أمريكا ما بعد الرحيل... تركة حرب ثقيلة

 

شبكة النبأ: في الأسابيع الأخيرة أبرزت عدد من الهجمات الإرهابية المميتة التي وقعت في العراق واقع الحقيقة بأنه حتى بعد مرور سبع سنوات من عمليات مكافحة التمرد والاستقرار، لا تزال الولايات المتحدة تواجه تحديات كبرى في تحقيق هدفها طويل المدى في إقامة عراق "ذي سيادة واستقرار واعتماد على الذات" وفقاً لما قاله الرئيس الأمريكي باراك أوباما.

وعلى الرغم من أن هذه الأحداث - بما في ذلك سلسلة من الهجمات المنسقة التي وقعت في الخامس والعشرين من آب/أغسطس وأودت بحياة أكثر من 50 شخصاً في 13 مدينة في أنحاء متفرقة من العراق - تؤكد أن الأمن لا يزال هو المهمة الأولى التي ينبغي على الولايات المتحدة القيام بها في العراق، إلا أن عوامل أخرى عديدة ستؤثر على قدرة واشنطن على العمل مع بغداد للحفاظ على المكاسب الأمنية التي تحققت في السنوات الأخيرة، وبناء شراكة استراتيجية مع حكومة وشعب العراق، وتجسيد التطورات المستقبلية في تلك البلاد والتأثير عليها.

وغالباً ما تقرر الانتخابات الثانية في الديمقراطيات الانتقالية، ما إذا كانت العمليات الديمقراطية الوليدة [قادرة على] ترسيخ أركانها وإثبات ديمومتها. وكانت الانتخابات البرلمانية العراقية الأولى في ظل دستور البلاد الجديد قد أُجريت في كانون الأول/ديسمبر 2005 وتمخضت عن تشكيل الحكومة الحالية التي يرأسها رئيس الوزراء نوري المالكي.

وقد أُجريت الانتخابات الثانية في آذار/مارس 2010 وأسفرت عن تعادل في الأصوات الانتخابية، حيث لم يحصل أي حزب على ما يكفي من الأصوات لتشكيل حكومة بمفرده، وفي الأشهر السبعة التي أعقبت الانتخابات لم يُبد أي منهما استعداده لتقديم التنازلات الضرورية لتشكيل حكومة ائتلافية. وقد ألمح بعض المسؤولين الأمريكيين إلى أن استمرار الجمود السياسي قد يؤدي إلى حدوث انقلاب يتزعمه ضباط الجيش الذين سئموا من السياسيين المتناحرين (على الرغم من أنه من غير المرجح حدوث انقلاب مادامت قوات الولايات المتحدة باقية في العراق).

ووفقاً لمسؤولين أمريكيين في بغداد، تضغط واشنطن من أجل إقامة حكومة عراقية "شاملة، وممثلة، ومسؤولة أمام الشعب العراقي"، لتجنب حدوث المزيد من عدم الاستقرار. كما تناقلت وسائل الإعلام أيضاً خبر قيام الحكومة الأمريكية بطرح خطة لتقاسم السلطة من شأنها أن تقلص صلاحيات رئيس الوزراء وتوسع من صلاحيات "المجلس السياسي للأمن الوطني" على أمل الإسراع في عملية تشكيل الحكومة من خلال تكبير حجم الكعكة السياسية التي يمكن أن تتقاسمها الأحزاب المتنافسة. بحسب معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى.

وسيتم تحديد مستقبل العراق القريب من قبل القادة المنتخبون في البلاد. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تجبر هؤلاء القادة على تشكيل حكومة شاملة - بل أي حكومة على الإطلاق - فإن هذا قد يشير إلى أن الفشل في تحقيق ذلك سيقوض من دعم الولايات المتحدة للشراكة طويلة المدى من النوع المرغوب من قبل جميع الأحزاب العراقية الرئيسية تقريباً (باستثناء الصدريين الذين يرفضون مثل هذه الشراكة مع الولايات المتحدة). ومع ذلك، قد يستمر الوضع الراهن بعض الوقت.

