اللغة الاولى واغاني المهد

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: هل هي الفطرة ان تغني الامهات لاطفالهن في جميع الثقافات؟ ام هو الهام وتدبير الهي ذلك الذي تقوم به تلك الامهات وهن يغنين لاطفالهن اغاني النوم اللطيفة؟

من منا لا تسكن ذاكرته تنويمة امهاتنا (دللول يالولد باابني... دللول... عدوك عليل وساكن الجول... دللول ...دللول).

يذكر نعوم تشومسكي، وهو من رواد المدرسة الفطرية اللغوية، ان الجيل المعاصر منشغل (بالنواحي الابداعية) للغة وهذه النواحي الابداعية تترك اثارها نتيجة للانتشار المثير والمباشر وغير المحدود للاشكال وفك التعابير ووصف الفعل... وحسب تصور تشومسكي هذا يعتقد (ليون وربيكا غرينبرغ) في كتابهما التحليل النفسي للمهجر والمنفى، ان الطفل الذي تعلم الكلام توا، يعتمد على كود جيني أو يطور قواعد (جينراتيف) تتيح له ان (يخلق) الكلام ككل، كما يبدأ بالتعبير عنه او (اعادة اكتشافه) بالتطابق والكلام الذي يسمعه من حوله.

ديديه انزيو يتحدث عن (غلاف صوتي) يحيط بالطفل منذ بداية عمره، ويتعرف الطفل منذ اسابيعه الاولى على صوت الام الذي هو كالحليب يتغذى عليه سمعه، وليس اعتباطا ان تكتسب اغاني المهد تلك الاهمية الكبرى في تراث كل الحضارات.

والغناء للأطفال عند الشعوب هو الترنُّم بالكلمات الموزونة التي تَصحب عادةً مداعبة الطفل وملاعبته وتحريكه في المهد لينام. وهو جزء من الغناء الفولكلوري العام المجهول النشأة، الذي جرى على ألسنة العامة من الناس في الأزمنة القديمة.

وفي معاجمنا اللغوية، ألفاظ كثيرة تدلّ على الحركات التي كانت تأتي بها الأم أثناء تنويم طفلها وملاعبته ومضاحكته، منها: التنزيه، والبأبأة، والهدْهَدة، والترقيص.

تحاول الأم - قدر الإمكان - أن تجعل من عملية النوم عملية سارة، فعند نومه تلاعبه وتُقبِّله قبيل نومه، وُتسمعه كلمات من أسماء الله الحسني، وتردد علي مسامعه كلمات الحمد والتسبيح والتكبير والتهليل، والطفل يسمع هذه الجمل الجميلة ولا يفهم معني الألفاظ، ولكن ترديدها علي مسامعه سيجعله مطمئنَّا مرتاحًا ساكنًا، ينام في هدوء، كما أنَّ الغناء للطفل وتحريكه بلطف في مهده أو هدهدته.. كل ذلك يجعله يقبل علي نوم هادئ خالٍ من المخاوف والاضطرابات، و يملؤه الاطمئنان والراحة.

وغالبا ما كانت الأغاني تعبر عن الحالة النفسية للأم، والوضع الاجتماعي والعائلي الذي تعيشه في تلك اللحظة التي تترنم فيها بالأغاني، فجاءت بعضها تحمل أحزان الأمهات اللواتي تعرضن لمصاعب حياتية أو عائلية، لذلك كانت بعض الترانيم حزينة تشكو فيها الأم من زوج أو من زمان جائر أو من غياب الأب... إلخ.

وتاريخنا الإسلامي حافل بهذا اللون من الأغاني، ومن ذلك قول الشيماء- أخت النبي (من الرضاعة- وهي تغني له في طفولته وتلاعبه:

يا ربنا أبق لنا محمدًا حتى أراه يافعًا وأمردَا

ثم أراه سيدًا مسودًا وأعطه عزا يدوم أبدَا

او تغني له في المهد قائلة:

هذا أخ لم تلده أمي... وليس من نسل أبي وعمي... فأنمه الله فيما تنمي.

وكانت أعرابية ترقص ولدها قائلة له:

يا حبذا ريح الولد ريح الخزامى في البلد

أهكذا كل ولد أم لم يلد قبلي أحد

وكان الزبير بن عبد المطلب يلاعب رسول الله وهو طفل فيقول له:

محمد بن عبـدم عشت عَيْش أنعـــم

ودولــة ومنعــم في فرع عز أسنـــم

مكـرم معظــــم

وكانت السيدة فاطمة الزهراء (ع) ترقص ابنها (الحسن بن علي) عليهم السلام وتقول: ان بني شبه النبي ليس شبيها بعلي.

وقيل كانت تناغي الحسين وتقول: انت شبيه بابي لست شبيها بعلي.

ان مناغاة الطفل تؤثر على سرعة النطق لدى الطفل ولنا في سنة اهل البيت خير اقتداء قالت سيدة نساء العالمين عليها السلام وهي تناغي الحسن:

اشبه اباك ياحسن واخلع عن الحق الرسن.

