شبكة النبأ: لاشك في أن الإنسان يضم
في دواخله بذرة للشر ومثلها للخير، وجل ما يعانيه الإنسان في حياته،
متأتٍ من مدى قدرته على تدعيم بذرة الخير، وتغليبها على بذرة الشر التي
تسندها نوازع العنف والميل للنزاعات، وتفضيلها على الحكمة والتوازن في
التعامل مع شؤون الحياة.
ويبقى الميل الى النزاعات وأشكال العنف كافة، حالة مرضية تشكل جانبا
من رؤية الإنسان وسلوكه، الامر الذي يسِم الشخصية بهذا الوسم المتمثل
بطبيعة تعامله مع الآخرين، يقول الإمام الراحل آية الله العظمى السيد
محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) في كتابه الثمين الموسوم بـ (فلسفة
التأخر) بهذا الصدد:
(الجنوح إلى النزاع والاختلاف نوع مرضي في النفس, وانحراف في الذات,
فإذا قال الناس: الطريق إلى بلد كذا من الشرق, قال: لا بل من الغرب!).
هذا يعني أن بذور الخلاف مزروعة في الذات، فهل يعني هذا عدم القدرة
على التخلص من سطوتها ؟ إن الميل للعنف يعد ملكة كما هو الحال مع
الملكات الجيدة، وبهذا فإن التلقين والتعليم والنصح والتجربة قادرة على
مساعدة الانسان كي يتجاوز هذه الملكة السيئة ويتخلص منها كليا، ويشير
الإمام الشيرازي الى ذلك بكتابه نفسه قائلا حول هذا الموضوع:
(لاشك أن الإنسان فيه حالة العنف, لكن يمكن إزالتها بالتلقين
والإيحاء والتمرين, وعند ذاك تكون ملكة له وطبعاً من طباعه، يأتي بكل
يسر وعفويّة, كما هو كذلك في سائر الحالات والملكات الرديئة, ولا يخفى
أنه لا ينفع العنيف الاعتذار, فإنه قد يرفع شدّة الأثر السيئ, لكنه لا
يرفع أصل الأثر, ولماذا يفعل العاقل ما يحتاج إلى الاعتذار؟).
إن القاعدة السليمة تشير الى أن العنف هو وسيلة من وسائل التسلط بكل
أنواعه ودرجاته، ولذلك فإنه يشكل الاسلوب الأوحد للطغاة من الحكام
والمدراء والمسؤولين وأرباب العوائل وكل المتجبرين الذين يجدون ميلا
للعنف في نفوسهم المريضة، لهذا يقول الإمام الشيرازي في هذا المجال:
(من فلسفة التأخر الجنوح إلى النزاع, فإن بعض الناس يميلون إلى
المشاكل والاختلاف مع الآخرين في الصغائر والكبائر, وفي كل أبعاد
الحياة).
وغالبا ما تقدم لنا الحياة شواهد ماثلة لمثل هذه النماذج المخالفة،
سواء على مستوى القادة أو الأفراد العاديين، حيث تمثل ظاهرة التعالي
على الآخرين بذرة أولى من بذور التسلط الذي سينمو ويصبح أداة قاهرة
للاخرين تنميها نوازع العنف المتنامية في النفس الخالية من المراقبة
والتهذيب، فالكبر ملكة سيئة ايضا تنمو مع نمو قدرات الانسان الذي لا
يراقب نفسه ولا يحتاط منها، فتدفع الى تنمية نوازع التسلط وحب السيطرة
وفرض الاوامر المجحفة على الآخرين، في هذا الصدد يقول الإمام الشيرازي
بكتابه القيّم نفسه: (ومن فلسفة التأخر, الكبر, بأن يرى الإنسان نفسه
كبيراً, ويترفّع على الآخرين).
ولكن في معظم الاحيان لا يتنبّه الانسان المتكبر والعنيف الى طبائعه
التي تقوده الى الظلم غالبا، ومثلما انه لا يهتم بهذا الامر فإنه في
الوقت نفسه لا يعرف مدى الاضرار التي يلحقها العنف ونوازع الشر في
ذاته، إذ يقول الإمام الشيرازي بهذا الصدد: (إن العنيف في قول أو كتابة
أو فعل, إنما يضر نفسه قبل أن يضر غيره).
وبهذا فإن ما ينعكس من أفعال العنف وظلم الآخرين من فوائد قد تصب في
زيادة الغرور والتكبر والتعالي على الآخرين، ستقود الفرد العنيف الى
نتائج ربما لم يحسب حسابها، بل بين أيدينا الكثير من طغاة التأريخ قرأ
بعضهم تجارب البعض الآخر وعرفها لكنه لم يهضمها على النحو الصحيح وبذلك
فإن سمة الطغيان بقيت تتجدد على مر الازمان بين البشر، بل حتى بين
الذين يدّعون الاسلام.
وثمة من يرى أن المجتمعات الاسلامية هي أكثر التجمعات البشرية
تفضيلا او استخداما للتعامل العنيف، وأكثر المجتمعات تداولا لظلم
السلطات بأنواعها الحكومية والعائلية وغيرها، مع أن الاسلام كفكر
وكمبادئ وكتعاليم انسانية هو أول من حث على السلام وطالب بتقديمه على
جميع الاساليب التي تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم من جهة وعلاقات
الافراد فيما بينهم من جهة أخرى.
يقول الإمام الشيرازي في هذا المجال بكتابه نفسه: (اللاعنف هو شعار
الإسلام قبل أن يتخذه غاندي شعاراً).
لذلك يبقى العنف وكل العوامل المساندة له عاملا حاسما من عوامل
فلسفة التأخر وثباته في الشعوب الأكثر تداولا للعنف، وطالما أننا ننتمي
الى الاسلام الذي يحث على السلام ومناهضة العنف بكل أشكاله، فإننا
الأولى بانتهاج التسامح والتعايش والتعاون لبناء الحياة المثلى التي
تليق بكرمة الانسان وإنسانيته. |