شبكة النبأ: غالباً ما يوصف الجنون
بأنه القيام بنفس العمل وتوقع نتائج مختلفة عنه، ويبدو ان هذا بالضبط
ما تفعله واشنطن في الشرق الاوسط منذ سنوات برأي الصحافي المخضرم ستيفن
كينزر الذي يقترح في كتابه «إيران، تركيا ومستقبل أميركا»، ضرورة ان
تنتهج واشنطن خطاً راديكالياً جديداً في المنطقة. بحسب مجلة فورين
أفيرز الامريكية المتخصصة بالشؤون الاستراتيجية والدولية.
يقول كينزر: الولايات المتحدة بحاجة في الحقيقة للدخول في شراكة مع
تركيا وايران من اجل تشكيل «مثلث قوي» يعمل على تشجيع ثقافة
الديموقراطية ومكافحة الإرهاب، بيد أن الطريق امام قيام مثل هذا المثلث
مسدود بالطبع، إذ تثير ايران الآن بأيديولوجيتها الراديكالية،
وبرنامجها النووي الوليد اكبر صداع لواشنطن في الوقت الراهن.
وعلى الرغم من تحالف تركيا والولايات المتحدة منذ زمن بعيد، واجهت
العلاقات التركية – الأمريكية في الآونة الاخيرة اكثر من اختبار، ففي
يونيو الماضي، على سبيل المثال، صوّت المبعوث التركي في مجلس الامن
الدولي ضد العقوبات التي ترعاها امريكا ويفرضها المجتمع الدولي على
ايران.بل وبدلاً من الدعوة لقيام تعاون أوسع مع الأتراك، هناك من
يتساءل في واشنطن الآن: من أضاع تركيا؟
لكن على الرغم من هذا، يقول كينزر ان التحالف الامريكي التركي
الايراني المقترح هو مشروع يمكن تنفيذه على المدى البعيد وان لفكرته
اساسا واقعيا في تاريخ المنطقة الحديث.
فعلى عكس البلدان الاسلامية الاخرى، لتركيا وايران – برأيه تجربة
على الاقل في النضال من اجل الحرية السياسية تمكنا خلالها من تطوير فهم
أفضل للديموقراطية والتعلق بها مما يعني انهما يشاركان الولايات
المتحدة في بعض القيم الاساسية.
وبالاضافة الى وجود طبقة وسطى مثقفة في كل من تركيا وايران مما يمهد
الطريق امام قيام مجتمعات مدنية قوية، يشارك هذا البلدان الولايات
المتحدة حتى في اهدافها الاستراتيجية ومنها الرغبة في اضفاء الاستقرار
على العراق وأفغانستان، والقضاء على الحركات السنية الراديكالية
كالقاعدة. بحسب صحيفة الوطن.
مثلث القوة
ومرة اخرى على الرغم من كل هذا، من الصعب ان يبرز «مثلث القوة» الذي
يتحدث عنه كينزر في عالم اليوم، اذ يتعين ان تتغير ايران بشكل
دراماتيكي وتتحول الى ديموقراطية قبل ان يصبح من الممكن قيام مثل ذلك
التحالف، بالطبع من غير الواضح كيف يمكن ان يحدث هذا، لكنه كينزر يقترح
في هذا الاطار استراتيجية من مبدأين: التعامل مع النظام الراهن بشكل
فاعل ومؤثر لأبعد حد ممكن ثم انتظار اليوم الذي تستطيع فيه الجماهير
ذات العقلية الديموقراطية من شق طريقها الى السلطة.
من الملاحظ هنا ان مبدأ التعامل مع نظام طهران هو سياسة مُعلنة من
جانب ادارة اوباما، لكن كينزر يريد ان تكون واشنطن اكثر جرأة في هذا
المجال بأن تبدأ مفاوضات ثنائية شاملة مباشرة وغير مشروطة مع طهران.
