لعلنا لا نأتي بجديد حين القول: إن أغلب المجال العربي بكل دوله
وشعوبه، يعاني من تحديات خطيرة وأزمات بنيوية، ترهق كاهل الجميع،
وتدخلهم في أتون مآزق كارثية..
فبعض دول هذا المجال العربي، دخلت في نطاق الدول الفاشلة، التي لا
تتمكن من تسيير شؤون مجتمعها، مما أفضى إلى استفحال أزماتها ومآزقها
على كل الصعد سواء الاقتصادية أو الأمنية أو السياسية.. والبعض الآخر
من الدول والمجتمعات، مهدد في وحدته الاجتماعية والسياسية، حيث قاب
قوسين أو أدنى من اندلاع بعض أشكال وصور الحرب الأهلية..
ودول أخرى تعاني من غياب النظام السياسي المستقر، ولا زالت أطرافه
ومكوناته السياسية والمذهبية، تتصارع على شكل النظام السياسي، وطبيعة
التمثيل لمكونات وتعبيرات مجتمعها..
فالمجتمعات العربية كغيرها من المجتمعات الإنسانية، التي تحتضن
تعدديات وتنوعات مختلفة، لا يمكن إدارة هذه التعدديات على نحو إيجابي
إلا بالقاعدة الدستورية الحديثة (المواطنة) كما فعلت تلك المجتمعات
الإنسانية التي حافظت على أمنها واستقرارها..
إضافة إلى هذه الصور، هناك انفجار للهويات الفرعية في المجال العربي
بشكل عمودي وأفقي، مما يجعل النسيج الاجتماعي مهدداً بحروب وصراعات
مذهبية وطائفية وقومية وجهوية..
ونحن نعتقد أن اللحظة العربية الراهنة، مليئة بتحديات خطيرة، تهدد
استقرار الكثير من الدول والمجتمعات العربية، وتدخل الجميع في أتون
نزاعات عبثية، تستنزف الجميع وتضعفهم، وتعمّق الفجوة بين جميع الأطراف
والمكونات..
وفي تقديرنا أن المشكلة الجوهرية، التي ساهمت بشكل أو بآخر في بروز
هذه المآزق والتوترات في المجال العربي، هي غياب علاقة المواطنة بين
مكونات وتعبيرات المجتمع العربي الواحد..
فالمجتمعات العربية تعيش التنوع الديني والمذهبي والقومي، وغياب
نظام المواطنة كنظام متجاوز للتعبيرات التقليدية، جعل بعض هذه
المكوّنات تعيش التوتر في علاقاتها، وبرزت في الأفق توترات طائفية
ومذهبية وقومية.. فالعلاقات الإسلامية – المسيحية في المجال العربي،
شابها بعض التوتر، وحدثت بعض الصدامات والتوترات في بعض البلدان
العربية التي يتواجد فيها مسيحيون عرب..
وفي دول عربية أخرى، ساءت العلاقة بين مكوناتها القومية، بحيث برزت
توترات وأزمات قومية في المجال العربي.. وليس بعيداً عنا المشكلة
الأمازيغية والكردية والأفريقية.
وإضافة إلى هذه التوترات الدينية والقومية، هناك توترات مذهبية بين
السنة والشيعة، وعاشت بعض الدول والمجتمعات العربية توترات مذهبية
خطيرة تهدد استقرارها السياسي والاجتماعي..
فحينما تتراجع قيم المواطنة في العلاقات بين مكونات المجتمعات
العربية، تزداد فرص التوترات الداخلية في هذه المجتمعات.. لهذا فإننا
نعتقد أن العالم العربي يعيش مآزق خطيرة على أكثر من صعيد، وهي بالدرجة
الأولى تعود إلى خياراته السياسية والثقافية.. فحينما يغيب المشروع
الوطني والعربي، والذي يستهدف استيعاب أطياف المجتمع العربي، وإخراجه
من دائرة انحباسه في الأطر والتعبيرات التقليدية إلى رحاب المواطنة..
فإن هذا الغياب سيُدخل المجتمعات العربية في تناقضات أفقية وعمودية،
تهدد استقرارها السياسي والاجتماعي..
وإن نزعات الاستئصال أو تعميم النماذج، لا تفضي إلى معالجة هذه
الفتنة والمحنة، بل توفر لها المزيد من المبررات والمسوغات..
فدول المجال العربي معنية اليوم وبالدرجة الأولى بإنهاء مشكلاتها
الداخلية الخطيرة، التي أدخلت بعض هذه الدول في خانة الدول الفاشلة،
والبعض الآخر على حافة الحرب الداخلية التي تنذر بالمزيد من التشظي
والانقسام.
