الإمَامُ الجَوادُ(ع) قِيَادَةُ التَصَدي و التَحَدي

محمّد جواد سنبه

عقيدة الإمامة بالمعنى الذي يطرحه منهج أهل البيت(ع)، أنّ الإمام هو شخص منصوص عليه، ومسدّد بالعصمة الإلهية، ويقوم بمهام رعاية الدّين وحمايته والدفاع عنه. فقد وردت صفات الإمام في الكثير من المصادر، منها:(أن يكون أعلم الناس بحلال الله وحرامه، وضروب أحكامه، وأمره ونهيه، وجميع ما يحتاج إليه الناس. فيحتاج الناس إليه، ويستغني عنهم).

هذه العقيدة ظلّت مستهدفة من قبل مناوئي خط أهل البيت(ع). ولأجل إثبات أحقيّة مبدأ الإمامة، سواء كان في زمن تصارع الأفكار والمعتقدات إبّان حياة الأئمة(ع)، أو في زمن غيبة المعصوم(عج)، ففي كلا الفترتين بقى أتباع مدرسة أهل البيت(ع) تحت دائرة الاتّهام. وهذه الدائرة ما انفكت تلاحق أتباع هذه المدرسة، مشيرة بأنّ الشبهات تحوم حول عقيدتهم لحدّ هذه الساعة.

وفي إمامة الإمام الجواد(ع) أراد الله سبحانه أنْ يقدم للإنسانيّة سراً إلهياً، يدحض به تقولات أعداء مدرسة أهل البيت(ع) من جهة، وكذلك ترسيخ ثقة أتباع مدرسة أهل البيت(ع) بعقيدة الإمامة المعصومة من جهة أخرى. فالإمام الجواد(ع) ولد في عام 195 هـ، وتوفى والده الإمام الرضا(ع) في عام 202 هـ، فالإمام الجواد(ع) تكلف بقيمومته العصمويّة وهو ابن السابعة من العمر، واستشهد وهو ابن الخامسة والعشرين. فاختصت هذه الإمامة المباركة بميزتين هما: صغر سنّ التكليف بمهمة الإمامة، وكذلك قصر فترتها، ولكل أمر من هذين الأمرين حكمته الإلهية الخاصة. فإشكاليّة صغر سنّ الإمام، قد تمّ به تفنيد كافّة التخرصات التي تتصل بهذا الموضوع، من خلال الاستشهاد بالقرآن الكريم، فنبوّة يحيى(ع) وهو صغير السن نصّ عليها القرآن المجيد بقوله تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا). وكذلك نبوّة عيسى(ع) حصلت وهو لم يزل في المهد، كما جاء في قوله تعالى:(قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا). وبهذا الاستدلال القرآني، تداعت حجج المحتجين بأنْ كيف يتولى الإمام الجواد(ع) إمامة الأمّة وهو صغير السنّ؟.

من جهة ثانية قدّمت هذه الإشكاليّة دعماً عقائدياً عظيماً، لأتباع خطّ أهل البيت(ع). لقد تطرق الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر(قدس سره)، الى هذه الاشكاليّة بقوله:(لماذا يتبانى عقلاء هذه الطائفة ووجهاؤها وعلماؤها على إمامة باطلة؟ مع أن تبانيهم على هذه الامامة الباطلة يكلفهم كثيراً من ألوان الحرمان، ولو أنّ هؤلاء الوجهاء والعلماء الأعلام تركوا هذه الطريقة واتبعوا الطريق الرسمي المكشوف وقتئذٍ المتبع من قبل سائر المسلمين لكانوا في طليعة سائر المسلمين)(اهل البيت تنوع ادوار ووحدة هدف ص 439). كما يضعنا هذا الاختبار(الاعتقاد بالإمام بالرغم من صغر سنه)، أمام تجربة جديدة، هذه التجربة روضت أتباع منهج أهل البيت لقبول فكرة الإمام الغائب(عج) لاحقاً، وكأن الله تعالى أراد بلطفه، أنْ يسلك بهذه الأمّة طريق التأهيل، من خلال التجربة التدريجية للوصول بالأمّة، لتقبّل فكرة الإمام الغائب(عج)، ومن بعدها فكرة التمهيد للظهور.