وهنا يُذكّر كينزر قرّاءه ان الانفراج الدبلوماسي الذي حققه الرئيس
الامريكي نيكسون مع الصين الشعبية جاء في وقت كانت فيه بيجين تقدم
السلاح للجنود الفيتناميين الشماليين الذين يستخدمونه لقتل الأمريكيين،
ويلاحظ كينزر أن بيكون لم يجعل «السلوك الجيد» شرطا للتفاوض لأنه أدرك
أن هذا الأمر منوط بالدبلوماسية، فبعد أن يتم التوصل للاتفاق يتغير
السلوك تبعا لذلك لاحقا.
عصا وجزرة
وينتقد كينزر أيضا السمة الراهنة في الدبلوماسية الأمريكية التي لا
تعطي برأيه ما يبحث عنه الإيرانيون فعلا وهو الاحترام، الكرامة
والكبرياء المفقود، وهذا ما يجعل ما يوصف بأسلوب «العصا والجزرة» غير
مثمر مع طهران.
يقول كينزر: هذا الأسلوب يمكن استخدامه مع الحمير وليس في التعامل
مع أمة وجودها أقدم من وجود الولايات المتحدة بعشر مرات.
لذا يكمن سر تحويل إيران من عدو إلى صديق ليس في دفع نظام إيران
للشعور بأنه مهدد بل في الإحساس بأنه أكثر أمنا.
غير أن هناك الكثير من الأشياء التي ربما تحول دون استجابة إيران،
فالنظام الراهن قد لا يبدي استعدادا للعب دور الشريك مع الولايات
المتحدة بصرف النظر عن المواقف الإيجابية التي تتخذها الإدارة
الأمريكية.
هنا ينصح كينزر بأن تتجنب واشنطن التعامل بأسلوب عاطفي، وألا تفعل
شيئا من شأنه أن يجعل تلك الشراكة صعبة التحقيق عندما تكون الأوضاع
ملائمة لذلك، كما على الولايات المتحدة في حال بدء التفاوض عدم تقديم
تنازلات لنظام طهران قد تؤدي لإضعاف الإيرانيين المضطهدين الذين
يدافعون عن قيم الديموقراطية.
بيد أن كينزر لا يوضح كيف يمكن إقامة مثل ذلك التوازن الدقيق، ولا
يقدم سوى القليل مما يمكن أن يساعد صناع السياسة الباحثين عن خريطة
طريق عملية في التعامل مع النظام.
حضارة وصراع داخلي
يمكن القول إن الضلع الآخر لمثلث كينزر المقترح المتمثل بالشراكة
الأمريكية- التركية واقعي إلى حد كبير لأن التعاون المستمر بين البلدين
منذ عقود حوّل تركيا إلى دولة مؤسسات وباتت تستحق اهتماما أكبر.
فبالرغم من أن تحول تركيا المفترض من دولة علمانية إلى أخرى إسلامية
أثار الكثير من الأسئلة في الغرب، يمكن أن يزيد طريق تركيا الجديد هذا
عمليا مكاسب العلاقة الأمريكية- التركية، كما يقول كينزر بحماس.
ولكي نفهم هذا علينا التخلي عن الرواية التقليدية لتاريخ تركيا
الحديث، فقد كانت تركيا مرة وفقا لهذه الرواية رجل أوروبا المريض الذي
وقع أسيرا في قبضة قوى الظلام الدينية التي تعارض التقدم، ثم جاء بعد
ذلك كمال أتاتورك بالإصلاحات الغربية وحقق مع البلاد قفزة علمانية كبرى
إلى الأمام.
غير أن قوى الظلام كانت كامنة لسوء الحظ، وعادت للظهور من جديد
حديثاً تحت ستار حزب العدالة والتنمية شبه الديني.
