة أصحاب الكفاءات الوطنية المخلصة.
هذه الآفة إذا تحولت إلى ظاهرة أو ثقافة مجتمعية فحينئذٍ ستحلّ علينا
كارثة أخلاقية.
في الأنظمة السياسية التي اقتربت من الحكم الرشيد، وُضِعت القيود
على أصحاب السلطة والنفوذ لمنعهم من استغلال مناصبهم، كما ألزمتهم
بالتقيّد بالقواعد الأخلاقية في العمل السياسي والإداري، وعكس ذلك نجد
في النظم الديكتاتورية، حيث تساهم الأجهزة الرسمية بصورة غير مباشرة في
تعزيز ثقافة النفاق، ابتداءً من وزارات الإعلام، مرورًا بوزارات
التربية والتعليم، وانتهاءً بأصغر دائرة.
ولكي لا نُبْتَلى بما ابتُلِيت بها هذه الدول؛ يتوجّب على الإعلام
الرسمي بصورة خاصّة، وأصحاب الفكر والرأي بصورة عامّة التصدّي لهذه
الآفة. |