وستزداد فاعلية النفوذ الأمريكي إذا ما تم تشكيل حكومة جديدة. بيد، لم يعد نفوذ الولايات المتحدة في العراق بالشكل الذي كان عليه عندما كانت واشنطن تنفق بلايين الدولارات في عملية إعادة إعمار العراق (على الرغم من أنه حتى في ذلك الحين، كان من الأسهل بكثير التحدث في كثير من الأحيان، عن ممارسة تأثير فعلي لهذا النفوذ من القيام به [من الناحية العملية]). واليوم، تحتاج الولايات المتحدة إلى أن تكون أكثر ذكاءً في تحديد مصادر النفوذ، وأكثر تركيزاً في تطبيق هذا النفوذ، وأكثر اعتدالاً في ما تحاول تحقيقه من النفوذ الذي لا تزال تمتلكه.

ولا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بالسلطة للم شمل العراقيين من أجل حل مشاكلهم، كما تنفرد بقدرتها على مساعدة العراق في تطبيع علاقاته مع جيرانه العرب والمجتمع الدولي. وعلاوة على ذلك، يؤمن الكثير من الضباط العسكريين العراقيين بأن بلادهم بحاجة إلى نوع من العلاقة الأمنية مع الولايات المتحدة التي جلبت الاستقرار إلى بلدان عربية أخرى. إن هذا يمنح واشنطن ورقة تستخدمها في التعامل مع القيادة السياسية في العراق.

ولعل أكبر المصادر الكامنة لنفوذ الولايات المتحدة في العراق هو الخوف الذي يملأ قلوب الكثير من العراقيين بشأن مستقبل بلادهم.

ويرى الكثير منهم أن إقامة أي علاقة مع الولايات المتحدة هي بمثابة بوليصة التأمين الوحيدة ضد عودة المليشيات الطائفية وتنظيم «القاعدة» في العراق، والقمع الحكومي والتوجهات الأحادية (حول قضية الحدود الداخلية المتنازع عليها، على سبيل المثال)، وقيام انقلاب عسكري، وإحياء حزب البعث، أو النفوذ الإيراني غير الملائم.

بيد أن ترجمة هذا النفوذ إلى نتائج سياسية ملموسة ما يزال أمراً صعباً - كما تعلّم ذلك حتى دبلوماسيو طهران، الذين فشلوا في تحقيق العديد من أهدافهم الكبرى في العراق.

إن قدرة واشنطن على التأثير على التطورات في العراق ستكون أكثر تعقيداً بسبب الانسحاب المدني الذي صاحب الانسحاب العسكري الأمريكي.

وحتى بعد أن تولت سفارة الولايات المتحدة في بغداد زمام المبادرة في تمثيل مصالح الولايات المتحدة في العراق، فإنها قللت من تواجدها في المحافظات. فقد انخفض عدد فرق إعادة الإعمار في المحافظات من 23 فريق في عام 2009 إلى 16 فريق هذا العام، وسوف يتقلص عدد هذه الفرق خلال عام 2011 ليضم فقط مكتبين فرعيين مؤقتين للسفارة الأمريكية في [محافظتي] الموصل وكركوك اللذين سيظلا مفتوحين لمدة تتراوح بين ثلاثة وخمسة أعوام، بالإضافة إلى قنصليتين دائمتين في أربيل والبصرة، وسيترتب على ذلك فقدان الولايات المتحدة للوعي الموقفي الهام، واحتمال أن تؤدي التطورات التي تجري في المحافظات العراقية إلى ترك السفارة الأمريكية في بغداد وبشكل خطير في الظلام. وعلاوة على ذلك، من المرجح أن يؤدي الموقف الأمني غير المستقر في العديد من المحافظات الحيوية والمهمة إلى استمرار تقييد حرية تنقل الدبلوماسيين الأمريكيين، مما سيؤدي إلى تفاقم هذه المشكلة.

ونتيجة قضاء الجيش الأمريكي سبع سنوات على أراضي العراق وحرصه بعناية كبيرة على إقامة علاقات مع كبار القادة المحليين في تلك البلاد، يملك هذا الجيش ثروة من المعلومات حول المجتمع العراقي والسياسات المحلية.

وتعتبر هذه المعرفة وهذه العلاقات ضرورية للدور المستقبلي الذي ستلعبه الولايات المتحدة في العراق، وهناك حاجة إلى نقلها إلى الفريق الدبلوماسي الأمريكي - على الرغم من أنه من غير الواضح ما إذا كان هذا يحدث إلى الحد المرغوب فيه.

