قولبة الشخصية

عبد الكريم العامري

 

شبكة النبأ: مع أن طبيعة الطفل قابلة للقولبة، وتقبلها لأي دور وشكل يكون في البادئ في غاية السهولة والمرونة، لكنه في مراحل النمو اللاحقة يكون شاقا للغاية حيث تتثبت الطبيعة ويكون تغييرها في منتهى الصعوبة. من هنا قولبة شخصية الأطفال دون الأخذ بالاعتبار المستقبل فيه خطأ.

فالقولبة هي أن يتحكم عامل خارجي يمنح شخصية الإنسان الهوية، فيسير بحسب نموذج مقرر مسبقا.

يقول الإمام علي "عليه السلام" ما معناه: (لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم فانهم مخلوقون لزمان غير زمانكم)، انها حكمة العلم التي تقترن بالعمل، كما يراها الإمام (ع).

يرى ديوي: أن المناهج الخارجية المفروضة التي تعمل على قولبة شخصية الطفل بحسب أهداف مقررة مسبقا تفرز خطرين أساسيين:

الأول: يكمن في أن فرض الأهداف التربوية على التلاميذ يؤدي الى حرمانهم من فرصة تفعيل ذكائهم ومن قابلية تنبؤهم، لأنها تنسق أفعالهم بما يتم تصوره لها من نتائج. من هنا فإنه من العبث الكلام حول الأهداف التربوية للتلاميذ في البيئات الدراسية التي يحدد فيها المعلم نوع نشاط التلاميذ.

الثاني: تتحول الأهداف المفروضة من الخارج بالتدريج الى أهداف غير مرنة. فما دام الهدف لا يتولد عن النشاطات السيالة والمتغيرة الحالية، لا يمكن تقدير اعتباره بمقياس النتائج الحاصلة.

من هنا يتم عادة ربط فشل التلاميذ في تحقيق الأهداف المنظورة بفساد الطبيعة غالبا، أكثر من عدم تناسب الوسائل والغايات. لذا يرى ديوي، أن الإجراءات التربوية يجب أن تكون مستقلة.

من هنا فإن التعليم والتربية عملية اكتشافية يمكن من خلالها تحديد أهداف تحظى بقيمة كافية لجعلها أهدافا. فلو يستقي نظام التربية والتعليم أهدافه من تنبؤات الآخرين فقد تملص من مسؤوليته في مجال توسيع استيعاب الذكاء وتعزيز دافع التنبؤ الذي يعتبر أساس نظام التربية والتعليم الناشط.

في هذا الخصوص نذكر ما عرضه كارل غوستاف يونك في كتاب (علم النفس ونظام التربية والتعليم) ليمكن عرض العوامل المؤثرة في إثارة الذكاء ونمو الشخصية، دون القولبة والتدخل، بشكل أدق. يسرد يونك رحلته:

لأول مرة سافرت الى أمريكا عجبت كثيرا لما رأيت أنهم لم ينصبوا حاجزا عند تقاطع سكك الحديد مع الطرق، كذلك عدم نصبهم الأسيجة العائقة (الدرابزون) في جانبي سكك الحديد، حتى المارة كانوا يستفيدون من هذه السكك باعتبارها طرقا. لما حدثت بعض الزملاء عن شعوري بالدهشة، قالوا: لا يمكن أن يغفل عن هذا الموضوع إلا الشخص الأبله، وهو أن القطارات تتحرك على سكك الحديد بسرعة 80ـ 100 ميل في الساعة.

ثم يضيف يونك: أن هذه الذكرى ولدت لدي فكرة في ذلك البلد يتم تسيير الحياة العامة بالاستناد الى الثقة بالذكاء.

يعني هذا النهج عند الناس، حيث توضع الأنظمة الاجتماعية على افتراض أن الناس حمقى، من هنا يحفز الذكاء ويعزز في تلك البلدان.

فكلما ازداد التدخل وقولبة سلوك الأشخاص من الخارج تنكفئ حالتي الزعامة الذاتية وضبط النفس، هما من العوامل الهامة في التربية الناشطة. هنا يلاحظ أن أغلبية العوائل التي تواصل دعم أبنائها، اسنادهم، تتدخل في جميع سلوكياتهم أو تجهد لقولبة أفكارهم وأعمالهم، حركاتهم، سكناتهم، فإن الأمر لا يتحدد بأن أبناء مثل هذه العوائل لا يستبطنون، عادة، تلك القوالب والمناهج الخارجية فقط بل يتجاهلون حتى مكنونات باطنهم الى جانب القولبات الخارجية.

من هنا يجب على الأبوين أن يستوعبا أن واجبهما ليس قولبة الطفل بل ينمو الطفل وفق منهج باطني، مبدأ التخلق بالآخر. لكن هذا التفويض والتغاضي عن التدخل أمر في غاية الصعوبة ولا يمكن تحمله بالنسبة للآباء والأمهات حيث يخيل إليهم أن الأبناء ملك لهم. وبالنظر لتملكهم لأبنائهم فإنهم أصحاب شخصياتهم ونفوسهم أيضا.

ينقد جبران خليل جبران فكر مثل هؤلاء الأبوين في كتاب(النبي)، فيكتب:

ثم دنت منه امرأة تحمل طفلها على ذراعيها، وقالت له: هات حدثنا عن الأولاد.

فقال: إن أولادكم ليسوا أولادا لكم.

إنهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة الى نفسها، بكم يأتون الى العالم ولكن ليسوا منكم.

ومع أنهم يعيشون معكم فهم ليسوا ملكا لكم.

أنتم تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم، ولكنكم لا تقدرون أن تغرسوا بذور أفكاركم، لأن لهم أفكارا خاصة بهم.

وفي طاقتكم أن تصنعوا المساكن لأجسادهم.

ولكن نفوسهم لا تقطن في مساكنكم.

فهي تقطن في مسكن الغد، الذي لا تستطيعون أن تزوروه ولا في أحلامكم.

وإن لكم أن تجاهدوا لكي تصيروا مثلهم.

ولكنكم عبثا تحاولون أن تجعلوهم مثلكم.

لأن الحياة لا ترجع الى الوراء، ولا تلذ الإقامة في منزل الأمس.

أنتم الأقواس وأولادكم سهام حية قد رمت بها الحياة عن أقواسكم.

فإن رامي السهام ينظر العلامة المنصوبة على طريق اللانهاية، فيليكم بقدرته لكي تكون سهامه سريعة بعيدة المدى.

لذلك فليكن التواؤكم بين يدي رامي السهام الحكيم لأجل المسرة والغبطة.

لأنه كما يحب السهم الذي يطير من قوسه، هكذا يحب القوس التي تثبت بين يديه.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 26/تشرين الأول/2010 - 18/ذو القعدة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م