تتعدد أوجه الفتن التي تسعى إلى إحداثها أو استحداثها الأصوليات على
اختلافها، فمن وجه الفتنة المذهبية، إلى أوجه الفتن الدينية التي
حملتها الأصوليات على عاتقها بين الحين والآخر، ثم الارتداد إلى تبني
وجه الفتنة الطائفية، وصولا إلى الفتن الإثنية/العرقية، خاصة في توسلها
التديّن الشعبوي.
وفي كل أنماط وأنواع الفتن، كانت السياسة في اشتباكها وتشابكها بين
الفرق ضحية أولى، حتى غدت الدولة الهشة والمائعة أضحية أخرى في تماهيها
بين صفتها المدنية، وما يحاوله أفراد من داخلها لحرفها نحو إضفاء صفة
دينية عليها، هي ليست من طبيعتها، بقدر ما تخضع هي؛ أي الدولة، إلى
طبائع قوى الغلبة فيها، لجرها إلى مستنقع فتنوي، ليس ظاهرا طرفه الآخر،
على أن الاستتار هنا يحجب أصولية منسجمة مع أصولية تدعو للانسحاب من
الحياة، بل إلى قتل الحياة على مذبح "العودة إلى الأصل"، أصل الحالة
الأولى ومنبعها، أو ما جرى التعارف عليه "على أنه من الدين بالضرورة"!،
بل هي إلى الفقه البشري وتأويلاته أقرب.
هكذا فازت "الدولة" على الخلافة، وذلك حين نجحت السلطة في تأبين
الدولة والخلافة معا، ما أضفى ويضفي على مشروع "الدولة الدينية" وجها
توتاليتاريا في أصوليته، واستبداديا في تقديسه للمنحى الذي سلكته
السلطة هنا أو هناك، في تواطئها مع بعض المجتمع الأهلي، الساعية بعض
تياراته "الأبوية" إلى إحلال عملية "أسلمة" ممنهجة، عنوانها الجلباب
والحجاب والتزام "أصول الدين" عبرالنقاب، على الرغم من بروز مظاهر
تحجيب "تحديثية"، لا علاقة لها بالحجاب لا الأصولي السابق – القديم –
ولا الأصولي اللاحق – الجديد – أو ما يفترض كونه كذلك، فقد ابتلعت
الموضة العصرانية جوهر التحجيب، وإن أبقت على شكلانية ظاهرة، لا تحمل
في داخلها أي دلالات حقيقية وجدية نحو "أسلمة" حتى ولو كانت واهية، على
ما يحصل خصوصا في مجتمعات الاستبداد السياسي والمجتمعي، حيث السلطة
السياسية والأخرى المجتمعية؛ تتبادلان فرض مفاهيمهما الإسلاموية الخاصة
التي لا تتعارض ولا تعادي مشروع "الدولة الدينية"، القائمة عمليا في
بعض البلدان، وإن تعارضت بل وتناقضت مع مفاهيم قوى أخرى وتيارات أخرى
ترى أن لإسلامويتها هي وحدها، سمة "الفرقة الناجية".
هنا نحن في مواجهة أصوليات شكلانية، ليست أصيلة ولا تمتّ إلى تلك
الجوهرانية بأية صلة، ولم يعد من الممكن تأصيلها، بل هي إلى الهجنة
أقرب، رغم تماهيها مع تقليدية مكررة، لم تعد تمتهن سوى ذاك التبجيل
المبالغ فيه حد القداسة، لشيوخ طرائقها، ولمقولاتهم ومفاهيمهم النقلية
الإتباعية، حتى ما "استحدث" منها. وهي في كل ذلك إنما تفشي غيبيات
تنتشر كالفطر على الفضائيات وعلى الشبكة العنكبوتية وفي بعض المطبوعات،
التي تصدر عن بعض الفرق والتيارات المنسحبة من الحياة، كاتجاه مغال في
تبجيل المقدس الذي "اخترعوه" وأجادوا "صناعته"، رافعين إياه إلى سويّة
الدين، وما اعتراه ويعتريه من فقه لاهوتي وكلام منحول وأحاديث منقولة،
كلها نتاج عقلية أسطورية/خرافية، تغبّ غبّا من غيبيات لا قدرة للعقل
على استيعابها أو فهمها، ولا تفكيكها حتى.
