شبكة النبأ: في بعض الاحيان ما ان
تستقل سيارة اجره حتى ينتابك شعور مفاجئ بان البحور الشعرية قد غادرت
اوكارها وان السلم الموسيقي قد تلاشى من على وجه الارض أو اصيب بنوبات
الصرع والهستيرية المعدية التي ما كان لها ان تكون، لولا ذلك السيل
العارم من الاغاني والكلمات الفاضحة والسمجة التي باتت تعشق موضوعات
حدائق الحيوان أو مزارع الحمضيات أو مناجم الذهب والفضة، وهناك ممن
يسعى الى جمع كل تلك المتناقضات دفعة واحده فما ان تنتهي من البرتقالة
حتى تأتيك الرمانة ومن ثمة المشمشة، وبعدها تسمع عن اغنية تحاكي الحديد
والعقرب والحيه حيث تتمنى ساعتها من الله سبحانه وتعالى ان ينعم عليك
بواحده من اثنتين، اما الوصول الى مبتغاك بأكبر قدر ممكن من السرعة، او
حصول حادث مروري او يذهب سمعك لفترة من الزمان على امل ان يعود اليك
ثانيا، بعد مغادرتك تلك السيارة.
ومن اجل تفادي تلك الامنيات المشروعة كانت لنا هذه الوقفة مع بعض
السواق وبعض مرتادي سيارات الاجرة وبعض الشعراء للبحث عن الاسباب
الحقيقية لهذه الازمة المرتبطة بصورة مباشرة بالذوق العام.
يقول ستار جاسم ابراهيم، "لايزال رهط من يطلقون على أنفسهم) مط....ربين)
يسدرون في غيهم ويتحفون المستمعين بكل لفظ جارح.. سقيم يزيد المرء بلاء
على كثرة ما أبتلي هذا المرء المحبط سياسيا واجتماعيا وفكريا ومعيشيا
والذي يعيش قلقا مزمنا الى ما سيكون عليه المصير".
ويضيف، "ضيق شعب وكرب، أشعوب الخلق تعاني ما نعانيه؟ أكاد أقسم ان
لا يوجد شعب يعيش على هذه المعمورة.. عفوا.. المهجومة، يعاني ما نعانيه..
قطعا لا يوجد. ولو أن الله يعيد لنا شخص النبي أيوب المعروف بصبره
لتعجب من صبرنا، ولقال ان الله قادر على ان يكثف الصبر عند قوم دون
اخرين، لذلك ازف لكم البشرى يا شعب العراق فمصيركم الجنة حيث لا تسمعون
هناك لغوا ولا كذابا ولا غناء سقيما يزيد النفس سخاما على سخام، ولا
احباطا من ترهات الاقوال من قبل مط .. ربين أم ادعياء، وملحنين اغبياء
وشعراء لا شعور البتة لهم".
ويسترسل ساخرا، "افتونا مأجورين ما معنى يصرخ احدهم بوجه من يفترض
بها تمثل الحبيبة الخائبة، الله يموتج مو موتيني؟ والجوقه تردد وراءه
بهذا القول السمج والذي لا محل له من عواطف الحب النبيلة والتي تسمو
بالإنسان الى اعلى عليين، وهم في هوس الرقص الماجن الخليع، ولو ان هذا
له غرض معين لتبيناه... هكذا الامر لا حسيب ولا رقيب ومن امن العقاب
اساء الادب..... يبتعدون عن الوطن ويتركونه ظهريا، ويتفانون في سبيله
شوقا وهياما بعواطف تقطر زيفا ونفاقا وكذبا محضا، هم خارج الوطن الجريح
وعندما يتعافى سيلفظهم كما لفظوه اول مرة، آخر يصرخ بأعلى ما تملكه
اوتاره الصوتية من قوة (عندي وطن) وهو في اقصى حالات الحزن.. عفوا
الفرح.. لأنه استطاع الافلات من هذا الوطن الذي يتغنى به تزلفا
وبانتهازية مقرفة".
ويتساءل ابرهيم، "ترى هل يصل كلامنا الى امثال هؤلاء، اشك في هذا،
حتى ولو وصل الامر لا يعنيهم لا من بعيد ولا من قريب، فالموجة العارمة
لا توقفها الا موجة اكثر عرامة منها، واخر يباهي بان موطنه جنة تقارب
جنان الخلد، ولكن من عجائب هذه الجنة ان نارها وسعيرها ولظاها لا تحرق
فهي جنة بلا حرق اجساد ولن يشم فيها احتراق جلود (حتى نارك جنة) عجيب
امور غريب قضية.. وسط أي ركام من التناقضات والتفاهات والترهات نعيش؟".
حذام يوسف طاهر اعلامية، حدثتنا قائلة: "ان مستوى الاغاني بشكل عام
هابط وهذا الامر غير محصور بسواق السيارات او في العراق فقط بل في
العالم كله، هذا مما يجعل من مستوى الذوق هابط تماما بسبب ان القيمين
على هذا الموضوع اصبحوا تجارا وليسو فنانين وبالتأكيد هذا الامر يؤثر
على الذوق العام بسبب عدم وجود كونترول على تأليف الاغاني او
صلاحيتها".
