|
السلطة من أهم خصوصيات الدولة ومؤسستها الكبيرة؛ اذ لادولة بلا
سلطة، كما لااشكال في أن ممارسة الدولة لسلطتها بشكل مشروع يتوقف على
سيادتها على الارض والشعب؛ اذ لامشروعية لممارسة السلطة بلا سيادة
مشروعة عليهما، ومن هنا وقع البحث بين فقهاء الشريعة والقانون في تحديد
منشأ السيادة ومصدر شرعيتها، وقد تضاربت الآراء في ذلك من حيث المفهوم،
ومن حيث تحديده، فهل السيادة للأمة أم للشعب وهل السيادة مطلقة أم
مقيدة بضوابط، ومن هي الجهة التي يحق لها ممارسة السيادة؟
ونتعرض هنا الى مفهوم السلطة والولاية الذاتية من جهتين:
الجهة الاولى: في المفهوم والمصطلح
قبل معرفة المفهوم لا بد وأن نعرف أن الإسلام لا يؤمن بوجود سلطة
دينية منفصلة عن السلطة الزمنية، بل هناك سلطة واحدة تختارها الأمة
بمحض إرادتها، كما أن الإسلام ينشىء دولة على قواعد عادلة، فالدولة
الإسلامية هي دولة القانون الشرعي، وكل فرد في هذه الدولة خاضع لهذا
القانون، سواء كان حاكماً أو مواطناً.
وتجربة الحكم الإسلامي تعرض لنا نماذج رائعة عن الحريات الإسلامية
والحقوق، حيث كان الحاكم لا يمتاز عن أبسط مواطن يعيش في الدولة
الإسلامية، فكما يتعرض الإنسان العادي إلى المحاكمة يتعرض الحاكم أيضاً،
مثله مثل أي مواطن آخر في هذه الدولة. هذا من جانب، ومن جانب آخر ينبغي
أن نعرف أنه ليس في الإسلام طبقة كهنوتية لها الحق في التصرف كما تشاء
دون قيد أو حدود.
وبالتالي فالإسلام لا يؤمن بالفصل بين الدين والدولة، بل هما من بعض
الجهات شيء واحد، ورئيس الدولة يمكن أن يكون هو الإمام الذي يقتدي به
المسلمون، ويأخذون منه علوم الدين والشريعة، والجميع يطبِّق قوانين
الشريعة سواء في بُعد السياسة والحكم، أو في بُعد المجتمع والشؤون
الإنسانية.
كما أن الإسلام يؤمن بالشورى ويتخذ منها منهاجاً للحكم وإدارة شؤون
الناس، فلا مجال للاستبداد في دولة الإسلام، ولا احتكار للسلطة، وللأمة
كامل الحق في مراقبة الحاكم، بل يجب عليها مراقبة الحاكم حفظاً لحقوقها،
ورعاية للعدالة، وتتبّعاً لسياسة الحاكم في تطبيقه للقوانين الشرعية،
ومن حقها أيضاً عزل الحاكم عند انحرافه.
ومن مظاهر عظمة الإسلام قدرته الفائقة في الجمع بين الدين والدولة
في نسيجٍ رائعٍ أوجد حالة من التوازن في نظام الحكم، ويظهر ذلك جلياً
في الفترة التي كان فيها الإسلام حاكماً على ربوع الكرة الأرضية، اعترف
به بعض مفكري الغرب الذين أذعنوا لهذه الحقيقة، فقد قال الدكتور شاخت:
إن الإسلام يعني أكثر من دين. إنه يمثل نظريات قانونية
وسياسية[1]،ويقول نالينو: لقد أسس محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في
وقت واحد ديناً ودولة[2]، ويقول توماس أرنولد: كان النبي في الوقت نفسه
رئيساً للدين ورئيساً للدولة[3].
بل الدين جمع النبوّة والدولة، فالنبي هو الحاكم كما أن الإمام
المعصوم هو الحاكم، ومن بعدهم الفقهاء الذين جمعوا شرائط الفتيا والحكم،
لكن من ناحية السيادة انقسم الإسلاميون في مبدئها إلى اتجاهات ثلاثة:
فبعضهم يرى أن السيادة لله سبحانه وتعالى فقط، وهذه النظرية فيها بعض
الإجمال؛ لإمكان أن يسأل سائل عن المقصود من أن السيادة لله سبحانه
وتعالى، فإذا كان المراد منها أنّ السلطة والسيادة إليه عز وجل
بالأصالة ثم هو سبحانه يفوض هذه السلطة إلى من يطبّقها ويمارسها فهذا
صحيح على ما ستعرفه، وأما إذا قصد السيادة لله عز وجل ثم بعد ذلك لم
يفوّضها إلى أحد للممارسة والتطبيق فهذا باطل عقلاً وشرعاً.