معركة
من الواضح أن في قلب هذه القصة معركة بين التنوير والظلامية، لكن
تركيا عانت على الدوام في الحقيقة من انقسام بين أنصار الغرب، وأنصار
التحديث، فبينما سعى الأتراك الذين يميلون للغرب بقيادة أتاتورك لبناء
تركيا وجعلها كدولة غربية بالكامل من خلال التأكيد على الطابع الثقافي
الغربي والعلمانية، دعا أنصار التحديث للقيام بإصلاحات سياسية
واقتصادية والمحافظة على الدين والثقافة التقليدية للبلاد في نفس الوقت،
وهكذا فرض أنصار الغرب إثر نجاحهم في السيطرة على البلاد بعد الحرب
العالمية الأولى ثورة ثقافية من الأعلى للأسفل، واستغلوا قبضتهم
الحديدية على السلطة لتغيير ملامح تركيا التقليدية بالكامل.
فقد أمروا المواطنين بارتداء الملابس والقبعات الغربية والاستماع
للموسيقى الغربية أيضا وحضور حفلات الأوبرا، وحلوا كل المؤسسات الدينية
تقريبا، لكن لما لم يقتنع سوى جزء صغير من السكان بهذه التغييرات
الراديكالية اقتنع هؤلاء الثوريون بأنه يتعين التخلي عن الديموقراطية
لصالح قيام نظام سلطوي يعمل من أجل النفع العام.
وبالمقابل، رفع أنصار التحديث راية الديموقراطية، وفضلوا إصلاح
تركيا من خلال التطور الاقتصادي داعين في ذلك للعمل بنظام التجارة
الحرة والمشاريع الخاصة، وهكذا أصبح رئيس الحكومة عدنان مندريس الذي
تولى السلطة عام 1950 في أول انتخابات حرة في البلاد، رمزا وأيقونة
لدعاة التحديث، فقد أوقف الثورة الثقافية الغربية وخففت إجراءات القمع
التي تستهدف الدين، وقاد عملية الازدهار الاقتصادي مما حقق له الفوز
بثلاثة انتخابات على التوالي.
مشعل الحداثة
غير أن جهوده هذه لم ترق لأنصار الغرب، فقد تم القاء القبض عليه،
وامر مجلس عسكري مؤيد لأتاتورك بإعدامه عام 1961.
لكن مشعل التحديث ما لبث ان ظهر في اواسط ثماينيات القرن الماضي
عندما التقطه رئيس الوزراء (ثم الرئيس فيما بعد) توركوت اوزال ثم حزب
العدالة والتنمية الذي يتولى السلطة الآن منذ عام 2002 بالطبع برز
مؤسسو هذا الحزب، ومنهم رئيس الحكومة الراهن رجب طيب اردوغان، مما يمكن
وصفه بـ «القوة الثالثة» في السياسة التركية أي الاتجاه الاسلامي. الا
ان هؤلاء اتجهوا نحو الاصلاح انطلاقا من عامل البراغماتية والنزعة
الليبرالية المتزايدة في قاعدتهم بالاضافة لنمو الطبقة الاسلامية
الوسطى، ومن الملاحظ ان حزب العدالة والتنمية يرفض رغم ميوله الدينية
هدف الاسلاميين الحقيقي المتمثل بقيام دولة اسلامية خالصة.
من ناحية اخرى، من الواضح ان الخلافات بين انصار التحديث وانصار
التغريب (نسبة للغرب) انعكست ايضا على السياسة الخارجية التركية.
فأنصار التحديث لم يشاركوا دعاة التغريب في نفورهم الايديولوجي من
الشرق، وبدؤوا بالانفتاح عليه بعد انتهاء الحرب الباردة، اذ عندما كان
الاتحاد السوفييتي يهيمن على منطقة البلقان والقوقاز والشرق الاوسط
خلال تلك الحرب، كانت تركيا تشعر بالانعزال وانها محاطة بالاعداء.