 واعبد الها ذا منن ولاتوال ذا الاحن.

وقد سميت أغاني المهد بأسماء عديدة تتناسب وطبيعة كل مجتمع ولغته، فهي تحمل تسميات عديدة (المهاواة، الهدهدة، أغاني المهد،الترويدة، التهويدة، التهليلة)، وهي جميعها تحمل في مضامينها تدليل الطفل، وهدهدته لينام بصوت مرخم وهز لطيف، بكلمات تحمل أحاسيس الام تعالج فيها الأفكار الدينية و الخرافية، تتذكر فيها طفولتها حينا، و تسرد فيها أحلام اليقظة حين آخر في أمنياتها لطفلها، و أملها فيه.

في العراق نسمى (دللول)، إن الفعل من هذا التركيب (لولى) أو (يلولي) ومن المعروف في العائلة العراقية انه عندما يبكي الطفل تقول الجدة لأمه:

لو ليله خلي إينام أو لو ليله حتى إينام

يقسم الباحثون الغناء للأطفال في هذه المرحلة إلى قسمين.

القسم الأول يعرف بأغاني المهد وهو ما يتصل بتنويم الطفل.

والقسم الثاني يعرف بأغاني الترقيص وهو ما يتصل بالملاعبة والمداعبة والتدليل.

تتشابه أغاني المهد والترقيص عند معظم شعوب العالم في أوروبا وفي أفريقيا وفي الدول العربية وعند شعوب البحر الأبيض المتوسط. من يتتبع دراسة هذه الأغاني عند سائر شعوب العالم يجد أنها تتشابه كذلك في موضوعاتها تشابها كبيرا، إذ أنهامهما تكن لغتها ويكن لحنها فلا بد أن تدور عند جميع الأمهات حول المعاني التالية:

- الرجاء للولد أن ينام نوما هادئا بحراسة الله والملائكة والرسل وجميع القديسين.

- إعطاء الوعد للطفل بهدية أو مكافأة.

- إشعار الطفل بالخوف إذا لم ينم.

- إبداء الإعجاب بالطفل وتعداد صفاته وبثه الحب.

- التنبؤ بمستقبل حسن للطفل.

أما مقاطع الدندنة التي كانت شائعة عند الأمريكيين في أغاني الهدهدة فهي : لولا، للاّ، لوللي، نينا، ننا، بوبو، دو دو.

وما ورد في دائرة المعارف ان هذه الهمهمات تسمع باإنجليزية والبولندية والرومانية والفرنسية والايطالية .

كما كانت في روما القديمة وعند الآثينيّين القدماء. فقد لفت هذا الأمر نظر أحد الدارسين العرب فأشار وهو يتحدث عن ظاهرة احتفاظ أغاني المهد بتلك الهمهمات التي تفصح عند البدايات الأولى (هو هو ...هي هي) فذكر ان هذه الظاهرة ليست ملحوظة عند الأوروبيين وحدهم وانما تشاركهم فيها جميع شعوب البحر المتوسط، وقد لوحظ أن هنالك تشابها لا بد من الإشارة إليه بين بعض أغاني في المهد عند شعوب البحر المتوسط، فبينما تبدأ أغنية المهد المعروفة في مصر هكذا:

نينا نام... نينا نام

وأدبح لك... جوزين حمام

والأم التونسية تغني لطفلها:

ننّي ننّي جاك نعاس... أمك فضة و بوك نحاس

ننّي ننّي جاك النوم... يا خدين بو قرعون

والأم السورية تهدهد طفلها قائلة:

أو للاّ يا أولان... أو للا ّ يا أولاني

يا ربي لا تنساني... من فضلك يا رحماني

والأم اللبنانية تقول:

هي هي وهللاّ ... سمن وعسل بالجرة

منكل نحنا و لبوبو ... ومنشحت خيّوا لبرّا

وتغني أيضا فتقول:

هي هي هلّينا... دِستِك لجنك عيرينا

تَنِغسِل ثياب ريما... وننشرها ع الياسمينة

والأم العراقية تدلل طفلها فتغني له قائلة:

دلِّل لول دلِّل لول... يا لولد يبني دلِّلول

لول لول يا قمبر... هسّـا تعيش وتكبر

فالأم الإنجليزية ترجو لطفلها أن ينام بهدوء بجوار أمه التي تحرسه وتصلّي له، لكي تهبط عليه الملائكة، وتحمل إليه الأحلام الجميلة ويكون الله حارس مهده:

نم يا ولدي نم بهدوء

أمك تحرسك وتصلي لك

فلتهبط عليك الملائكة

ولتحمل إليك على أجنحتها

المشعة أحلاما جميلة مزهرة

فَنَم يا حبيبي نم بسلام

نم يا ولدي نم بهدوء

رب السماء يُعنى بك

في مهدك الوثير

نم بهدوء وسلام

وعندما تنام فهو سوف يحرسك

فَنَم نَم بسلام.