فما تعانيه بعض دول المجال العربي على هذا الصعيد خطير، وإذا استمرت
الأحوال على حالها فإن المجال العربي سيخرج من حركة التاريخ، وسيخضع
لظروف وتحديات قاسية على كل الصعد والمستويات..
وإن حالة التداعي والتآكل في الأوضاع الداخلية العربية، لا يمكن
إيقافها أو الحد من تأثيراتها الكارثية، إلا بصياغة العلاقة بين أطياف
المجتمع على قاعدة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات..
وإن غياب مقتضيات وحقائق المواطنة في الاجتماع السياسي العربي،
سيقوي من اندفاع المواطنين العرب نحو انتماءاتهم التقليدية، وعودة
الصراعات المذهبية والقومية والدينية بينهم، وسيوفر لخصوم المجال
العربي الخارجيين إمكانية التدخل والتأثير في راهن هذا المجال ومستقبله..
فالمجتمعات العربية كغيرها من المجتمعات الإنسانية، التي تحتضن
تعدديات وتنوعات مختلفة، لا يمكن إدارة هذه التعدديات على نحو إيجابي
إلا بالقاعدة الدستورية الحديثة (المواطنة) كما فعلت تلك المجتمعات
الإنسانية التي حافظت على أمنها واستقرارها..
فالاستقرار الاجتماعي والسياسي العميق في المجتمعات العربية، هو
وليد المواطنة بكل حمولتها القانونية والحقوقية والسياسية..
وأي مجتمع عربي لا يفي بمقتضيات هذه المواطنة، فإن تباينات واقعه
ستنفجر، وسيعمل كل طرف للاحتماء بانتمائه التقليدي والتاريخي.. مما
يصنع الحواجز النفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية بين مكونات
المجتمع الواحد..
وفي غالب الأحيان فإن هذه الحواجز، لا تصنع إلا بمبررات ومسوغات
صراعية وعنفية بين جميع الأطراف.. فتنتهي موجبات الاستقرار، ويدخل
الجميع في نفق التوترات والمآزق المفتوحة على كل الاحتمالات..
لهذا فإن دولة المواطنة هي الحل الناجح لخروج العالم العربي من
مآزقه وتوتراته الراهنة..
فدولة المواطنة هي التي تصنع الاستقرار وتحافظ عليه، وهي التي
تستوعب جميع التعدديات وتجعلها شريكة فعلية في الشأن العام، وهي التي
تجعل خيارات المجتمع العليا منسجمة مع خيارات الدولة العليا والعكس،
وهي التي تشعر الجميع بأهمية العمل على بناء تجربة جديدة على كل
المستويات، وهي التي تصنع الأمن الحقيقي لكل المواطنين في ظل الظروف
والتحديات الخطيرة التي تمر بها المنطقة..
والمجتمعات لا تحيا حق الحياة، إلا بشعور الجميع بالأمن
والاستقرار.. لهذا فإن الأمن والاستقرار لا يُبنيان بإبعاد طرف أو
تهميشه، وإنما بإشراكه والعمل على دمجه وفق رؤية ومشروع متكامل في
الحياة العامة.
وهذا لا تقوم به إلا دولة المواطنة، التي تعلي من شأن هذه القيمة،
ولا تفرق بين مواطنيها لاعتبارات دينية أو مذهبية أو قومية..
فهي دولة الجميع، وهي التمثيل الأمين لكل تعبيرات وحراك المجتمع..
فالمجال العربي اليوم من أقصاه إلى أقصاه، أمام مفترق طرق..
فإما المزيد من التداعي والتآكل، أو وقف الانحدار عبر إصلاح أوضاعه
وتطوير أحواله، والانخراط في مشروع استيعاب جميع أطرافه ومكوناته في
الحياة السياسية العامة.. فالخطوة الأولى المطلوبة للخروج من كل مآزق
الراهن وتوتراته، في المجال العربي، هي أن تتحول الدولة في المجال
العربي إلى دولة استيعابية للجميع،؛ بحيث لا يشعر أحد بالبعد
والاستبعاد.. دولة المواطن بصرف النظر عن دينه أو مذهبه أو قوميته ؛
بحيث تكون المواطنة هي العقد الذي ينظم العلاقة بين جميع الأطراف..
فالمواطنة هي الجامع المشترك، وهي حصن الجميع الذي يحول دون افتئات أحد
على أحد..
وجماع القول: إن دولة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، هي
خشبة الخلاص من الكثير من المآزق والأزمات.. |