لكم يندهش المرء وهو يراقب المتغيرات على المشهد السياسي الفلسطيني
سواء فيما يتعلق بجوهر المشكلة وأصلها، الصراع بين الفلسطينيين
والإسرائيليين على الحق في ملكية فلسطين وشكل التعايش المشترك الممكن
في المنطقة، أو تعلق الأمر بتحولات (النظام السياسي الفلسطيني ) من حيث
انتقال مركز الفعل الفلسطيني من الخارج إلى الداخل ودخول قوى جديدة
وتحالفات خارجية جديدة ثم حالة الانقسام التي قسمت الأرض، التي كان
يُفترض أن تكون الدولة الممكنة، بين حزبين مأزومين –فتح وحماس -، أخفى
كل منهما أزمته الداخلية وفشل خياراته المنفردة في مواجهة إسرائيل،
بالحديث عن انتصارات أو انجازات وهمية يحققها في ظل ما تسمح لهما به
إسرائيل من سلطة ومجال تحرك في المنطقة الخاضعة لهما، حتى يجوز القول
وإن بتحفظ بأن السلطتين والحكومتين في غزة والضفة تؤديان دورا وظيفيا
لخدمة الاحتلال أكثر من دور تؤديانه لخدمة القضية الوطنية –هذا ما يقول
به الطرفان من خلال الاتهامات التي يوجهها كل منهما للآخر -.
هذا المشهد جعل القضية الوطنية وصراع الشرق الأوسط بشكل عام أكثر
تعقيدا وغموضا بحيث تعددت التصورات والحلول والمرجعيات المقترحة لحل
المشكلة وهي تصورات غير مبنية على مرجعية واضحة أو حق ثابت لأي من طرفي
الصراع، وتداخل موضوع التسوية والمقاومة مع موضوع المصالحة الوطنية،
وتداخلت القضيتان مع الأجندة الخارجية والحسابات الإقليمية، بحيث لم
تعد المصالحة الفلسطينية شانا فلسطينيا داخليا، ولم تعد التسوية شأنا
فلسطينيا إسرائيليا فقط أو قضية يتم حسمها من خلال قرارات الشرعية
الدولية، بل باتت مرتبطة بما يؤول إليه الملف الإيراني والوضع في لبنان
وتحركات جماعات الإسلام السياسي وبالمصالحة العربية، حتى وإن كانت
إسرائيل تتذرع بهذه القضايا للتهرب مما عليها من استحقاقات، إلا أن
الوضع بات بهذا الشكل.
أيضا فإن حالة من اليأس والإحباط تنتاب قطاعات واسعة من الشعب
الفلسطيني، حيث تتزايد حالة فقدان الثقة بالأحزاب والحركات ويتزايد
الإحساس بالتبعات الثقيلة للانقسام ولوجود سلطتين وحكومتين باتتا عبئا
على المشروع الوطني التحرري وعلى مجمل القضية الوطنية، وحيث الاستيطان
يتعاظم والقدس تُهود وغزة تنجرف تدريجيا بعيدا عن الوطن بقوارب وحملات
رفع الحصار التي لا ينعدم فيها بعض أصحاب النوايا الحسنة، والمقاومة
تتحول لشعارات وتاريخ، نستحضر ذكراها بخشوع واحترام من خلال مقابر وصور
الشهداء ومعاناة الأسرى والأيتام والأرامل، ونستحضر ذكراها مع خوف من
تدنيس عندما نسمع عن عمليات محدودة وموسمية هي أقرب لحشرجة موت نهج
المقاومة تمارسها جماعات ليس للإضرار بالعدو أو التأثير على موازين
القوى معه بل لتقول بأنها ما زالت حركة مقاومة أو لمناكفة الطرف
الفلسطيني الآخر.
في ظل هذا المشهد لم يعد السلام سلاما ولم تعد المقاومة مقاومة ولم
يعد الإسلام إسلاما ولا العروبة عروبة ولا الوطنية وطنية، في هذا
المشهد الراهن انفصلت الأشياء عن مسمياتها وبات الخطاب متعاليا عن
الواقع، ليس تعالي العلم والعالم بل تعالي الذين في نفوسهم مرض.
ولكن وسط هذا المشهد الذي يُراد له أن يكون ملتبسا ومعقدا ومُغيبا
لحقائق تاريخية وقرارات وتواضعات دولية، تبرز وقائع وحقائق تعبر عن
صورة معاكسة يمكنها تبديد كل الصورة المأساوية للمشهد الأول وتحيي
الأمل بالنفوس فيما لو أحسنا توظيفها. نسجل ويسجل التاريخ أن الشعب
الفلسطيني لم يتوان عن النضال دفاعا عن حقه التاريخي المشروع منذ وعد
بلفور حتى اليوم وتحمَّل عن الأمتين العربية والإسلامية مسؤولية محاربة
المشروع الصهيوني منذ بداياته الأولى حين كانت الأنظمة العربية تنظر
إليه كخطر محتمل أو بعيد إن لم يكن كخطر لا يعنيهم، وقد كشفت الأحداث
لاحقا بأن الخطر الصهيوني وإن كان يشكل تهديدا مباشرا على الشعب
الفلسطيني فإنه يشكل تهديدا لا يقل خطورة على الأمتين العربية
والإسلامية، قاتل الفلسطينيون المشروع الصهيوني في فلسطين قبل 48
وبعدها، وقاتلوا من اجل تثبيت الهوية الوطنية والحفاظ عليها، وقاتلوا
لتعزيز ونشر فكر وثقافة الثورة في العالمين العربي والإسلامي، وناصروا
كل حركة تحرر عبر العالم، ودربوا وسلحوا بقدر ما يستطيعون كل ثائر من
اجل الحرية والاستقلال حيث كانت قواعد الثورة الفلسطينية في لبنان
وسوريا تعج بالمقاتلين والمناضلين من كل العالم.
