لم تعد ثقافة التفتيت وسياساتها تقتصر في مفاعيلها على المجتمعات
المتعددة طائفيا أو مذهبيا، بل صارت البنية القبلية أو البنى العشائرية
والطائفية والمذهبية حتى غير المتعددة عموما، من أكثر المناطق ابتلاءا
بأدواء التشظية والتفتيت، حيث مجموعة من القوى المحلية والإقليمية
والدولية، تُمسك بأعنّة الصراعات التي لا تكاد تختفي واحدتها حتى تظهر
الثانية، وهكذا دواليك.
وصولا إلى حدود من التداخل والتشابك بين أكثر من مسبّب لمظاهر
الصراع الواحد، بمعزل عن مسببات أخرى لمجموعة من مظاهر صراعات أخرى،
نتائجها في المحصلة لا تقتصر موضعيا على وضع جزئي، قدر ما تؤثر في
مجموع الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي العام، في محيط إقليمي أوسع
من بيئة محلية ليست معزولة، بما تحمله كل هذه من انعكاسات على موازين
القوى الداخلية، وعلى وضعية السلطة الحاكمة تحديدا.
لقد هيأت البنية القبلية السائدة في أفغانستان، أرضية خصبة لاختراق
قوى خارجية، كـ "تنظيم القاعدة" و"إفرازاته الطالبانية" المدعومة من
قبل قوى إقليمية، طوال فترة الاحتلال السوفييتي وبعد انسحاب قواتهم من
أفغانستان، ما أدى إلى تفتيت كامل البنى المجتمعية والقبلية التي
أنشأها السوفييت، كما جرى ويجري منذ الغزو الأميركي لأفغانستان. حتى أن
السلطة وطوال عهدي الاحتلال، لم تكن لتملك سوى خيارها التبعي الوحيد
للقوى الدولية المهيمنة على هذا البلد.
وبسبب الوضع الأفغاني، انتقلت عدوى "الإفرازات الطالبانية" إلى
الداخل الباكستاني، حيث البنى القبلية التقليدية السائدة؛ تمنع أو تحد
من قدرة السلطة المركزية على ممارسة سلطتها على الأطراف والمناطق
الحدودية، ما وضع هذه الدولة أمام تحديات تمرد واسع من جانب القبائل
التي هيمن عليها "تنظيم القاعدة"، ووضعها وجها لوجه في مواجهة الولايات
المتحدة وتدخلاتها العسكرية المزدوجة، ناهيك عن حربها داخل أفغانستان،
وتواصل "الإفرازات الطالبانية" على جانبي الحدود، ما وضع النظام وحماته
من الأميركيين والغربيين عموما، على محك المواجهة واتساع نطاقها من
داخل أفغانستان إلى مناطق الحدود القبلية، حيث الوجود الرئيس لقوة
القبائل المدعومة من بعض قوى أمنية وجيش باكستاني وإن بطرق ملتوية
وسرّية، وهي السرّية ذاتها التي حكمت دعم بعض النظام العسكري
الباكستاني على اختلاف واجهاته السياسية لحركات "المجاهدين الأفغان"
منذ الغزو السوفييتي، وحتى التورط الأميركي والأطلسي الواسع، المتواصل
في الحرب على "الإرهاب القاعدي" انطلاقا من جبال وكهوف أفغانستان.
أما في اليمن، فيكاد الوضع القبلي هناك، يتشابه ووضع البنى القبلية
الأفغانية والباكستانية، من حيث وجود مجموعة ولاءات لأطراف الصراع،
يضفي عليها التفتيت المذهبي؛ عناصر "تشاركية" أخرى في تأجيج حروب لا
تكاد تنتهي؛ إلاّ لتبدأ، في ظل ضعف بنى السلطة القائمة، وهي بالأساس لم
تعد بالمقاييس النسبية متماسكة أو موحدة، لا هي ولا مؤسساتها وأجهزتها
الأمنية، فضلا عن المؤسسة العسكرية التي يجري العمل على تفتيتها هي
الأخرى، وشراء تبعية العديد من عناصرها لصالح أهداف المتصارعين على
الإمساك بأعنة الصراعات المتداخلة؛ على الهيمنة، وعلى السلطة، وعلى
النفوذ المحلي والإقليمي، وهو الأهم على ما يبدو حتى الآن، نظرا لصعوبة،
إن لم نقل استحالة الإمساك بسلطة نظام فاشل، أو هو بسياساته الخبط
عشوائية، يخطّ الآن مزيدا من الفشل في لوحة تحكمه بالسلطة.