أما عقلاً فللزوم نقض الغرض واللغوية؛ لوضوح أن الكلام في سيادة
الدولة وحق ممارسة سلطتها على الناس، وإنما تمتلك الدولة هذا الحق لغرض
التطبيق والتنفيذ للأحكام الشرعية والوصول إلى الأهداف العليا، فلولا
أن يفوض الله عز وجل السلطة لبشر يمارسها يكون قد نقض الغرض، ولزم منه
اللغوية أيضاً.
وأما شرعاً فللملازمة العقلية بين الحكم والشرع في موارد وقوع حكم
العقل في سلسلة العلل للحكم الشرعي وهذا منها، مضافاً إلى استلزام وقوع
الظلم والتعدي في صورة عدم التفويض؛ ولذا أجاب مولانا أمير
المؤمنين(عليه السلام) على دعوى الخوارج بأن لا حكم إلا للّه: بأنها
كلمة حق يراد بها باطل[4]؛ إذ لا شك في أنه لا حكم إلا للّه بالأصالة،
ولكن لابد للناس من أمير برٍّ أو فاجر [5] بالتبع، فتأمن به السبل،
وتقام به الحدود، وتحفظ به الحقوق، ونحو ذلك كما عرفته من النصوص
المتقدمة.
وبذلك يظهر وجه النظر في كلمات بعض الأعلام من العامة والخاصة، حيث
أطلقوا على الحكومة الإسلامية بالتيوقراطية المحضة[6]، وبعضهم ذهب إلى
أن السيادة للأمة فقط، وقد استدلّوا لذلك بدليلين:
أحدهما: دليل الشورى، بدعوى أن المفهوم منه أن الأمة وحدها هي مصدر
السلطة والسيادة.
ثانيهما: الحديث المروي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «لا
تجتمع أمتي على خطأ»[7].
إلا أن الظاهر أن للمناقشة في الدليلين مجالاً واسعاً؛ أما أدلة
الشورى فلا تثبت أن السيادة منحصرة بالأمة كما هو واضح؛ للزوم أخذ
الأمة بالشورى في إطار القوانين الشرعية لا أكثر.
وأما الحديث النبوي المروي فقد أجاب عنه جمع من الأعلام بأجوبة عدة:
منها: أن الاستدلال به على عصمة الأمة لا ينفع فيما نحن فيه؛ وذلك
لأن الرواية لا تنفي الخطأ عن اجتماع الأمة، بل تنفي الاجتماع على خطأ،
وبينهما فرق بعيد؛ لبداهة أن في الثاني إذا اجتمعت الأمة فإن وجود
الإمام المعصوم بين الأمة هو الذي ينفي اجتماعها على خطأ، وهذا غير
احتمال صدور الخطأ عن الأمة، ولو سلمنا فإنه خارج عما نحن فيه؛ بداهة
أن الصواب لا يمكن أن يكون مصدراً للسيادة، ومعطياً للأمة حق التصرف
مطلقاً حتى فيما يرتبط بولاية الله وشؤونه التكوينية والتشريعية.
وبالتالي فإن الدليل أخص؛ لكون الصواب نتيجة والبحث في مصدر السلطة
لا في نتيجة السلطة؛ ولذا لا يمكن الاستدلال بهذا الحديث على أن
السيادة للأمة استناداً إلى فكرة عصمة الأمة، فإن ذلك لا يقوى كدليل
يثبت أن الأمة هي صاحبة السلطة المطلقة التي تشرّع وتقضي وتحكم، وليست
هناك سلطة أعلى منها.
والظاهر أن جمعاً من القائلين بهذا قد وقعوا تحت تأثير الفكر الغربي
الذي تولد من الثورة الفرنسية، حيث انتقل مفهوم السيادة من الملك إلى
الأمة لمنع الاستبداد، والذي شجعهم على ذلك القول هو تأثرهم بعبارة بعض
الساسة الغربيين كما في مقدمة كتاب السياسة لأرسطو التي كتبها وزير
الخارجية الفرنسي بارتلمي سنت هيير، حيث يقول: إن لمن فخر العرب على
الأمم أجمع أن كان لهم منذ الربع الأول من القرن السابع الميلادي دستور
يعترف للأمة لها بالسيادة؛ وبأنها مصدر السلطات، بينما كان ظهور هذه
الفكرة، قد تأخر في أوربا إلى القرن الثامن عشر، وعد ذلك ضرباً من
الجسارة والخيال[8].