سائق جمعتنا به الصدفة وهو من انصار تلك المودة أو الصرعة في عالم
الطرب والغناء وهو يعزي سبب ذلك الى ايقاع الحياة السريع والحداثة والى
ما الى ذلك من الوان المسببات الا انه يسترجع قوله بأن الاغاني الجديدة
كثيرا ما تفتقر الى الموضوع او اللحن او التوزيع الموسيقي الا انها
تعتمد بصورة مباشرة على الحركات الراقصة ومظاهر التعري وتمايل النساء
الحسان وهذا حسب تصوره،" هذا اسلوب جديد على الغناء العربي المتزن في
سياقات محددة، وربما لا تتماشي مع انساق الوعي الاجتماعي العربي"؟!.
اما الشاعر العراقي احمد السلطاني فقد صب جل غضبة على المتلقي فهو
المسؤول الاول من وجهة نظره عن مستوى ما يقدم علما بان المسؤولية قد
تبدو مشتركة حيث يتحمل جزاء كبيرا منها كاتب النص الشعري الذي الزم
نفسه على ان يجسد الواقع او يحاول ان يختزل مواضيع لها ارتباط بالواقع
المعاش وليس كما هو الحال الان فالأغاني باتت تحاكي مواضيع فقيره جدا
مثل البرتقالة والتفاحة والحية والتنور ومفردات اخرى لا يسعني المقام
لذكرها فهناك في راي المتواضع مجموعة اسباب دعت الى تفشي تلك الظاهرة
غير الصحية في القياسات الشعرية والقياسات الاجتماعية، وربما هي تهدد
الكيان الاجتماعي بالكثير من الانتكاسات كما انها تتوعد النص الشعري
بالإخفاق في مجال تضمين النص هدف او بعد ادبي من شانه ان يأخذ بنظر
الاعتبار هموم المواطن والاهداف المرجوة من وراء خلق نص او ابتداع
قصيدة.
ولكن الشيخ كاظم ساهي وهو رجل دين فيقول: نحن نعلم بان المنظومة
الاخلاقية هي جزء مهم من كيان المنظومة السماوية التي لا نشك بصدق
نواياها اتجاه خلق مجتمع مثالي او متكامل وهي ضرورة انسانية قبل ان
تكون مطلب سماوي فما يسعى اليه الدين لا يختلف عن ما يسعى اليه الانسان،
وهذه الحقيقية ربما تقودني الى ان نفهم طبيعة العلاقة المتأزمة ما بين
الغناء والطرب وبين الدين وهو محرم لما فيه من انعكاسات مباشرة على
المدى القريب والبعيد على سلوكيات بني البشر فالغناء يبعد عنك ذكر الله
سبحانه وتعالى كما ان يصنع منك انسانا مهزوزا في اغلب الاحيان حيث يحرك
فيك المشاعر الجياشة ويستشعر فيك حالة الاهتمام بالجسد بعيدا عن ثقافة
الروح وهذه العوامل مجتمعة لها علائق قد تضر بكيان الاسرة وبناء
المجتمع وربما تفشي حالة المفسدة بين صفوف الشباب وتنتزع حالة الاسفاف
والتداني لتصل بهم الى ادني مستويات الحيوان من خلال تفعيل دور الرغبة
الجنسية والجسدية وهذه الامراض والاعراض النفسية هي التي كانت المحرك
الاساس للإسلام من اجل ان يتخذ منها موقفا متشددا وصلبا من اجل القضاء
عليها او الحد منها الى مستويات متدنية.
محطتنا الاخيرة كانت مع الطبيب النفسي حسن حناني وهو يقول: هناك ثمة
دوافع واسباب قد تفضي الى هكذا نوع من الميول اتجاه الاغاني، حيث يرى
الشباب بهذا التوجه نوع من انواع التمرد والرفض لكل الثقافات الدارجة
او المألوفة في حسابات الزمن القديم، وهي مرتبطة بمجمل الظروف الراهنة
التي تحيط بالشباب وما يعاصروه من ثقافات سوى كانت على مستوى الواقع
الاجتماعي او المتأثر بالمحيط الخارجي وما تتناقله الفضائيات مساء
صباح، وهذه كلها قد تشكل ضرورة مرحلية تملي على الشباب ان يتحولوا صوب
الايقاعات التي تحرك فيهم الطاقات الكامنة اتجاه الطرف الاخر، وهم بهذه
المرحلة بالذات غير معنيين بالاستماع الى فحوى الكلمات او الى الموسيقى
بقدر ما يتعلق الامر بتلك الاحلام الشاعرية التي تشكل جزءا مهما من
واقعهم العاطفي نحو الجنس المغاير من الاناث والذكور، حيث يجد الشاب او
الشابة من خلال تلك الاغاني ملاذا امنا او متنفسا طبيعيا يعبر من خلاله
ما يجول بداخله بعيدا عن ضوابط التوصيفات الدقيقة والمنضبطة التي لم
تعد تمتلك رصيدا عاليا في ميزان خبرتهم الحياتية او فيما يتعلق بقدرتهم
الجسدية الملتهبة. |