لكن ما ان انهار الاتحاد السوفييتي حتى بدأ الرئيس اوزال زيارة
العديد من العواصم العربية وعواصم آسيا الوسطى، وتمكن من ارساء اسس
التجارة والمبادلات الحرة. غير انه احتفظ في الوقت نفسه بعلاقات وثيقة
مع الولايات المتحدة وحلفاء الاطلسي.
الا ان تركيا عانت بعد موت اوزال في 1993 من حالة عدم استقرار
استمرت عقدا تقريبا شهدت خلالها حكومات تآلف عدة وانقلابا عسكريا غير
مباشر عندما قدم رئيس الحكومة استقالته بضغط من جانب العسكر. عندئذ
تقوقعت البلاد حول نفسها وفقدت الرغبة بالقيام بأي نشاط مستقل على
مستوى الخارج.
غير ان هذا الوضع ما لبث ان تغير في 2002 حينما وصل حزب العدالة
والتنمية الى السلطة وواجه على الفور قرارا مصيريا، حيث تعين عليه
تحديد ما اذا كان سيسمح للقوات الامريكية ام لا باستخدام الاراضي
التركية لغزو العراق.
موقف صعب
الحقيقة ان الحكومة التركية وجدت نفسها عندئذ في موقف لا تحسد عليه
حائرة بين الاستجابة لطلب حليف مهم (امريكا) وبين رفض التعاون معه في
حرب لا تستحوذ على الشعبية والتأييد، لكنها وافقت بعد تردد على فتح
حدودها امام تلك القوات، الا ان البرلمان التركي، الذي يهيمن عليه حزب
العدالة والتنمية، فاجأ الولايات المتحدة وكثيرين آخرين عندما قال: لا.
في البداية لم تكن انقرة واثقة انها اتخذت القرار الصحيح في تلك
المسألة الا ان الحكومة احست بالطمأنينة فيما بعد عندما برز اجماع ساحق
على ان الحرب في العراق ليست سوى كارثة، وان تركيا فعلت الصواب ببقائها
بعيدة عنها.
اذ برفضها تأييد ذلك الغزو تمتعت تركيا بشعبية كبيرة في انحاء الشرق
الاوسط لم تؤد فقط لتعزيز مكانة دبلوماسييها بل وزادت ايضا فرصها
الاقتصادية حيث اصبح الاتراك فجأة شركاء عمل جذابين في المنطقة.
وهنا يتعين النظر الى تصويت تركيا الاخير ضد العقوبات الدولية على
ايران من خلال هذا السياق.
لقد تعلم الاتراك ان بمقدورهم كسب الكثير سياسيا واقتصاديا
بالامتناع عن الانضمام الى الولايات المتحدة عندما تقوم بأعمال بطريقة
عدائية ليست ضرورية. فعلى الرغم من انها تشارك الولايات المتحدة في
الكثير من اهداف السياسة الخارجية، تفضل تركيا تحقيق مثل هذه الاهداف
من خلال ذلك النوع من الدبلوماسية الذي استخدمته في التعامل مع ايران،
ففي مايو الماضي اقنعت تركيا والبرازيل ايران بالتوقيع على اتفاق نووي
مماثل لاتفاق سابق غير ناجح كانت الولايات المتحدة قد توسطت به قبل ستة
اشهر. لكن بدلا من امتداح الاتفاق التركي البرازيلي الايراني، ضغطت
واشنطن من اجل فرض عقوبات على ايران، وبالطبع فاجأت هذه الخطوة رئيس
الحكومة التركية اردوغان الذي كان يعتقد ان الرئيس الامريكي باراك
اوباما قد كتب رسالة له وللرئيس البرازيل لويز ايناشيو لولا داسيلفا في
ابريل يطلب منهما فيها التفاوض على ذلك الاتفاق بالضبط.
وعلى الرغم من مزاعم ادارة اوباما بان تركيا اساءت تفسير تلك
الرسالة، يعتقد الكثيرون في تركيا ان اوباما رضخ في هذه المسألة
للكونغرس الامريكي الذي يتبنى موقف الصقور فيه.
