فسيفساء الدم

في قداس الأحد الدامي

زاهر الزبيدي

غريبة تلك التشكيلة الرائعة من فسيفساء الدم التي تشكل بلوحة من الأسى خارطة العراق.. نعم كل أنواع الدماء من كل الأديان وطوائفها والقوميات وأعراقها شكلت ولا زالت أروع خارطة لوطن عمده أبناءه بدمهم وأرواحهم قبل جهدهم وتفانيهم في سبيل بناءه وخلاصه الأخير المحتوم من ظلم العبودية وظلامية التكفير وعلى طريق التحرر التام من النزعات الطائفية التي طالما أرهقت مستقبله المرسوم حلماً أبيض فوق جبين أطفاله الأبرياء.

أي وطن مثلك ياعراق يفتدى بالأرواح والأنفس الطاهرة كل يوم.. وكل يوم تراق على جوانب نهراك دماء شعب صابر محتسب بالله من ظلم القدر الذي رمى كل مقدراتك بيد من لا تقدر ولا تقيس بمقياس الراعي لتلك الدماء.. نعم ففي ظل تشرذم سياسي وضياع مطبق للهوية الصحيحة للعملية السياسية ضاعت تلك المقدرات العظيمة وذهبت تلك الدماء الطاهرة لتجف بعد حين وتموت معها الرغبة ببناء وطن يتمثل فيه كل شيء برؤية لمستقبل واعد يمسح عن وجوه ملايينه الثلاثون تجاعيد الزمن البائس وخطوط الحزن التي ما دأبت تصنع شقوق تنام بين جنبيها أحلامنا ببناء الوطن الذي نريده لأبنائه.. بعدما مضى قطار عمرنا ولم نعد قادرين على تلمس مستقبل أملنا كثيراً أن نعيشه لأيام فقط كي نطمئن أن أبناءنا سوف لن يقاسوا ما قاسيناه ولا يعانوا ما عانيناه لعقود مضت حين كنا نؤجل ثوراتنا على واقع فقرنا وتخلفنا جيلاً بعد جيل.

في قداس الأحد الدامي.. حبسنا أنفاسنا بانتظار ما ستسفر عنه أحداث كنيسة طوق النجاة في الكرادة وأعيننا متسمرة على شاشات التلفاز نبحث عن خبر يبل ريقنا الذي تيبس وأصبح كالصخر، فأخوة وأحبة لنا هناك احتجزتهم عصبة من التكفير في يوم قداسهم لتساوم بأرواحهم الشريفة لأطلاق سراح عصابة أخرى ذبحت وقطعت واستباحت دماء من أحبة أخر فيهم الطفل والأم والأب.. ويبتعد بنا الخيال لنرسم صوراً احسنها حزينة عن ما يجري ونتخيل حالهم في داخل أروقة الكنيسة وسراديبها ونحن أعلم بمقدرة أولئك التكفيريين على القتل واستباحة الدماء على أشكالها كبيرة ولا تقف أمامهم شهامة ولا مروءة ولا دين.. فلم يروي تعطشهم كل الدماء التي أريقت في سبع سنوات وما قبلها ولم تغلق أبواب شهوتهم اللعينة للقتل بعد مئآت الآلاف من الشهداء مقطعي الرؤوس مبقوري البطون الذين نراهم كل يوم مرميين على أرصفة الطرقات.. فالقتل ديدنهم والذبح وسيلتهم اللعينة لأثبات الوجود وتحقيق المآرب التي يبغونها بتدمير شعب صابر كابد الأمرين في سبيل حريته.

وعلى الرغم من كل مجريات الأمور للسنين السبع الماضية إلا أننا لم نفقد الثقة، وسنبقى، بقواتنا المسلحة وقدرتها على إجتثاث الباطل من جذوره ولكنه التراخي والغفلة التي تبقى آفة تطل علينا منها تلك العصابات لتجتث أرواح ثلة من أحبابنا.. أخوتنا من المسيحيين الذين عشنا معهم جيراناً وأصدقاء أوفياء لصداقاتهم وقفوا معنا في كل أوقات الشدة والفرح وتقاسمنا معناً رغيف الفقر والجوع وحتى ساعات الرهبة والفزع، هم ليسوا ضيوفاً على الوطن بل هم أهله وقادته ورجاله وعماّره ولكنهم لم يكونوا يوماً طرفاً في صراع طائفي أو قومي أو عقائدي يعيشون بسلام فنرى من المخجل القبول بإدخالهم في هذا الصراع بلا ذنب ولا جريرة سوى كونهم يعيشون في العراق..

كنا نخاف أن تحصل المجزرة وترسم دماءكم على جدران الكنيسة صوراً من الحزن أكبر من خجلنا عليها ولكنه قدر الله على العراقيون أن دماء شعبه هي التي ستطهره من أنجاس عصابات القتل.

ما أجمل دماءكم وأزكاها وكم هو فخور وطنكم بكم وسيبقى.. دماءكم تلك التي أريقت في سبيل وطنكم الذي أحببتموه أكثر من أولئك القتلة الذين يتبجحون بأنهم مسلمون ولكن الإسلام منهم بريء بعدما مسخت فتاوى التكفير عقولهم قبل وجوههم.

ستبقى دماءكم معلقة أمانة، كدماء كل العراقيين، برقاب إخوتكم من رجال قواتنا المسلحة وحتى تحقيق النصر الناجز على تلك الظلامية العفنة وهي ليست أول الدماء منكم ولكن نسأل الله أن تكون آخرها.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 3/تشرين الثاني/2010 - 26/ذو القعدة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م