المطلقات السياسية

كعائق أمام الديمقراطية والوحدة الوطنية

د. إبراهيم أبراش

من خلال تحليل الخطاب السياسي العربي الشعبي والرسمي فإن الزعيم السياسي العربي سواء كان في السلطة أم في المعارضة إما : خائن وجاسوس و كافر ملحد وعميل لواشنطن أو وتل أبيب أو إيران أو القاعدة.. أو وطني وثوري وقومي منزه عن كل خطأ أو رباني قدسي يسدد الرب خطاه ويحمي أركان حكمه من الكافرين والضالين، ويبدو انه ضمن هذا الخطاب الذي يعكس ويعبر عن ثقافة لا يوجد زعيم عربي بشر مثل كل البشر يخطئ ويصيب.

ضمن هذا الخطاب وهذه الثقافة التي تعززها برامج فضائيات عربية امتهنت تأجيج الفتنة تحت عنوان الرأي والرأي المعاكس، يصبح من الصعب تصور قيام نظم ديمقراطية تدار فيها دفة الحكم ضمن منطق الاختلاف في إطار الوحدة ويصبح من الصعب قيام وحدة وطنية بين أحزاب ونخب السلطة وأحزاب ونخب المعارضة. هذا ما خَلُصت إليه من جدل مع صديق، وإليكم القصة.

يصر صاحبي أن ينعتني بالانطوائي وأحيانا بالغامض، ولأنه يحبني ويعزني كما يقول، وهو صادق على ما أشعر، فهو يفرض نفسه عليَّ بموعد أو بدون موعد، مصمم أن يُخرجني من عزلتي كما يقول وان يعرف ما يجول بخاطري. في كثير من الحالات أتقبل اقتحاماته لحياتي الخاصة والفكرية واستمع لحديثه الذي لا اعرف من أين يأتي به مسترسلا وأحيانا متنقلا من موضوع لآخر: من السياسة للأدب، ومن الفن للتاريخ، ومن الاقتصاد للدين، ولا أخفي أنني اترك له العنان للإسهاب عندما أجده يلخص حديث الناس والشارع، فكثير مما يقوله هو ثقافة العامة، وهذا يريحني فبدلا من أن أهيم على وجهي في الشارع أو أجلس في مجالس أكون فيها كالجالس على الجمر للتعرف على مستجدات المجتمع والشارع، يأتيني الشارع مختَزَلا بشخص بمثابة موسوعة شعبية -مع أن حقيقة المجتمع ليس الظاهر منه في الشارع وعلى الوجوه وفي السلوكيات، بل الخفي ألا ظاهر، إنه بنيات عميقة تحتاج لعلماء مختصين ليسبروا كنهه -.

في أحايين أخرى أتهرب من هذا الصديق اللجوج وألجأ للكذب الأبيض- أعرف أن الكذب كذب فلا أبيض فيه ولا أسود-مدعيا المرض أو إنني خارج البيت أو عندي ضيوف، وعندما يقرر الإنسان أن يكذب فلا حدود للكذب.

في إحدى جولات الجدال مع صديقي المتطير من كل شيء في عالمنا العربي وخصوصا من الحكام والنخب السياسية، وجدت نفسي في موقع الاتهام لا لشيء إلا لأنني أرفض المطلقات السياسية وأُنظِر وأنظُر للأمور من منطلق تاريخي واقعي وعلمي. كان مدخل الحديث الأحكام المطلقة المسبقة التي يطلقها صديقي على السياسة والسياسيين، فهؤلاء في نظره إما فاسدون وخونة وعملاء الاستعمار والصهيونية بالمطلق أو تقدميون ووطنيون بالمطلق بحيث لا يأتيهم الباطل من أمامهم ولا من خلفهم. وعندما جادلته بخطل الأحكام المطلقة في السياسة وفي كل شيء حتى في الدين - الله حقيقة مطلقة ولا شك ولكن بالنسبة للمؤمنين به وليس لكل البشر - احتجَ مجَدَدَا واتهمني بأنني رجعي ومتواطئ وأبرر السياسة الخطأ الخ، وسرد سجلا طويلا من الممارسات والسياسات لأنظمة ومسئولين عرب وفلسطينيين قال بأنهم السبب في ضياع فلسطين وتبديد حلم الوحدة العربية والسبب في عودة الاستعمار والهيمنة للمنطقة الخ.