أخبار طيبة وأخرى سيئة
على عكس ما يفترضه البعض من ان حزب العدالة والتنمية ليس سوى مرحلة
عابرة سوف تزول سريعا، يمكن القول ان استقلال القرار السياسي التركي
الذي حققه هذا الحزب قد ولد ليبقى ويستمر، اذا ان ظهور الحزب وارتفاع
نجمه في عالم السياسة التركية هو نتيجة للتغييرات التي طرأت على
المجتمع التركي ككل، فقد باتت الطبقة الوسطى الجديدة الملتزمة اسلاميا،
التي برزت بفضل ثورة السوق الحرة التي قادها اوزال في الثمانينات،
تتفوق عدديا واقتصاديا في ادائها على النخبة العلمانية القوية عادة.
نعم لقد اصبحت هذه الطبقة هي التي تشكل قاعدة انصار الحداثة التي ستوجه
رؤيتها تركيا خلال السنوات المقبلة على الارجح.
بيد ان دعاة الحداثة الاتراك ليسوا اشتراكيين، مثل الرئيس الفنزويلي
هوغوشافيز، الذي يسعى لوضع حد للنظام الرأسمالي، ولا هم اسلاميون
راديكاليون يسيرون على خطى رئيس ايران محمود احمدي نجاد الذي يريد
تدمير اسرائيل.
بل عمل اردوغان منذ سنوات على: تعزيز العلاقات الدبلوماسية التركية
مع اسرائيل، شجب مناهضته السامية، رحب بعمل الشركات الاسرائيلية في
تركيا، استضاف الرئيس الاسرائيلي شمعون بيريز وبدأ محادثات السلام غير
المباشرة بين اسرائيل وسورية.
ولم يظهر الصدع في العلاقات التركية – الاسرائيلي الا في نهاية عام
2008 عندما شنت اسرائيل هجوما شرسا على قطاع غزة رأى فيه اردوغان اهانة
شخصية له لانه كان قد استضاف رئيس الحكومة الاسرائيلية ايهود اولمرت من
اجل محادثات السلام قبل ذلك الهجوم بأيام قليلة. ثم ازداد الصدع اتساعا
في يونيو بعد الغارة الاسرائيلية على سفينة مساعدات تركية كانت متجهة
الى غزة.
توافق
جدير بالذكر ان وزير الخارجية التركية احمد داود اوغلو كان قد اعلن
اكثر من مرة ان ما يسعى اليه حزب العدالة والتنمية دائما هو الوصول الى
شرق اوسط آمن ومزدهر ومتكامل من خلال التجارة والاستثمار، ومن الواضح
ان هذه الاهداف تتفق تماما مع تلك التي تسعى اليها الولايات المتحدة مع
فارق واحد هو «الاسلوب» فتركيا ستستمر في الابتعاد عن امريكا طالما سعت
واشنطن لتحقيق رؤيتها بالقوة بدلا من الدبلوماسية.
وسواء كانت هذه اخبار طيبة ام سيئة بالنسبة للولايات المتحدة،
سيعتمد هذا الامر في الواقع على الطريقة التي يرى من خلالها المرء
اهداف السياسة الخارجية الامريكية، هنا نتساءل: هل تريد الولايات
المتحدة تأمين اكبر عدد ممكن من الحلفاء المطيعين دائما لها في لعبة
استخدام القوة على نحو دائم ام تعتمد على شركاء مستقلين يفضلون استخدام
الدبلوماسية لتعزيز الامن والرخاء في هذا العالم الذي يزداد تعقيدا؟
اذا كانت واشنطن تحبذ الخيار الثاني فانها ستجد في تركيا الجديدة حليفا
مفيدا كما يقول كينز الذي يضيف ايضا ان خروج تركيا من الفلك الامريكي
منحها مكانة مفيدة لها وللولايات المتحدة معا، فهي تستطيع الآن الدخول
مع شركاء ابرام صفقات لا تستطيع امريكا الوصول اليها.
