ربما يُحدث الاعتماد على المصادر غير المسؤولة تشويهاً لكتاب الله
تعالى، لذلك فإن النأي بالقرآن الكريم عن المناهج الهدامة يدعونا أن
نجدد كثيراً من التراكمات السلبية التي يريد البعض أن يجعلها جزءاً من
القرآن، وبالتالي يصبح تنزيههم لدين الله تعالى قد أخذ طابع التشويه،
فضلاً عن اخراج الناس من الدين فضلاً عن خلق أعداء لهذا الدين، إضافة
إلى جعل جميع الطرق مفتوحة للنيل من اتباع الشرائع السماوية على اختلاف
مناهجها.
ونحن بهذا الطرح لا نريد أن نسجل هذا الأمر على المصادر التي لا
تلتقي مع كتاب الله تعالى، وإنما نريد أن نجعل القرآن الكريم هو المصدر
الذي يمكن أن نعتمد عليه كلياً في اظهار الحقائق، دون أن نغفل حق
المفسرين الذين اتخذوا هذا النهج إماماً لهم حسب استنباطهم وما يتوافق
مع مراد الله تعالى، وهذا هو العنوان الأسلم في الأخذ بثوابت التفسير
التي اتفق عليها كثير من الأعلام كلاً حسب الطريقة التي يرتضيها وما
يظهر له من أدلة تجعل القرآن الكريم هو الشاهد على صدقها.
من بعد هذه المقدمة يمكننا القول إن الاعتقاد الملازم لعامة الناس
والمتمثل في نسبة الجزء الثاني من الآية الأخيرة في سورة فاتحة الكتاب
إلى اليهود والنصارى لا يعد إلا ترجيحاً من دون مرجح، وذلك لأن القرآن
الكريم لا يمكن أن يلقي الكلام على هذا الوجه إذا كان المشار إليهم ممن
التزم شرع الله تعالى الذي أرسل به الأنبياء، فليس من الحق أن نقول إن
الله تعالى قد خص هؤلاء بالغضب والضلال دون غيرهم، باعتبار أن التسليم
بأخذ النسبة الخاطئة يجعل هذا الأمر متداولاً بين الناس على خلاف
المراد من مفهوم النص مما يولّد الكراهية والحقد بين أبناء البشرية لا
سيما في هذا الزمن الذي أصبح فيه العالم على مقربة من بعضه.
وبطبيعة الحال إذا كانت هناك مجموعة من اليهود أو النصارى قد غضب
الله عليهم، فلا بد أن يكون من المسلمين من هو داخل في هذا الغضب إذا
كان نهجه مطابقاً لنهجهم، من هنا نفهم أن المصادر القديمة التي تطرقت
إلى هذا النوع من التحليل، يجب أن لا ينظر إليها لأنها بعيدة كل البعد
عن مراد الله تعالى، وتناقضها ظاهر مع مفهوم الآيات التي تعطي لكل ذي
حق حقه، شريطة أن يكون اتباع تلك الشرائع قد ساروا على نهج الله تعالى
الذي أنزله على لسان رسله، وهذا ما ينطبق على المسلمين أيضاً، وقد أثنى
الله تعالى على جميع أصحاب الشرائع ووصفهم بأبلغ الأوصاف كما في قوله
تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله
واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم
يحزنون) البقرة 62.
وقريب منه المائدة 69. وهذا يدل على أن الله تعالى لا ينظر إلى
الأسماء والأوصاف وإنما الأصل في ذلك يرد إلى الإيمان به جل شأنه وإلى
الإيمان باليوم الآخر، إضافة إلى العمل الصالح الذي يعد علة الأشياء
المقررة في الوصف، وما يثبت أن الأسماء والأوصاف لا تقرر قبول العمل
عنده تعالى هو ما ذكره من محاسن الأنبياء في قوله: (وتلك حجتنا آتيناها
إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم) الأنعام 83. ثم
ذكر مجموعة من الأنبياء بأحسن الأوصاف والثناء وفي الختام قال سبحانه:
(ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا
يعملون) الأنعام 88.
وبالإضافة إلى هذا فقد أثنى القرآن الكريم على أهل الكتاب بأبلغ
الأوصاف، كما في قوله تعالى: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون)
الأعراف 159. وكذا قوله: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل
إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً
أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) آل عمران 199. وقوله: (ليسوا
سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون***يؤمنون
بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في
الخيرات وأولئك من الصالحين) آل عمران 113-114.
وفي مقابل هذه الآيات هناك آيات تذم المسلمين الذين ضلوا عن طريق
الله تعالى ويغنينا عن ذكرها تفرقها وانتشارها في القرآن الكريم وبطرق
مختلفة أهمها النفاق وظن السوء وأكل مال اليتيم و التعامل بالربا
وغيرها من المحرمات، إذاً لا فضل لأحد على أحد إلا باتباع طريق الحق
سبحانه، دون النظر إلى العناوين مع مراعاة التسليم لله تعالى، من هنا
يظهر أن الآيات التي تتحدث عن غضبه تعالى لا تختص بقوم دون قوم وإنما
بفئة من نفس القوم فتأمل. وهذا ظاهر في قوله: (وضربت عليهم الذلة
والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله
ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) البقرة 61.