لم يكن واردا عندي الدفاع عن هؤلاء وسياساتهم فقد سبق وأن كتبنا عن مسؤوليتهم عن ما آلت إليه أوضاعنا من ترَدِ. صحيح يجب التنديد بالسياسات الخاطئة وأخطاء الأنظمة العربية لا تغتفر، ولكن من التعسف في الحكم القول لو لم يمارس هؤلاء ما مارسوا لكانت فلسطين تحررت و الأمة العربية توحدت وما كانت العراق أصبحت محتلة وما كانت التجزئة والحرب الأهلية تفعلان فعلهما في السودان واليمن والصومال ولبنان الخ، وسيكون التعسف في الحكم والشطط في التحليل أكبر إن قلنا بأن الصحيح المقابل والبديل هو مواقف وشعارات قوى المعارضة، فلا صحة لفكر بدون تجربة وممارسة في الواقع، فالواقع هو المحك العملي للحكم على صحة أي فكر. لقد وصلت قوى كانت تعارض النظم القائمة للسلطة، وعندما أصبحت في السلطة كانت ممارساتها أقرب لممارسة الأنظمة التي أطاحوا بها من قربها للشعارات التي كانوا يرفعونها.

إن كان الأمر مجرد تسجيل مواقف وأخطاء فيمكننا القول بدون تردد بأن هناك أنظمة وأحزاب عربية أساءت لقضايا امتنا العربية ولشعوبها وأساءت للقضية الفلسطينية، ويمكن تسجيل أن قيادات وقوى وطنية وقومية ناضلت وضحت من أجل قضايا الأمة وبعضها قضى وهو ثابت على مواقفه.... ولكن مجرد تسجيل المواقف لا يكفي للخروج من الحالة المأساوية التي تعيشها الأمة في فلسطين وفي العراق وفي مجمل العالم العربي فعلينا أن نمتلك نظرة أكثر شمولية بحيث لا نُسقِط من الحسبان الاستحقاقات والتحديات الخارجية من جانب ولا نبرئ الآخرين الذين ينتقدون من بعيد ويرفعون الشعارات الكبيرة دون طرح حلول عملية وواقعية لإشكالات الواقع من جانب آخر.

بعض قوى المعارضة استمرأت حالة من التقاسم الوظيفي بينها وبين السلطة التي تنتقدها وتنعتها بأقذع النعوت، بحيث باتت معادلة مريحة للطرفين ويستفيد منها الطرفان، وهي أن يقتصر دور المعارضة على الشجب والتنديد وتسيير مظاهرات وعقد مؤتمرات منددة وشاجبة للنظام وممارساته ولكن في حدود تماس لا تهدد وجود النظام وبالتالي يسمح النظام للمعارضة بلعب هذا الدور فيما يستمر في نهجه الذي يزيد من بؤس الجماهير، ويستمر الشعب مخدوعا بالمعارضة، حتى وإن وصل الأمر للجوء المعارضة للعنف فغالبا ما يستفيد النظام من هذا العنف لتشديد قبضته وتبرير حالة الطوارئ أو الممارسات الأمنية المشددة بذريعة تهديد الوطن للخطر الخ.

لا نريد تعويم المسؤولية أو تبرئة الأنظمة العربية من المسؤولية عما آلت إليه أوضاعنا، أيضا سيكون من الظلم التقليل من شأن المناضلين من أجل الحرية الذين عانوا في السجون والمعتقلات ومنهم من استشهد في الزنازين وفي مواجهات مع أجهزة القمع، فنضال هؤلاء كشف جرائم الأنظمة وشكل كوابح حالت بين الأنظمة ومزيد من القمع ومهد الطريق لمن سيأتي من بعدهم. لكن دعونا نتساءل بموضوعية : لو وصلت قوى المعارضة اليسارية والثورية في السبعينيات للسلطة هل من المؤكد أن حالنا كان سيتغير للأفضل بكثير وخصوصا بعد ما آلت إليه النظم الاشتراكية والشيوعية في المعسكر الشرقي؟ ألم تصل قوى ثورية وقومية للسلطة عبر انقلابات سموها ثورات ولم يتغير كثيرا حال الشعوب هذا إن لم تزداد سوءا؟

 واليوم حيث تهيمن قوى الإسلام السياسي على فضاء المعارضة، هل سيكون حال العرب والمسلمين أفضل إن وصلت هذه القوى الإسلامية للسلطة؟ وما هي البرامج والاستراتيجيات والمشروع الحضاري التي تتوفر عليه قوى الإسلام السياسي وخصوصا تلك التي تكفر الآخر وتحل دمه ولا تؤمن بالحق بالاختلاف وتستحضر بشكل انتقائي وتلفيقي محطات من الماضي لتعيش فيه ؟ وهل عنف هؤلاء أو ما يسمونه جهادا أضر بالأنظمة القائمة وبالمصالح الأمريكية والصهيونية أم أضر بالمجتمع واستنزف إمكانيات الأمة وعطل فرص التنمية والتحديث حتى وإن كانت متواضعة؟.