وجدير بالذكر أنّ المأمون العباسي، كان يشكّ بمسألة أنّ الإمام الصغير، يستطيع الوقوف بوجه محاججات كبار فقهاء وعلماء البلاط العباسي، وربّما أيضاً كان يتصوّر؛ أنّ هناك مبالغة مّا، في هذا الأمر، يفتعلها السائرون على طريق أهل البيت(ع)، فطلب المأمون من قاضي القضاة (يحيى بن أكثم) أنْ يستعد لمحاججة الإمام محمّد الجواد(ع) في مجلس رسمي مهيب، واستأذن ابن أكثم الإمام في سؤال فقال ابن أكثم: (ما تقولُ ـ جُعِلتُ فداك ـ في مُحرمٍ قتَلَ صيداً ؟. فقال له أبو جعفر عليه السلام:(قَتَلَه في حِلٍّ أو حَرَم؟. عالماً كان المُحرم أم جاهلاً ؟ قَتَلَه عَمداً أو خطأً ؟ حُرّاً كان المُحرِم أم عبداً؟. صغيراً كان أم كبيراً؟. مُبتدئاً بالقتل أم مُعيداً؟. من ذواتِ الطير كان الصيد أم من غيرها؟. من صغار الصيد كان أم كبارها؟. مُصِرّاً على ما فعل أو نادماً؟. في الليل كان قتلهُ للصيد أم نهاراً؟. مُحرماً كان بالعُمرةِ إذ قتله أو بالحج كان مُحرماً؟). فتحيّر يحيى بن أكثم وبانَ في وجهه العجزُ والانقطاعُ)(الامام محمّد الجواد(ع)/مركز الرسالة). وفي الختام طلب ابن أكثم من الإمام(ع) اجابات لهذه الاسئلة التي اوردها(ع)، فقدم الإمام جواباً لكل سؤال بالتفصيل.

أمّا قِصَر عُمْر الإمام الجواد(ع) فلم يقف حائلاً دون استقطاب العلماء إليه. لقد التفّ حول الإمام محمّد الجواد(ع)، جمهرة من العلماء والفقهاء ورواة الحديث والفلاسفة والأدباء. ورد في المصدر السابق مايلي: (فقد كانت حصيلة إمامنا الجواد عليه السلام من الصحابة والرواة والوكلاء إنْ أحصينا تعدادهم بما يقرب من (250) وهو عدد لم يسبقنا إليه أحد ممن ترجم للاِمام عليه السلام وعدّ أو أحصى رواته وصحبه من الرجاليين).

من المعروف إنّ الموقف السياسي الذي اتخذه الإمام كان متعارضاً مع السلطة، بسبب مبدئيّة الإمام(ع) التي يقابلها دنيوية الحاكم، موقفان متضادان لا يمكن التوفيق بينهما، فالإمام يتحرك على ضوء رؤية قرآنية. فرؤية الإمام تعني إقامة الحقّ والعدل وتطبيق مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات، واحترام حقوق الإنسان على ضوء الشريعة الاسلاميّة، والغاء الطبقيات ومحاسبة المفسدين وملاحقة الظالمين. ولاشك أنّ الإمام(ع) لا يمكن أنْ يتنازل عن قيمه الرساليّة قيد شعرة. والإمام يحذر الأمّة من مغبة إعانة الظالمين و بيع الدين بالدنيا، وكان يمارس دوراً توعويّاً، يعبئ الأمّة ويستنهض طاقاتها لتحمّل مسؤوليتها الرساليّة في مواجهة الظالمين. وكانت أقواله وأحاديثه وتوجيهاته للأمّة، تشكّل منهجاً تغييرياً يتناول صلب الواقع الحياتي للمجتمع، كما أنّ هذه الأقوال والأحاديث، كانت العصب الموجه لتربيّة الأمّة وتعريفها بحقوقها المشروعة المستلبة منها. فمن أقواله(ع):(ولا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون)، (كفى بالمؤمن خيانة أنْ يكون أمينا للخونة)، (ما هدم الدين مثل البدع)، (مصاحبة الشرير كالسيف المسلول يحسن منظره ويقبح أثره).

ومن المؤكد أنْ يكون للسلطة موقفاً سلبياً من الإمام الجواد(ع)، وهذا الأمر طبيعي على ضوء المقاييس الرساليّة، فالطواغيت هم أشد عداوة من غيرهم لأصحاب المشاريع الإصلاحيّة. وكلما مرّت الأيام ازداد موقف السلطة تشنجاً، من دور الإمام الجواد(ع) ونشاطه وتوسع رقعة جماهيريته. لقد ضاقت السلطة ذرعاً من وجود الإمام محمّد الجواد(ع)، فقررت تصفيته جسدياً، فقضى عليه السلام شهيداً بدس السم إليه، في أواخر ذي القعدة من عام 220 هـ، على يد المعتصم العباسي. فانطوت صفحة رساليّة من تاريخ الإسلام، مدبجة بالتقوى والعلم والزهد والورع وإشاعة الفضائل والعمل بكتاب الله وسنة نبيّه، فانا لله وإنا إليه راجعون.

* كاتب وباحث عراقي

Mj_sunbah@yahoo.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 8/تشرين الثاني/2010 - 1/ذو االحجة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م