وممّا تغنيه الأم الأمريكية لطفلها هذه الأغنية، تطلب منه أن يَضَع رأسه على صدرها ويستسلم للنوم قائلة:

نم يا حبيبي نم

نم واسرح فالطيور نائمة في أعشاشها

والحقل والبستان هادئان

والنحل لم يعد يحوِّم حول الورد

وها شعاع القمر يتسلل من النافذة

أصغ ِ فما من صوت هناك

و لا شيء يتحرك في البيت

الفئران الصغيرة بعيدة

ضع رأسك على صدري

نم يا طفلي واسترح... نَم

أما في فرنسا فيغني الأخ لأخيه الصغير و يحثه على النوم:

اذهب إلى النوم يا أخي الطفل

نَم يا بيارو العزيز

أمي تصنع الكعك

و بيارو يذهب لينام

نَم نَم يا أخي الطفل

نَم يا صغيري بيارو

وتغني الأم الألمانية لطفلها:

نم يا طفلي نم

أبوك يرعى الغنم

وأمك تهز شجرة الحلم

فلتتساقط منها عليك أحلى الأحلام

نم يا طفلي نم

واللبنانية تدندن لطفلها راجية له النوم:

نم نم نم يا زغيّر نام

نيمتو ما كان ينام

نام الله يا عيني

ابني يا عنب زيني

يلاّ يلاّ يا دايم

تحفظ عبدك النايم

تحفظ عبدك وتجيرو

وتخلّيه نايم بسريرو

والعراقية تطلب من الطيور السكوت كي يسعد طفلها بنوم جميل ويكون تحت رعاية الله والأئمة الاثني عشر:

تنام وأنا اهدي لك

والعافية من الله تجي لك

يا طيور ويا حمام

دعوا حمّودي تاينام

ينام بالسلامة بحفظ الله وإتنعش إمام.

وفي سوريا تهد هد الأم طفلها وهي تهز السرير قائلة :

نام يا ابني نام

لأذبح لك طير الحمام

روح يا حمام لا تصدِّق

عم كذِّب على ابني حتى ينام

وفي تونس يسمّون هذا اللون من الغناء "التَبنين" ويميل الطفل التونسي للنوم حين يسمع أمه تقول:

نني نني جاك النوم

امك قمرة وبوك نجوم

نني نني نني

يجعل نومك متهني

وهذه الهدية الرائعة تتنوّع تبعا لبيئةالام وتصوراتهها فالإنجليزية تعد طفلها بجلد أرنب في الأغنية التي تقول:

يا طفلي يا عصفوري

أبوك خرج للصيد

ليحصل على جلد أرنب

ويلف ولده فيه

أما النرويجية فتعد طفلها بحذاء جديد أزراره لمّاعة، يحضره له والده، أمّا الأم الفرنسية فتعد طفلها وتخبره بأن الدجاجة البيضاء الواقفة على الغصن سوف تصنع له بيضة، وتَعِد الصينية طفلها بمزمار من البامبو ليلعب به.

أمّا الأمريكية فتغني لطفلها:

هس يا طفلي لا تنبس ببنت شفة

إن أمك سوف تشتري لك طائرا صدّاحاً

وإذا لم يغنّي هذا الطائر الصدّاح

فإن أمك فسوف تشتري لك خاتما من الألماس

وإذا تحول الخاتم إلى نحاس أصفر

فإن أمك سوف تشتري لك منظاراً ترى به الخ الخ...

و اليابانية لها أيضاً أغنية رقيقة تبحر في الخيال:

نم نم اضطجع يا حبيبي نم

تدحرج على الأرض يا حبيبي الصغير ونم

هل تذكر يوم ذهبت مربيتك إلى ضيعتها في الجبال الشمالية

إحزر ماذا جلبت لك من ضيعتها هناك.

وفي افريقيا، في الكونغو تعد الأم طفلها بأن أباه سيأتي عن قريب حاملا له معه بطة لياكلها :

يو يو يو يو يو

لا تبك يا حبيبي

قريباً سيأتي بابا

ويجلب لك معه بطة لتأكلها

يو يو يو ...

وفي جزيرة كورسيكا الفرنسية، الهدهدة التي كانت منتشرة في المناطق الجبلية الرعوية،. وهي من الهدهدات الطويلة، في جبال كوسكيون

وُلدت بنتٌ

كانت جدتها الحبيبة

تهدهدها بحنان

وفي أثناء هدهدتها

كانت تتنبأ لها بمصيرها الموعود

نامي للحظة

يا لفرحة جدتك

لأن عليّ أن أعد الحساء

وأن أخيط هذه السُترات

سُترات أبيك الحبيب

ثم سترات إخوتك الكبار.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 23/تشرين الأول/2010 - 15/ذو القعدة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م