ولا مجال للالتزام بهذا الرأي؛ لكونه مخالفاً صريحاً للأدلة النقلية
والعقلية القائمة على أن السلطة والسيادة ترجع إلى الله عز وجل أولاً
كما في متضافر الآيات والأخبار، حيث يقول سبحانه: {إن الحكم إلا لله}[9]
ويقول عز وجل: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}[10]
ويقول عز وجل: {قل أآلله أذن لكم أم على الله تفترون}[11] حيث تنفي هذه
الآيات أن يكون لأحد في قبال الله عز وجل حكم أو سلطة أو سيادة.
وعليه فإن القول بأن السيادة منحصرة بالأمة مخالف للنص، بل هو مخالف
لدليل العقل أيضاً؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
إن قلت: إلا أن سيادة الأمة ترجع إلى سيادة الأفراد، وسيادة الأفراد
على أنفسهم ذاتية لبداهة تسلط كلّ إنسان على نفسه.
نقول: حتّى سيادة الإنسان على نفسه ترجع إلى حدود ما أعطاه الله عز
وجل من السلطنة والسيادة لتبعية ما بالعرض إلى ما بالذات، والنسبة تكون
للأصل لا للفرع. هذا مضافاً إلى الإشكال فيها من جهة أن مفهوم السيادة
لا يمكن إطلاقه على الأمة أصلاً؛ لأن الأمة التي لها سيادة لا تخضع
للقانون كما هو المستفاد من مؤدى السيادة، بل هي التي تضع القانون،
وهذا يتناقض مع شريعة الإسلام، حيث قام الإسلام على مبدأ أنّ اللّه عز
وجل هو المشرع، وليس لأحد الحق في التشريع في غير ما جاء به الله عز
وجل، كما يقول تبارك وتعالى في القرآن الكريم: {ولا تقولوا لما تصف
ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام}[12] ويقول عز وجل: {يقولون هل لنا
من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله}[13].
مضافاً إلى ما عرفته مما تقدم، وعلى هذا الأساس فإن القرآن الكريم
يرفض النظام الديمقراطي؛ لأنه قائم على مبدأ سيادة الأمة؛ إذ كيف يمكن
الجمع بين كون السيادة للأمة وبين إذعان الأمة للقرآن والسنة؟.
وربما يمكن أن يقال: إن السيادة هي للاثنين معاً، فمن حيث الأصالة
تكون السيادة لله سبحانه تكويناً وتشريعاً، ومن حيث التطبيق والتنفيذ
تكون للأمة؛ إذ لها أن تختار حاكمها وشكل نظام الحكم، ولكن لا يجوز لها
ذلك إلا بعد توفر الشروط الشرعية، فسيادة الأمة في إطار قوانين الشرع
إذاً مشروطة لا مطلقة، كما أن سيادة الإنسان على نفسه كذلك، فله
السلطنة على التصرف بنفسه وماله وحقوقه ونحو ذلك، ولكن لا يجوز له
مخالفة الشرع بالربا بالمال، أو قتل نفسه مثلاً، أو هدر حقوقه فيما إذا
انطبق عليه عنوان الإسراف أو الإهانة أو نحو ذلك، أو التصرف في حقوقه
بما يضر بالآخرين مع أن المنع مناف للسلطنة، لكن حيث إن السلطنة جعلية
إلهية يؤخذ بها بقدر الجعل، فكذلك في سيادة الأمة.
فإذاً السيادة أولاً وبالذات في التكوين والتشريع لله عز وجل،
وثانياً وبالعرض في التطبيق للأمة على ما ستعرفه إن شاء الله تبارك
وتعالى.
ومن هنا كان الأولى التعبير عن مبدأ السيادة في الاصطلاح بالولاية
لا بالسيادة؛ لأنه الوارد في الأدلة النقلية وفي كلمات الفقهاء، والفرق
واسع بين مفهوم الولاية ومفهوم السيادة.