وسيترتب عن تضاؤل الوعي الموقفي مخاطر كبيرة. ولهذا السبب، قد يكون من المنطقي قيام السفارة الأمريكية في بغداد بالاحتفاظ بخدمات مجموعة صغيرة من ضباط الجيش من المستوى المتوسط من الذين خدموا في المحافظات والذين قد تثبت اتصالاتهم في جميع أنحاء البلاد بأنها مفيدة في السنوات القادمة.

بيد، لا يمكن لإستراتيجية أمريكية أن تكون فعالة حقاً إذا لم تتناول الفساد في العراق. فوفقاً لتقرير "منظمة الشفافية الدولية" تعتبر العراق إحدى أكثر الدول فساداً في العالم حيث تحتل المرتبة رقم 176 من بين 180 دولة. وقد وصف المفتش العام الأمريكي الخاص بإعادة إعمار العراق، ستيوارت باون، الفساد في العراق بأنه "التمرد الثاني".

ويتسم أثر الفساد بالتغلغل. فهو يقوض الأمن حيث يقوم المتمردون والإرهابيون بدفع الرشاوى للجنود العراقيين والشرطة بل وحتى القضاة لكي يتجاهلوا أنشطتهم ويطلقوا سراح المعتقلين. كما أنه يفسد الثقة بالنظام السياسي، مما يهدد آمال الديمقراطية طويلة المدى، ويُضعف من شرعية الأحزاب السياسية السائدة ويتسبب في حدوث مظالم تستطيع الأحزاب المتطرفة استغلالها.

وبما أنه غالباً ما يقوم المسؤولون الفاسدون بتوزيع مكاسبهم غير المشروعة بين أصدقائهم المقربين الذين يشاركونهم نفس الهوية العرقية أو الطائفية، يقوم الفساد أيضاً بتغذية مشاعر الاستياء العرقية والطائفية ويعمل على تصعيد التوترات.

ولهذه الأسباب، ينبغي على الولايات المتحدة مواصلة الضغط على الحكومة العراقية بهدف تطبيق القوانين والأحكام القائمة لمكافحة الفساد، وتعزيز آليات هذا التطبيق، وإصدار قوانين وأحكام جديدة عند الاقتضاء. ومع ذلك، فستحظى هذه المجهودات بنجاح محدود فقط، طالما يتسامح قادة العراق المدنيين والعسكريين مع هذا الفساد، أو يستفيدون منه.

كانت إدارة أوباما قد قامت بصورة مستمرة بصياغة الدور العسكري الأمريكي في العراق بأنه انسحاب وشيك للقوات الأمريكية بموجب الاتفاقية الأمنية بين البلدين. وقد حان الوقت لتجاوز هذه النظرة حول العلاقة العسكرية التي صيغت على نطاق ضيق. إن دور العراق المحتمل كلاعب في بلاد المشرق العربي وممثل محوري في منطقة الخليج يعني أن إقامة علاقة أمنية طويلة الأمد بين واشنطن وبغداد باتت تصب في المصلحة القومية للولايات المتحدة.

وعلاوة على ذلك، أعرب مسؤولون كبار في الجيش العراقي عن شكوكهم حول قدرة قوات الأمن العراقية على الحفاظ على النظام في البلاد دون دعم الولايات المتحدة، في الوقت الذي لن يكون فيه سلاح الجو العراقي، الذي يفتقر إلى الطائرات المقاتلة الحديثة، مستعداً لتأمين مجال العراق الجوي بحلول موعد الانسحاب في عام 2011.

ولذلك، لدى الولايات المتحدة مصلحة في الإبقاء على بعض التواجد العسكري في العراق بعد 2011 - والذي ربما يتمثل في تواجد لواء أو لواءين يتألفان من 5000 – 10,000 جندي - بالطبع، إذا ما طلبت الحكومة العراقية ذلك. غير أنه يجب على القادة العراقيين أن يتفهموا بأن الشعب الأمريكي سيدعم قيام علاقة أمنية مع العراق بعد عام 2011، فقط عندما يؤمن أن العراق يتمتع بحكومة فاعلة تستجيب للمخاوف الأمريكية.

يجب على واشنطن أن تحرص على أن لا تطلب من بغداد تحمّل المزيد من المسؤوليات الأمنية أكثر مما باستطاعتها التعامل معه. يتعين على الولايات المتحدة التركيز على تحسين قدرة العراق على مواجهة الإرهاب داخل حدوده والمساعدة على ردع تدخل الدول المجاورة مثل إيران - لكن لا ينبغي عليها، في مثل هذا الوقت، أن تجند العراق - الذي لا يزال هشّاً - كدولة حليفة [تساعد] على احتواء إيران.