بذا فشلت وتفشل كل محاولات إكراه التاريخ على أن يعود القهقرى،
فالأصوليات جميعها؛ الدينية وغير الدينية لم ولن تستطيع تمثّل إمكانية
وقدرة "استعادة الأصل" أو العودة إليه، وتكراره على صورته النمطية
المعيارية الأولى التي تمأسست وفقه. إلاّ إذا أصرّ المنسحبون من الحياة
على دعاوى جرّ الناس إلى ملاه (جمع ملهاة) ومآسي جديدة، حيث يبرع
محترفو النقل والتبجيل في استحداث مهازل تاريخية موصوفة، قادت وتقود
حسب شواهد تاريخية كثيرة، نحو اجترارات وتكرارات لأشكال سياسية
وإجتماعية انتهت إلى حتف أخير، حيث الانسحاب من الحياة؛ والقطيعة
المعرفية في نطاقها الديني، لا ينتج ولا يؤسس لما يلي الولادات، قدر ما
يؤسس لواقع مأساوي كذلك الذي يحيط الجنازات.
لقد أنتج الواقع المأساوي للأصوليات على اختلافها، أحداثا مأساوية
هي الأخرى، دأبت على فتح أبواب مغلقة، لسيرورات وحتى صيرورات متعددة من
الفتن؛ الداخلية منها والخارجية، بين مسلمين فيما بينهم، وبين مسلمين
ومسيحيين في إطار ما يفترض أنها "دولة المواطنة"، التي يقع على عاتقها
بالدرجة الأولى؛ رعاية السلم الأهلي والإشراف بأمانة ونزاهة وصدق على
تنفيذ العقد الإجتماعي بين مواطني الدولة، لا التعاطي معهم كرعايا
أديان بطوائفها ومذاهبها، وللأسف تلعب بعض الدساتير التي تنص على تسمية
"دين الدولة"، وهو هنا الإسلام، على أنه دين الغالبية، دور الدافع
لتغوّل البعض وتفسير النص على أنه لمصلحة أكثرية كاثرة، اعتبرت وتعتبر
أن الدولة دولتها، وبالتالي هي "أحق" في تحويلها من دولة مدنية إلى
دولة دينية، أما الأقلية فلها "التعاطي الذمي" خضوعا لـ "غلبة الأغلبية"،
فهل يجوز هذا في دولة مدنية ذات طابع علماني؟ ألا يقود مثل هذا الوضع
إلى حدوث الفتنة الكبرى؛ تلك التي ترفع رايات "الأسلمة" من جهة،
و"التنصير" أو "الأقبطة" على ما يقال، من جهة أخرى.؟
هذا وجه واحد من أوجه الفتنة الكبرى، التي قد تنتجها تداعيات
وتراكمات ما يجري تحت السطح وفوقه في مصر، بينما أوجه فتن أخرى قد
تنتجها تداعيات الاحتقانات السياسية والإجتماعية، ومنها ما هي ذات
أبعاد طائفية ومذهبية في عديد من بلدان المشرق العربي، حيث الاصطفافات
الصراعية تأخذ طابعا متداخلا؛ بين ما يجري في الداخل وفي المحيط
الإقليمي لعدد من أنظمة المنطقة، الممتدة من لبنان وفلسطين وسوريا
والعراق وإيران ودول الخليج العربي، وصولا إلى اليمن والصومال الذي
أضحى ينشر عدواه عبر نموذجه المسمى "الصوملة"، كواحد من مصطلحات شائعة
ومتداولة عالميا؛ كالبلقنة واللبننة والقبرصة .. إلخ من مظاهر التفتيت
والتفكيك والتشظيات السياسية والمجتمعية، المحمولة على حوامل الصراع
على امتلاك السلطة الفعلية، وسلطة التأويل الديني على حد سواء.
على هذا أمست سلطة التأويل، واحدة من مصدّات أساسية أمام أي تأويل
جديد أو حداثي، كما كانت قد أمست سلطة الاجتهاد المذهبي؛ سنيا وشيعيا،
الجدار الفولاذي السميك، كونها أوقفت سيل وسبل الاجتهاد، حتى بإيراد
حديث تجديد دين الأمة بين فترة وأخرى. هل هذه هي مهمة الأصوليات:
الانسحاب من العالم أولا، ومن ثم الانسحاب من الحياة، والحض على اتباع
ذلك لدى أتباعها؟ أليس هذا ما يدعو إليه نموذج "القاعدة" الطالباني
والإرهابي وأمثالها قديما وحديثا؟
حذار الفتنة إذن.. والانسياق خلف دعاتها، ومن يعمل على إنتاجها في
واقع اختلط فيه حابل ما هو ديني، بما هو تقديسي ينبع من تلك "التآويل
الأخيرة" لأصوليات تدعو وتشجع أتباعها الانتحار على مذبح أوهامها؛
إمكانية إعادة صياغة العالم وفق نمط معياري تأسيسي، لا يمكنها مطلقا
إعادة إنتاجه على صورته الأولى. |