الفرق بين الولاية والسيادة
يظهر الفرق من جهات عدّة:
الأولى: أن مفهوم الولاية يشتمل على جانبين مهمين هما التكوين
والتشريع؛ لكون الولاية تعني تولي الأمر والتصرّف والتدبير، ويشتق منه
لفظ الوالي بمعنى الحاكم والأمير.
وعليه فإنها تعني التصرف في الكون، والحياة والبشر، وتحديد خط السير
لكل ذرة تائهة في هذا الوجود الواسع، فصاحب الولاية الأصلي هو الله
تبارك وتعالى الذي يخلق الأشياء ويحدد مسارها، وكل شيء يسير في خط
تكاملي بين التكوين والتشريع، فالذي خلق الإنسان شرع له بمقتضى تكوينه.
ومن هنا جاء التوازن بين خلق الإنسان وقانونه في الحياة، ومتى ما
تكاملت هاتان الحلقتان، أي حلقة التكوين والتشريع بمعنى تطابق العالمين
تحقق التوازن في الحياة، ومن ثمار هذا التوازن هو تحقق العدالة في كل
جانب من الحياة.
هذا ما يستفاد من كلمة الولاية، وأما كلمة السيادة فالمنصرف منها هو
الفصل بين التكوين والتشريع؛ لأن السيادة لا تفيد أي أهمية لمسألة
التكوين؛ لكونها بالتشريع، وتغض الطرف عن المكون للوجود والإنسان ودوره
في الخلق والحياة كما هو المتبادر منها عرفاً، فهي تفترض وجود إرادتين:
إرادة الخالق وإرادة المشرّع، فتهمل الأول وتأخذ بالثاني، وربما تناقضت
الإرادتان عندما يقرر المشرّع أمراً خلافاً لإرادة الخالق عز وجل،
ويكون حصيلة هذا التناقض هو الدمار والخراب وانهيار الدول والمجتمعات؛
لخروج التشريع عن خط نظام التكوين، ولعلّ قوله سبحانه وتعالى: {وكأين
من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً
نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا}[14] يشير إلى ذلك.
الثانية: تتفرع الولاية الأصلية التي هي لله عز وجل إلى ولايات أخرى
بحسب تفاوت المراتب، فتتفرع إلى ولاية الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)،
وإلى ولاية أولي الأمر من الأئمةهم، ثم ولاية الفقهاء العدول، ثم ولاية
كل مؤمن، حيث قال سبحانه:{إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا}[15]
ويقول عز وجل: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر}[16].
وعليه فإن الولاية تتسع لتشمل مساحة واسعة من المجتمع الإسلامي،
لكنها تبقى في الأصل لله سبحانه وتعالى، وهي في شموليتها للمجتمع
الإسلامي تحيط هذا المجتمع بسحابة من الرحمة الإلهية، وتضمن كل وسائل
التقدم في المجتمع؛ لأنها تدفع بالجميع لتحمل أعباء المسؤولية، بينما
صرّح فقهاء السيادة بعدم إمكانية تفويضها والتصرف بها، بل تبقى حكراً
على شخص أو فئة فتبعث بالجمود والتضييق في المجتمع.
الثالثة: الولاية عندما تكون للبشر فهي ليست بذاتية؛ لكونها مستمدة
من ولاية الله سبحانه، فيصبح من له ولاية من البشر محدود التصرّف،
مقيّداً بأوامر الله ونواهيه فيضمن فيها العدل، بينما السيادة في
مفهومها الأصلي ذاتية للجميع، وتعطي حرية التصرف المطلق لمن يمتلك هذا
الحق، وهذا ينذر بالظلم والفساد.
الرابعة: الولاية مطلقة عندما تكون من مختصات الخالق سبحانه وتعالى،
وتكون ذات مراتب من حيث النفوذ عندما تتفرع إلى غيره سبحانه، وقد حصر
الفقهاء مرتبة الولاية الكاملة في الله سبحانه وتعالى في التكوين وفي
التشريع، ومنه تتفرع ولاية الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، ومن بعدها
تأتي مراتب ولاية الفقهاء وولاية الآباء والأجداد وما أشبه ذلك حتى تصل
إلى عدول المؤمنين.
وتختلف كل مرتبة عن الأخريات بالسعة والضيق والشدة والضعف، بخلاف
السيادة في منطق القانون الدستوري، فليس لها إلا مرتبة واحدة، وهي أن
تكون مطلقة، وهي من اختصاص جهة واحدة يعطى لها الحق في التشريع، وفي
ممارسة السلطة.