كان صديقي اللجوج يتابعني وأنا مندفع في توضيح رؤيتي وكانت تبدو على وجهه الجدية التي لا تَخفي سؤالا معلقا تعبر عنه حركات عينيه وارتعاش يديه، ولكي أُبعِد عنه الحرج وأسهل عليه المأمورية باشرته بالسؤال عما يجول بباله ولماذا هو متوتر ؟مشجعا إياه على الحديث بصراحة أكثر وبدون حرج. فقال بأنني أُنَظِر وأُشخِص واحلل بدون أن أعطي مخارج أو حلولا وإن هذا المنطق الواقعي والوسطي الذي أتحدث فيه عن الحالة العربية العامة هو نفسه المنطق الذي أحلل فيه الحالة الفلسطينية حيث أُكثر من الحديث عن ضرورة المصالحة الوطنية و المشروع الوطني، وإنني مرة انتقد السلطة في رام الله وحينا انتقد حكومة غزة، مرة انتقد تنظيم حركة فتح وبعض قياداته وحينا أدافع عن حركة فتح، أدافع عن المقاومة و انتقد ممارسات المقاومة، أدافع عن التسوية والسلام وانتقد آلية المفاوضات، أحيانا أبدو عروبيا قوميا وحينا وطنيا متعصبا الخ.

ولأن الصواب كان بجانب صديقي هذه المرة فقد أرضيته بالاعتراف بصحة قوله وبأنني لست منحازا لأي من الأنظمة أو الأحزاب أو التوجهات السياسية القائمة، فأنا وطني فلسطيني ولكنني لا أجد في واقع الأحزاب الفلسطينية القائمة من يمثل الوطنية الفلسطينية والمشروع التحرري الوطني، أنا مع حركة فتح كفكرة ولست مع تنظيم فتح القائم حيث قيادات فيه تقبل بلعب دور شاهد الزور على ما يجري من ضياع للضفة والقدس إن لم يكن الشاهد المتواطئ مع المجرم، أنا مع السلام والتسوية السلمية العادلة ولكنني لست مع مفاوضات مع الإسرائيليين بدون مرجعية واضحة وسقف زمني محدد ووقف للاستيطان ولست مع الفريق المفاوض الفلسطيني بتركيبته وأسلوب إدارته للمفاوضات، أنا مع المقاومة لأن المقاومة حق مشروع لكل شعب يخضع للاحتلال ولكنني لست مع التنظيمات التي تدعي بأنها حركات مقاومة وخصوصا عندما وظفت هذه الحركات ما سمته مقاومة وجهادا للإجهاض على ما تبقى من المشروع الوطني وتأسيس سلطة مهزوزة في غزة، سلطة أصبحت حماية الحدود الجنوبية لإسرائيل شرطا لاستمرارها، وأنا قومي عروبي ولكنني لست مع الأنظمة والتشكيلات الحزبية التي تزعم بأنها قومية وثورية.

لأنني واقعي فأنني أدرك بأنه ليس من السهولة تجاوز الواقع من أنظمة وأحزاب، ففي الساحة الفلسطينية لا يمكن تجاوز حركة فتح كفكرة لأنها تمثل الوطنية الفلسطينية ولم تنتج الساحة غير حركة فتح من يعبر عن الوطنية كثقافة وهوية وانتماء، ولا يمكن تجاوز حركة حماس لأنها تمثل بأيديولوجيتها وثقافتها قطاعا واسعا من الشعب وبالتالي باتت واقعا بغض النظر اتفقنا أو اختلافنا معها، وكذا الأمر بالنسبة لبقية القوى السياسية... لكل ذلك فإن موقفي من هذه القوى قربا أو بعدا يكون بمدى اقترابها مما أومن به من قيم الوطنية والقومية بغض النظر إن كانت هذه القوى في السلطة أو في المعارضة.

ما كان للحديث مع صديقي أن ينتهي ولكنني وصلت لنتيجة أن كل انتقاد يوجه للقوى والأنظمة مفيد وضروري بمقدار ما يكون مصحوبا برؤية عقلانية ووسطية تقوم على إيجاد قواسم مشتركة بين كل الأطراف، فليست الأنظمة والأحزاب والنخب الحاكمة شياطين وليست قوى المعارضة ملائكة، والقاسم المشترك المطلوب عقد قومي اجتماعي وسياسي عربي جديد لإعادة بناء الفكرة القومية العربية على أسس صحيحة، وعقد اجتماعي وسياسي وطني فلسطيني جديد يستفيد من كل العناصر الإيجابية في الشعب وعند كل القوى السياسية وهذا أمر ممكن إن توفرت الإرادة وتحررت من الإملاءات الخارجية.

Ibrahem_ibrach@hotmail. com

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 9/تشرين الثاني/2010 - 2/ذو الحجة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م