وقريب منه آل عمران 112.
والحقيقة أن الذين قتلوا الأنبياء هم فئة من اليهود، وكذا قوله: (قل
هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم
القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل)
المائدة 60. والتبعيض ظاهر في قوله (وجعل منهم) وقوله تعالى: (إن الذين
اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي
المفترين) الأعراف 152.
وما يتناسب وهذا الطرح هناك بعض الآيات التي أشارت إلى غضب الله
تعالى على المؤمنين أنفسهم، كما في قوله: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا
متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم
وبئس المصير) الأنفال 16. وكذا قوله: (والخامسة أن غضب الله عليها إن
كان من الصادقين) النور 9. وهناك آيات أخرى تشير إلى هذا الجانب، وهذا
هو كتاب الله تعالى، لم نأت بكلام من عند أنفسنا إنما جعلنا القرآن
يظهر الحق، فهل بعد هذا البيان يمكننا أن نطمئن إلى المصادر التي أراد
أصحابها تنزيه الإسلام وفي نفس الوقت قد أحدث هذا التنزيه تشويهاً.
وعلى من يريد البحث في موضوع كهذا عليه أن يجعل كتاب الله تعالى هو
الحاكم على ما يقول وليتذكر قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق
إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) الجاثية 29. فإن قيل: لم كرر الصراط
عند الانتقال من الآية السادسة إلى آية البحث؟ أقول عندما تحدث القرآن
الكريم عن الصراط، فههنا كأن الاطناب قد أثار التساؤل في نفس المتلقي،
بتعبير آخر كأنه يقول أي صراط هذا الذي يكون بهذه الاستقامة، فعند ذلك
تلقى الاجابة بأن الله تعالى قد لقن العبد أن يخاطبه بقوله: (صراط
الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فاتحة الكتاب 7.
وهذا كثير في القرآن الكريم، كقوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله
والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) المائدة
55. فتكرار الذين يحسب على نفس القاعدة، وكذا قوله: (وقال فرعون يا
هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب***أسباب السماوات فاطلع إلى إله
موسى وإني لأظنه كاذباً) غافر 36-37. فإن قيل: لم أضاف الصراط للذين
أنعم الله عليهم وحذفه من المغضوب عليهم ومن الضالين علماً أن السياق
يدلل عليه؟ أقول: عند سلب الأشياء الحسنة من الذين لا يستحقونها يكون
ذكرها من الاسهاب.
فإن قيل: لمَ لم يقل غضبت عليهم أو أضللتهم مقابل أنعمت عليهم علماً
أن السياق يقتضي ذلك؟ أقول: العدول عن هذه المقابلة هو من الأدب الذي
دأب عليه القرآن الكريم في التعامل مع مواقف كهذه لا سيما أن سورة
فاتحة الكتاب تعد من أهم السور التي تؤدى في الصلاة، وهذه القاعدة قد
نجدها في كثير من الآيات، كقوله تعالى: (نبئ عبادي أني أنا الغفور
الرحيم***وأن عذابي هو العذاب الأليم) الحجر 49-50. ولم يقل إني أنا
المعذب المؤلم، وكذا قوله: (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا
ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً) الأعراف 44.
ومقتضى حال الكلام يجب أن يكون فهل وجدتم ما وعدكم مقابلة بقوله (ما
وعدنا) وهذا الاختلاف في التعبير فيه فائدة عظيمة للسير على ما يقتضيه
السياق القرآني في التعبير، وفي موضع آخر نجد كيف أن الجن قد نسبوا
الرَشد إلى الله تعالى دون الشر الذي نسبوه إلى مجهول، وذلك في قوله:
(وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً) الجن 10.
وكذلك نجد تعامل القرآن الكريم مع النبي (ص) في قوله تعالى: (وما كنت
بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين) القصص 44.
وظاهر المقابلة إذا كانت بغير القرآن يجب أن تكون وما كنت بجانب شاطئ
الوادي الأيمن باعتبار أن هذا المكان هو الذي كلم فيه تعالى موسى عليه
السلام كما في قوله: (فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة
المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين) القصص 30.
وهذا السياق يدل على أن شاطئ الواد الأيمن لا يراد منه الجهة وإنما
اليمن والبركة وإن كانت الجهة تابعة لهذا الاصطلاح، ولهذا فإن القرآن
الكريم لم يشر أدباً إلى عدم وجود النبي صلى الله عليه وسلم بجانب
اليمن والبركة فتأمل ذلك. فإن قيل: من هم الذين أنعم الله عليهم؟ أقول:
الذين أنعم الله تعالى عليهم هم الذين ذكرهم في قوله: (ومن يطع الله
والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً) النساء 69.
* من كتابنا: القادم على غير مثال
almalikiabdullah@gmail.com |