أعظم إسهام
الحقيقة اننا لو تجاوزنا الدبلوماسية لتبين لنا ان اعظم اسهام حققه
تركيا في هذه المنطقة المضطربة من العالم هو مواءمتها على نحو جيد جدا
بين الاسلام والديموقراطية والرأسمالية، ففي الوقت الذي افترض فيه
الغرب دائماً ان تركيا التي تسير وفقاً للنظام الغربي في الحكم تمثل
نموذجاً يحتذى في المنطقة، يقول كينزر ان العالم الاسلامي كان يرى في
تركيا خلال معظم مراحل تاريخها الحديث بلدا مرتداً بلا شرعية دينية،
ومجرد تابع ذليل لواشنطن، لكن تركيا باتت تشد اخيراً انظار العرب بعد
ان اصبحت الآن أكثر استقلالا وحداثة وميلاً نحو الاسلام.
ولعل من المفيد الاشارة هنا الى ان %75 من الذين شاركوا في
الاستطلاع الذي اجرته مؤسسة الدراسات الاجتماعية والاقتصادية التركية
المستقلة في كل من سورية، لبنان الاردن، مصر، المملكة العربية السعودية
والاراضي الفلسطينية، أكدوا ان تركيا اصبحت نموذجاً رائعاً للتآلف بين
الاسلام والديموقراطية.
لذا، لم يكن مستغربا ان اصبحت المنتجات التركية تحظى بشعبية كبيرة
في الشرق الاوسط في السنوات الاخيرة، وبات السواح العرب يتدفقون على
اسطنبول، بل وشقت المسلسلات التلفزيونية التركية طريقها بقوة الى محطات
التلفزة العربية، وباتت تشجع وتروج لثقافة اسلامية اكثر اعتدالاً
ومرونة.
كما استثمر رجال الاعمال الاتراك مليارات الدولارات في بلدان الشرق
الاوسط. وفي هذا السياق يمكن ان نذكر ايضا حركة غولين الصوفية التي
يقودها رجل الدين التركي الشهير فتح الله غولين التي افتتحت اكثر من
1000 مدرسة في اسيا وافريقيا بهدف تنشئة جيل جديد من الطلاب ملم، ليس
فقط بالعلوم الدينية وفقاً للصيغة التركية المعتدلة للاسلام، بل وعلى
اطلاع على العلوم العلمانية ايضا.
ولا شك ان هذا يتعين ان يثير الشعور بالارتياح لان الممارسة الدينية
للاسلام في تركيا تتسم بالمرونة وعلى عكس ما هو موجود في بلاد اسلامية
اخرى، بل ومن الملاحظ ان تركيا اصبحت خلال العقود القليلة الماضية اكثر
ليبرالية مع نضوج الطبقة التركية الوسطى ومع الترحيب بالاصلاح الديني.
بالطبع، لم تصل تركيا بعد الى الكمال فنضالها المستمر منذ قرنين لكي
تصبح بلداً ديموقراطيا عصرياً لم يكتمل بعد، صحيح ان حزب العدالة
والتنمية اسهم بشكل كبير في تحقيق التقدم المطلوب من خلال الاصلاحات
الاقتصادية والسياسية التي تفيد ليس فقط المسلمين المحافظين بل وايضا
الاقليات غير المسلمة، لكن لايزال هناك الكثير بعد مما يتعين عمله.
وفي هذا الاطار، يواجه اردوغان الآن انتخابات العام المقبل ويحتاج
ليبرز نفسه كسياسي اكثر تسامحاً مع المعارضين له كي يضمن الفوز.
كما يحتاج لتجنب الظهور بأنه قريب جداً من ايران او انه على صلة
وثيقة بحماس وغيرها من المنظمات الاسلامية الاخرى وذلك حتى لا تتضرر
مصداقية تركيا في الغرب.