ونستنتج من ذلك أن المجتمع الذي يبنى على الولاية مجتمع متفاعل
الأجزاء، قائم على المحبة والنصرة والتقارب بين الناس والعدالة كما
يفيده معنى الولاية، وينمو فيه الإحساس بالأبوة، بينما المجتمع الناشئ
على السيادة فهو مجتمع قائم على الاحتكار والاستئثار والطغيان
والاستعلاء؛ لأن السلطة فيه مطلقة، وهي حكر على نفر محدود.
ونظرة واحدة إلى المجتمعات الغربية التي أقامت بناءها على مفهوم
السيادة توضح لنا بشكل جلي نتائج تطبيق هذا المفهوم على المجتمعات
البشرية؛ ولذلك نشأت من هذا المفهوم مبادئ الاستبداد والظلم وانتهاك
حقوق الإنسان والاستعمار والاستغلال والابتزاز وما أشبه ذلك من آثار
سلبية عكستها السياسة الغربية في العالم بسبب قيامها على هذا المبدأ،
بينما يكشف لنا تأريخ الحكم الإسلامي في عهد رسول الله(صلى الله عليه
وآله وسلم) عن صورة المجتمع السياسي القائم على قاعدة الولاية، حيث
أوجدت هذه القاعدة مجتمعاً متراصاً كل عضو فيه يؤدي مسؤوليته، فالحاكم
يدير شؤون الحكم بما له ولاية على الناس، وهو الأب والمعلم والمرشد
والمهذب والمؤدب لهم، والأمة تتعاطى معه كل صغيرة وكبيرة؛ لأن لها
ولاية أيضاً، لأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض.
ومن ناحية أخرى نجد أن الأمة هي التي تختار الحاكم بممارسة حقها في
السلطة، وينشأ من هذا الاختيار حق الحاكم في ولاية الأمر، ولعل من هنا
اصطلح الفقهاء قديماً وحديثاً على منشأ السلطات بالولاية، والممارس لها
بالولي على ما ستعرف تفاصيله إن شاء الله تبارك وتعالى.
الجهة الثانية: في الولي الذاتي وأدلة ولايته
لا إشكال في أن الولاية كلها لله سبحانه وتعالى، وهي تتعلق تارة
بالخلق والتكوين فيقال لها ولاية تكوينية، وتارة بالتشريع والتقنين وما
يتعلق بهما فتسمى ولاية تشريعية.
أما الولاية التكوينية فقد قامت ضرورة العقل على ثبوتها لله سبحانه
وتعالى؛ لكونه الخالق المكون والمدبر لشؤون الكون؛ بداهة استحالة وجود
المصنوع من دون صانع من حيث الكبرى، وأن هذا الصانع هو الله عز وجل لا
غير من حيث الصغرى، فإنه عز وجل هو الخالق البارئ المصور المكون لهذا
العالم، وقد قامت ضرورة العقل وبديهة الفطرة والوجدان على أن العلة لها
ولاية تامة على شؤون المعلول في كل أنحاء وجوده الأصيلة والتابعة،
ولولا ذلك لبطلت العلية، أو لزم أقوائية المعلول من العلة، أو كان
للمعلول ولاية على العلة، أو كان قانون العلية والمعلولية باطلاً،
وكلها باطلة عقلاً؛ لاستلزامها الخلف والدور والتسلسل، وهي محالة
لرجوعها إلى التناقض على ما قرره علماء الحكمة.
وأما دلالة الكتاب والسنة على هذه الولاية فهي غنية عن الذكر بعد
تضافر الآيات والروايات فيها، كما أنها مؤكدة لحكم العقل والفطرة
والضرورة، وأما الإجماع فلا إشكال في اتفاق جميع الأنبياء والمرسلين
والفقهاء والحكماء المتألهين والعرفاء الشامخين، بل جميع المليين من
الناس أجمعين على أن الولاية مختصة بالقيوم المطلق على كل شيء، وهو
الله جل جلاله وعز سلطانه، وقد أثبت ذلك جميع علماء الملل والأديان
السماوية بأدلة عقلية ونقلية، ولا معنى للقيوم الذي هو أم الأسماء
الإلهية إلا هذا على ما فصله علماء الكلام في مظانه.