عَبَر المقاتلون الفلسطينيون نهر الأردن لقتال إسرائيل وتسلقوا قمم
جبل الشيخ وحولوا جنوب لبنان لبوابة جحيم مفتوحة على كل مستوطنة ومدينة
صهيونية شمال فلسطين، وقاتلوا وبجانبهم الحركة الوطنية اللبنانية دفاعا
عن بيروت والجنوب، وكان لهم دور مشهود في حربي 67 و 73، وعلى ارض
فلسطين خاضوا عشرات المعارك المسلحة مع جيش الاحتلال وانتفاضتين، وخلال
هذه المسيرة الطويلة قدم الشعب الفلسطيني حوالي 150 ألف شهيد ومئات
الآلاف من الأسرى والجرحى والمعاقين والمشردين، وتركوا تسجيلا حيا لهذا
العطاء من خلال مقابر شهداء فلسطين المزروعة في الأردن وسوريا ولبنان
وتونس وداخل الوطن، وتسجيلا لا يقل أهمية تتجسد بعشرات القرارات
الدولية التي تعترف بحق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره السياسي على أرضه
وحقه بالحرية والاستقلال.
هذا ناهيك عن الخدمات والإسهامات المدنية للفلسطينيين في نهضة
الشعوب العربية بعد نيلها استقلالها حيث كان الفلسطينيون وما زالوا من
ابرز رجال التعليم والمهندسين والأطباء ورجال الأعمال والصحفيين
والعلماء، وكثير من عقلاء العرب يعترفون بالجميل للفلسطينيين.
هذا العطاء والصمود والنضال الذي لا يُنسب لحزب بعينه، بل لكل الشعب
بكل أطيافه السياسية وأماكن تواجده وبالرغم من أنه أفرز ولا شك ظواهر
وسلوكيات سلبية، إلا أنه زاد من تأييد العالم لعدالة القضية الفلسطينية
ومن افتضاح إسرائيل كدولة احتلال وإرهاب، حيث نشهد اليوم حالة شبيهة
بما كان عليه الحال منتصف السبعينيات من تأييد عالمي واسع لعدالة
القضية ومن قلق إسرائيل المتزايد من حالة حصار وعزلة تُفرض عليها
وفقدانها الصورة الأخلاقية التي كانت تروجها عن نفسها عبر العالم.
اليوم وخصوصا بعد العدوان على غزة وتمسك الفلسطينيين بخيار السلام
العادل والشامل بات الرأي العام العالمي يحاصر إسرائيل حيث يتم مقاطعة
جامعات إسرائيلية ومنتجات إسرائيلية وتتزايد الدعاوى المطالبة بمحاكمة
قادة إسرائيل كمجرمي حرب، وتؤكد استطلاعات الرأي في أوروبا بان إسرائيل
مصدر تهديد للسلام العالمي الخ وتواكبا مع ذلك تتزايد المطالب بحق
الفلسطينيين بالاستقلال وبدولة خاصة بهم.
التصعيد الإسرائيلي في مجال الاستيطان والتهويد واغتيال المناضلين
واستمرار حصار غزة والتهرب من السلام ليس بالضرورة تعبيرا عن قوة
إسرائيل بل تعكس هذه الممارسات حالة من الخوف والقلق من المستقبل، خوف
على وجودها وأمنها، حتى مطالبتها بالاعتراف بيهودية الدولة إنما يدل
على خوفها من المستقبل، خوفها من الحقيقة الفلسطينية التي يعبر عنها
أكثر من خمسة ملايين فلسطيني يعيشون على أرضهم ومقدار هذا العدد ينتظر
العودة إليها، وخوف من محيط عربي وإسلامي بل ودولي بات أكثر رفضا لها
ولسياساتها.
والسؤال الذي يفرض نفسه، لماذا تطفو على السطح الصورة السلبية
للمشهد الفلسطيني فيما تخفت الصورة الإيجابية للمشهد؟ ولماذا عدم تناسب
العطاء والتضحيات الفلسطينية مع واقع المنجز السياسي وواقع حال النظام
السياسي؟.
نعتقد أن الحلقة المفقودة في المشهد السياسي لا تكمن في ضعف الحق
الفلسطيني بالحرية والاستقلال بل تكمن في غياب استراتيجيه عمل وطني
وغياب قيادة وطنية محل توافق الجميع تستطيع جني ثمار المتغيرات
الإيجابية وثمار العطاء الفلسطيني، أو بصيغة أخرى هناك أزمة نخبة وأزمة
قيادة. غياب استراتيجيه عمل وطني وقيادة وحدة وطنية أدى لظهور نخب
وقيادات بدلا من أن تعمل لخدمة القضية باتت تتعيش على القضية، وبدلا من
أن تكون عنصر وحدة وتوحيد كانت سببا في الانقسام ثم أصبحت تتعيش منه.
في ظل غياب قيادة وحدة وطنية تصبح الساحة مرتعا لكل انتهازي ومتسلق
ومتطلع للسلطة والجاه، في ظل غياب قيادة وحدة وطنية تصبح القضية أداة
يتقاذفها ويتلاعب بها أصحاب الأجندة الخارجية تحت مسميات القومية أو
الإسلام أو السلام وهم لن يعدموا نخب وقيادات محلية تخدم مسعاهم، في ظل
غياب قيادة وحدة وطنية وإستراتيجية وطنية لن ينجح مشروع مقاومة حقيقية
ولا مشروع سلام فلسطيني.
ibrahem_ibrach@hotmail. com |