وهناك مسألة اخرى في غاية الاهمية وهي ضرورة العمل لحل مشكلة تركيا
في النزاع المسلح منذ 25 سنة مع القوميين الاكراد، وهنا يمكن القول ان
معالجة هذه المسألة بنفس الطريقة التي تعاملت بريطانيا من خلالها مع
الجيش الجمهوري الايرلندي قد تكون الخيار الوحيد على ضوء فشل الحل
العسكري لهذه المشكلة.
لكن من الواضح ان مبادرات حزب العدالة والتنمية في هذه المسألة كانت
حتى الآن ضعيفة وفاترة، كما ان موقف المعارضة التركية غير مساعد في هذا
المجال.
اخيرا، يذكر كينزر قراءه في تطرقه لمثل هذه المشكلات الداخلية في
كتابه بأن تركيا بحاجة للمزيد من التطور وعلى مختلف المستويات حتى
تستطيع ان تصبح لاعباً مؤثراً على المسرح الدولي، لكنه يقول ايضا ان
الولايات المتحدة بحاجة هي الأخرى لتغيير نفسها بأن تصبح اكثر تواضعاً
على المسرح نفسه.
وفي هذا السياق يقول ان على الأمريكيين ادراك انهم يفتقرون لبعض
الابعاد الثقافية والتاريخية والضرورية كي يتمكنوا من الابحار بفاعلية
وسط امواج الشرق الاوسط والمناطق المجاورة له، ويضيف قائلاً: اذا قبلت
أمريكا هذه الحقيقة، واعترفت انها بحاجة للمساعدة فستجد تركيا عندئذ
افضل صديق لها في المنطقة.
من الواضح اذا ان تركيا على استعداد للقيام بهذا الدور، وبذا يكون
الضلع التركي من مثلث القوة، الذي تحدث عنه كينزر، قابل للتكامل مع
الضلع الأمريكي في حين يبقى تكامل الضلع الايراني منه أمرا تكتنفه
الكثير من العقبات في الوقت الراهن، بيد ان هذا لا يمنع كينزر من
القول: ان شعلة مسيرة الحرية التي ستضع ايران على الطريق الصحيح، لا
تزال تتأجج بعد.
نبذة عن مجلة فورين افيرز
مجلة "العلاقات الخارجية" أو Foreign Affairs هي من أبرز الدوريات
المتخصصة في شئون القضايا الخارجية في العالم وتصدر عن مجلس العلاقات
الخارجية Council on Foreign Relations. ويعد هذا المجلس من أعرق
مؤسسات الثينك تانكس بالساحة السياسة الأمريكية،
أسس مجلس العلاقات الخارجية عام 1921 وانبثقت جذوره في فترة نهاية
الحرب العالمية الأولى. ومن الأسماء التي انضمت إلى المجلس سواء من
خلال الخدمة بالهيئة الإدارية أو كأعضاء مشاركين في اجتماعات المجلس
نائب رئيس الولايات المتحدة الحالي ديك تشيني وجورج بوش الأب ووزراء
الخارجية السابقين هنري كيسينجر وجورج شولتز وورين كريستوفر ومستشار
الأمن القومي للرئيس كارتر زينيو بريجينسكي ومستشار الأمن القومي في
عهد ريغان برينت سكوكروفت بإلاضافة ورئيس المخابرات العامة في عهد
أيزنهاوار ألان دالاس وغيرهم من صانعي القرار والسياسيين السابقين.
وتقدر ممتلكات المجلس بأكثر من مائتي مليون دولار أمريكي، ويصرف المعهد
نحو 30 مليون دولار في السنة الواحدة ويأتي التمويل من تحصيلات
الاشتراكات. وتشكل أرباح مجلة العلاقات الخارجية Foreign Affairs حولي
20 % من الأرباح السنوية للمجلس. كما يحظى المركز بمنح من تبرعات
لهيئات الأبحاث. بحسب نقل موقع تقرير واشنطن. |