وبذلك يظهر أن الولاية الحقيقية هي ولاية الله سبحانه الخالق البارئ
المصور للأشياء، والمخرج لها من ظلمة العدم إلى نور الوجود؛ إذ لا مؤثر
في الوجود سواه، ولا خالق غيره تبارك وتعالى، وله تدبير أمور الكون في
الإيجاد والإعدام والبسط والقبض وسائر التصرفات الكونية الأخرى، فقد
قال سبحانه وتعالى: {إن الله يفعل ما يريد}[17] وقال عز وجل: {الله
خالق كلّ شيء}[18] وقال جل من قائل:{وما لكم من دون الله من ولي ولا
نصير}[19].
اقسام الولاية التكوينية
يمكن تقسيم الولاية الإلهية على الكون إلى أربعة اقسام:
القسم الأول: ولاية الخلق، بمعنى أنه هو الخالق لكل شيء، كما هو
المسلّم عند جميع أهل العقول. قال سبحانه وتعالى: {ذلكم الله ربكم خالق
كل شيء}[20] ونسبة الخلق إليه تبارك وتعالى حقيقية، ونسبته إلى غيره
مجازية، كما في مثل قوله: {إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير}[21] على
ما فسره المفسرون وعلماء الكلام.
القسم الثاني: ولاية الإبقاء؛ لأن بقاء الأشياء برعاية الله سبحانه
وقيمومته على كل شيء، فبمجرد أن ينقطع عنها لطفه وإبقاؤه تفنى الأشياء
وتضمحل، وربما يمثل له بالصور التي يوجدها الإنسان في ذهنه، فإنها توجد
بإرادته ذلك، وتنعدم فور صرف إرادته عنها.
القسم الثالث: ولاية الإنماء؛ إذ هو عز وجل رب العالمين، وهو القاهر
فوق عباده، فكل شيء ينمو بإرادته ورعايته، ومن الواضح أن الإنماء غير
الإيجاد والإبقاء؛ لأن الإنماء فيه نوع من التحويل من حال إلى حال،
سواء كان التحويل من الأسوأ إلى الأفضل، أو من الأفضل إلى الأسوأ، أو
من الأفضل إلى الأفضل منه، أو من المساوي في الفاسدية أو في الأفضلية.
القسم الرابع: ولاية الجزاء والحساب في الدنيا والآخرة ثواباً أو
عقاباً كما قامت عليه الضرورة، فضلاً عن أدلة العقل والنقل.
هذا ولعل التعبير الجامع الذي ورد في القرآن الكريم الشامل للولاية
الإلهية على الكون بأبعادها الأربعة هو التدبير، فإن التدبير في اللغة
هو التفكير في دبر الأمور، كما قال تبارك وتعالى: {فالمدبرات أمراً}[22]
ويعني في ضمن ما يعنيه الملائكة الموكلة بتدبير أمور الكون، ويقال :
دبر الأمر: أي ساسه ونظر في عاقبته كما في المعجم[23] الوسيط. ويقال
أيضاً : التدبير في الأمر أن تنظر إلى ما تؤول إليه عاقبته كما في لسان
العرب[24]، وفي مجمع البيان: يدبر الأمر : أي يقدّره وينفذه على وجهه،
ويرتبه على مراتبه على إحكام عواقبه[25].
وحيث إن التفكير والنظر في الأمور لا يصح إطلاقهما على الله سبحانه
وتعالى لذا ينبغي أن نحملهما على ما يليق بشأنه عز وجل بحسب القاعدة
الكلامية التي تقول : خذ الغايات واترك المبادئ؛ ولذا ينبغي أن نحمل
التدبير بتدبيره على إظهار أثر التفكير والنظر في الأشياء، وهو بمعنى
العمل بمقتضى مصلحة الأشياء ونظامها الذي يقومها، ويحقق أغراضها، فإنه
سبحانه وتعالى يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، بمعنى أنه يأتي بالشيء
عقيب الشيء، وينظمه بوضع كلّ شيء بموضعه الخاص به، بحيث يحقق كلّ منها
ما يقصده من الغرض والفائدة، وتدبير أمر العالم تنظيم أجزائه تنظيماً
جيداً ومتقناً، بحيث يتوجه كلّ شيء إلى غايته المقصودة منه، وتدبير
الكل أي إجراء النظام الكوني العام بحسب المقتضى والمصلحة والحكمة،
بحيث يلغي العبثية، ويوصل كلّ شيء إلى غايته الخاصة به، ويحقق الغرض
الكلي العام الذي يقتضيه نظام الخلق والإيجاد.