إن عدم هيمنة النظام وسلطته على كامل الأراضي اليمنية، وبقاء
مجموعة من القبائل خارج سلطة الدولة، يضفي على اللوحة السوداء التي
يقبع تحتها النظام، المزيد من الظلال القاتمة، تمردا ورفضا لشرعيته
وانسياقا خلف أطروحات معادية له بالمطلق، لا سيما من قبل أفراد "تنظيم
القاعدة" الذي بات يجد موئلا له بين مجموعة من القبائل المعدمة، التي
لم تعرف للدولة وجودا في مناطقها، هذا فضلا عن "الحراك الجنوبي"
ومناطقه التي باتت هي الأخرى مراكز للتمرد، حيث تتداخل فيها "عوامل
الحراك" مع "عوامل القاعدة" مع "عوامل تمردية" أخرى، لها علاقة بطابع
التنمية الاجتماعية والاقتصادية التي تجاهلت نصيب الجنوب من الثروة
والمشاريع والاستثمارات، والصرف على البنى التحتية والخدماتية الهامة
.. إلخ. من عوامل لا توفر للدولة في اليمن المزيد من إمكانيات ومقومات
استمرار وبقاء الدولة على ما هي عليه، حتى عند نقطة الفشل في إدارة
الشؤون العامة.
إن توجه إصلاح اقتصادي جدي، وإصلاح سياسي جذري، لدولة الوحدة
اليمنية، يمكنه أن يحدّ من تآكل شرعية النظام في نظر المواطنين، على
اختلاف اتجاهاتهم وتوجهاتهم، ويوقف نزيف تسرب المزيد من اليمنيين نحو
التمردات القبلية، وفي نفس الوقت، الحد من قدرة "تنظيم القاعدة" على
تدخلات أساسية في شؤون اليمن، وفي شؤون إقليمية، وحتى دولية؛ باتت تخضع
لحسابات الأمن الدولي، وقدرة الأجهزة الأمنية العالمية وإمكانياتها؛
على منع والحد من أخطار التفجيرات العابرة، والطرود التي قيل أنها
أرسلت من اليمن.
وحتى لا تسقط الدولة اليمنية تحت تأثير ضربات "أصوليي القاعدة"
وتحالفاتها القبلية، بالرهان أو بانتظار إنهاء تلك الظاهرة أميركيا،
عبر القوة العسكرية المباشرة وغير المباشرة؛ إحتلالا أو في ما يشبه
الاحتلال. وحتى لا يستمر نزيف التمردات القبلية السياسية والمذهبية، أو
تلك التي لها طابع التهميش والإهمال الاقتصادي والاستبعاد الاجتماعي،
فإن على رأس النظام وأطرافه التوجه جديا نحو إيجاد صيغة حلول سياسية،
تستلهم الإيمان بدور المؤسسات في قيادة عملية تغيير متواصلة في نهج
التعاطي مع المشكلات الداخلية أولا، الاقتصادية والاجتماعية والتنموية،
لإعادة اللحمة إلى أطراف المشروع الوحدوي، دونما أي نزوع بيسماركي أو
بونابرتي، ودونما تفرقة أو تمييز بين مواطني الشمال ومواطني الجنوب،
ومعالجة نزيف الحروب في صعدة مع الحوثيين، قبل أن يستفحل خطر صراع
مذهبي مع "جماعات القاعدة"، الجاهزة على الدوام لشن أكثر من صراع،
والقيام بحروب غير محسوبة، وعمليات إجرام نوعية مع كل من لا يتفق أو
ينحاز إلى فسطاطهم.
على أن الاعتراف بمعطيات الواقع اليمني الراهن، يقتضي من السلطة
نبذ الحلول غير السياسية تدريجا، والاتجاه نحو تبني حوارات عقلانية،
هدفها إنقاذ دولة الوحدة اليمنية من سوس الانفصال الذي ينخر بنياتها
الأساسية التي هي أحوج ما تكون راهنا للتجديد، وتغيير أنماط تعاملاتها
مع مواطنيها، والإشكالات التي يخلقها واقع التهميش وإدارة الظهر لبعض
مطالب القبائل المحقة، في اعتبار أنفسهم أبناء لدولة، لا لقيم التفتيت
القبلية، أو قيم التفتيت المذهبية، وإلاّ فإن هذا هو بالتحديد ما جعل
من "تنظيم القاعدة" يلبس لبوس "المخلّص" في نظر بعض أبناء القبائل
الذين ما عرفوا، ولا تحسّسوا أي شكل من أشكال الوجود للدولة في
مناطقهم.
على رغم كل ذلك، فإن الحل بالتغيير والإصلاح، يتطلب توافر ووجود
الإرادات العاملة على توفير مقومات هذا الحل، بدلا من استعادة سردية
الانفصال التي سادت يوما، ولم تنجح نظرا لتعدد مكامن صراعات القوى
اليمنية ذاتها على النفوذ والهيمنة، لا نظرا لتدخلات خارجية إقليمية أو
دولية فحسب، حيث لا يمكن لمؤامرة أو مؤامرات خارجية أن تنجح دون أن
تتشكل في تربة الواقع سموم تخصيب أقوى تنحو نحو الانفصال. وما لم تعمل
ثقافة الوحدة وتجري ترجمتها على شكل سياسات ومشروعات جماهيرية، وأطر
تنظيمية تعبّر عن أوسع شرائح وتطلعات المصالح الوطنية، على تمتين
الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وإحاطته بسياج من الأمن
والأمان، المقرون بالإيمان بديمقراطية ومدنية الدولة، وعقدها الاجتماعي
وحكم القانون، فإن نظام الدولة وسلطاتها بسياساتها النقيضة – التفتيتية
– هي في المآلات الأخيرة إلى الفشل أقرب. |