ومن هذا ربما يظهر أن التدبير هو معنى جامع يتضمن أنحاء التصرفات
الإلهية في الكون إيجاداً وإبقاء وإنماء وحساباً. قال سبحانه :{ثم
استوى على العرش يدبر الأمر}[26] وقال عز وجل {ومن يدبر الأمر}[27] .
ولعل مما يشير إلى ذلك أيضاً كونه سبحانه رباً للعالم أجمع، والرب
هو المالك الذي يدبر أمر مملوكه كما في كتب اللغة [28]، وعليه فهو
سبحانه وتعالى رب العالمين الذي يملك تدبيرهم في أصل الوجود وفي شؤون
الوجود كمالاً ونقصاً وتبديلاً وإنشاء وإبداعاً؛ لأن الملك الحقيقي لا
ينفك عن التدبير، والتدبير يستلزم ثبوت الولاية الذاتية الحاكمة في
الأشياء طراً، وكل ما سوى ذلك فهو بالعرض ومقتبس منه قوة وقدرة، وبذلك
يثبت أن كل قدرة في الوجود تنتهي إليه سبحانه وتعالى، سواء تجسدت في
المادة والماديات، أو في المعنى والمعنويات، أو تجلى في العلم والمعرفة،
أم في الخلق والتكوين، أم في السلطة السياسية أو القضائية وغيرها؛ لأنه
عز وجل الخالق المطلق، فهو المتصرف المطلق والحاكم المطلق على كل شيء،
فهو منشأ السيادة بالذات والأصالة، وولايته وسيادته وسلطته سبحانه على
الأشياء لا تقبل الضعف أو الزوال أو البطلان، وكل سيادة أو ولاية اخرى
فهي مكتسبة وعرضية وقابلة للضعف والزوال والبطلان، وكل سيادة عرضية لا
تنتمي إلى سيادته عز وجل وسلطته على الأشياء ولا تتفرع منه فهي باطلة
عقلاً وشرعاً.
الولاية التشريعية
وأما الولاية التشريعية فهي بمعنى مالكية القدرة على التصرف في شؤون
التشريع، وجعل الأحكام والقوانين والأنظمة، وكذا ما يرتبط بتهذيب
الإنسان وتعليمه وهدايته، وهي أولاً وبالذات مختصة بالله سبحانه لا غير،
كما قامت عليه بداهة العقول والفطرة وتضافر الآيات والروايات، فضلاً عن
إجماع جميع أهل الملل والنحل، فلا ينازعه فيها أحد، ولا يشاركه فيها
أحد، فللباري تعالى حق جعل الأحكام ووضع القوانين وإنزال الكتب وإرسال
الرسل وجعل الشرائع والأديان، وهذا الحق أولاً وبالذات حقه عز وجل
وشأنه كما قال تبارك وتعالى:{إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه}[29]
وقال عز من قائل:{إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين}[30]
ويقول عز وجل:{ألا لله الدين الخالص}[31] ومن الثابت أن ضرورة التكوين
تقتضي وجود نظام التشريع أيضاً؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى حكيم،
والحكيم له غرض في أفعاله، وإلا كان فعله عبثاً ينتهي إلى نقصه، وهو
خلاف الوجوب والحكمة.
وعليه فإن التشريع مكمل للتكوين حكمة، كما أن ضرورة التكوين تقتضي
وجود التشريع، وبما أن الله سبحانه وتعالى هو المالك الحقيقي للكون
تكويناً بما أنه خالق ومدبر فلا مجال ولا قدرة لأحد في أن ينازعه في
ملكه وملكوته، فكذلك الأمر تشريعاً، فلا يحق لغيره عز وجل أن يحكم
مستقلاً أو تابعاً بغير إذنه ورضاه، كما لا يحق لأحد أن ينازعه في
أحكامه، وذلك أن من امتلك أمر التكوين امتلك أمر التشريع؛ لضرورة تطابق
العالمين، فإن التشريع بمعنى جعل القوانين والأنظمة الحكيمة للتعامل مع
عالم التكوين، ومن هنا نجد أن القرآن الكريم يحصر حق الحكم لله سبحانه،
وليس لأحد من خلقه أن يبادر إلى تشريع حكم أو تولي حكومة أو قضاء إلا
بإذنه أو رضاه. قال تعالى:{إن الحكم إلا لله}[32] وقد عللت بعض الآيات
ذلك، منها قوله عز وجل:{فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر
الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم}[33] إذ تشير الآية
إلى كون الحكم لله سبحانه؛ لأنه مطابق للخلقة، ومنسجم مع الفطرة، ومكمل
لنظام الكون والوجود، ومنه يعرف أن الله عز وجل لم يخلق الخلق عبثاً
دون غرض وغاية، حيث قال سبحانه: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً}[34]
وإنما خلق الخلق لأغراض وغايات كمالية يسيرون إليها بحسب جبلتهم
وفطرتهم بعد أن منحهم الوسائل والأسباب بالعقول والفطر، ومهد لهم الطرق
بالكتب والأحكام، وهداهم إليها بالأنبياء والرسل(عليهم السلام)، كما
قال سبحانه:{أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}[35] وقال عز وجل:{ثم السبيل يسره}[36].
وبهذا يتضح أن الدين الحق لله، والحكم حكمه سبحانه، فلا حكم إلا له
مباشرة أو بالواسطة، وما وراء ذلك فهو حكم باطل لا يسوق الإنسان إلى
رشد وكمال، بل وينتهي به إلى الشقاء والتعاسة؛ إذ هما ضدان لا يفصلهما
ضد ثالث ممكن أن يكون له أثر مغاير لآثارهما، كما يتضح أيضاً أن السلطة
الحقيقية في الوجود ناشئة من الولاية الحقيقية الذاتية على شؤون
التكوين والتشريع، وهذه الولاية الذاتية لا يملكها إلا الله عز وجل،
فهو مبدأ السلطة والولاية، وهو مصدرها، وكل سلطة أو سيادة أو ولاية
فينبغي أن تتفرع منه وتنشأ من رضاه عز وجل.
* فصل من كتاب فقه الدولة
وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء
الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية
** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء
المقدسة
*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى
http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm
........................................
[1] p333. Encye lopaeda of social science. Vol.
Liii
[2] Cited by sirt. Arnold in his book : The
caliphate. P198.
[3] The caliphate. Oxford. 1924, p.3.
[4] شرح نهج البلاغة: ج2 ص307 الخطبة 40 .
[5] شرح نهج البلاغة: ج2 ص307 الخطبة40 .
[6] دراسات في ولاية الفقيه: ج1 ص405 .
[7] شرح نهج البلاغة: ج8 ص123؛ تأويل مختلف الحديث:
ص17، واعلم أن الوارد عنه(صلى الله عليه وآله وسلم)من طرقنا : لا
تجتمع أمتي على ضلالة انظر البحار: ج2 ص225 ح3؛ وج5 ص20 ح30.
[8] راجع مقدمة كتاب السياسة لأرسطو: ص79.
[9] سورة يوسف: الآية 40 و 67؛ وسورة الأنعام: الآية
57.
[10] سورة المائدة: الآية 47.
[11] سورة يونس: الآية 59.
[12] سورة النحل: الآية 116.
[13] سورة آل عمران: الآية 154.
[14] سورة الطلاق: الآية 8.
[15] سورة المائدة: الآية 55.
[16] سورة التوبة: الآية 71.
[17] سورة الحج : الآية 14.
[18] سورة الزمر: الآية 62.
[19] سورة البقرة: الآية 107.
[20] سورة غافر: الآية 62.
[21] سورة آل عمران: الآية 49.
[22] سورة النازعات: الآية 5.
[23] المعجم الوسيط: ج1 ص269 دبر.
[24] لسان العرب: ج4 ص273 دبر.
[25] مجمع البيان: ج5 ص90 ذيل الآية 3 من سورة يونس
.
[26] سورة يونس: الآية 3.
[27] سورة يونس: الآية 31.
[28] راجع لسان العرب: ج1 ص399 ربب؛ المصباح
المنير: ج1 ص214 كتاب الراء؛ مجمع البحرين: ج2 ص64 ربب بتصّرف.
[29] سورة يوسف: الآية 40.
[30] سورة الأنعام: الآية 57.
[31] سورة الزمر: الآية 3.
[32] سورة الأنعام : الآية 57.
[33] سورة الروم: الآية 30.
[34] سورة المؤمنون: الآية 115.
[35] سورة طه: الآية 50.
[36] سورة عبس: الآية 20. |