إن تاريخ دول ما بعد الصراع يشير إلى أن العراق سيكتسب قوة وتماسكاً سياسياً، وسيكون له فرصة أكبر في تجنب تجدد الحرب الأهلية إذا سارت الأمور عبر عملية مصالحة وطنية. ومع ذلك، لم يتحول العراق بعد إلى مجتمع يعيش بصورة حقيقية في فترة ما بعد الصراع. ومن المرجح أن تؤدي الهجمات المتواصلة لتنظيم «القاعدة» إلى ترسيخ جذور الطائفية كعامل في السياسات العراقية والمجتمع العراقي ولها القدرة حتى على إثارة المزيد من العنف.

وحتى الآن، مرت العراق فقط بتجربة "المصالحة التكتيكية" - نزع السلاح، والتسريح، وإعادة دمج المتمردين السابقين من السنة والشيعة. ولم تشهد عملية مصالحة وطنية عريضة القاعدة من النوع الذي حدث في الأرجنتين والسلفادور وجنوب إفريقيا.

وحالياً، قد يكون أفضل أمل للعراق هو "المصالحة من خلال السياسات" والتي يستطيع بموجبها ائتلاف حاكم ذو قاعدة عريضة إعطاء عناصر من كل طائفة من المجتمعات العراقية نصيباً في النظام السياسي.

ولكن من السهل التخيل بأن تؤدي السياسات العراقية إلى إثارة جولة جديدة من العنف الطائفي والعرقي إذا ما تم استبعاد السياسيين المهمين من السنة والصدريين من حكومة ائتلافية [مستقبلية]، أو إذا تصاعدت التوترات بين بغداد و"حكومة إقليم كردستان" في أربيل برحيل القوات الأمريكية. إن منع مثل هذا العنف قد يكون أفضل سبب لبقاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق، وإن كان أقل بكثير [مما هو عليه الآن].

إن الشرط الذي لا غنى عنه لإنجاح عملية المصالحة الوطنية هو [قيام] قيادة عراقية شجاعة وبعيدة النظر. فالعراق يفتقر حالياً لمثل هؤلاء القادة، غير أن هذا لا يعني أنه لا يمكن اتخاذ خطوات الآن لتمهيد الطريق للمصالحة.

ولتحقيق هذه الغاية، يجب على الجيش الأمريكي وسفارة الولايات المتحدة العمل مع الحكومة العراقية، والمنظمات الدولية والعراقية غير الحكومية، والأمم المتحدة لوضع خطة لعملية المصالحة الوطنية تتضمن دروساً من أماكن أخرى وتعكس أيضاً قيم العراق الثقافية وأفضلياته ووقائعه السياسية.

إذا استطاع العراق تجنب جولة رئيسية أخرى من الطائفية الدامية وأخرج قادة يتسمون بالشجاعة وبعد النظر ويتعهدون بإقامة المصالحة الوطنية - وهما شرطان أساسيان - فإن خطة للمصالحة الوطنية من هذا القبيل قد تكون أهم تراث تتركه الولايات المتحدة إلى العراق في النهاية.

نبذة عن معهد واشنطن

الجدير بالذكر ان معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى بحسب موقعه الالكتروني أسس عام 1985 لترقية فهم متوازن وواقعي للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط. وبتوجيه من مجلس مستشارين بارز من كلا الحزبين من اجل توفير العلوم والأبحاث للإسهام في صنع السياسة الأمريكية في هذه المنطقة الحيوية من العالم.

وينقل موقع تقرير واشنطن الالكتروني إن الهدف من تأسيسه كان دعم المواقف الإسرائيلية من خلال قطاع الأبحاث ومراكز البحوث وان لجنة العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية المعروفة بإيباك كانت المؤسسة الأم للمعهد حيث أن مديره المؤسس هو مارتن إنديك رئيس قسم الأبحاث السابق باللجنة. وتزعم المنظمة أنها اختارت مصطلح "الشرق الأدنى" لتعريف الهوية الذاتية للمعهد (بدلا من "الشرق الأوسط) لأنه المصطلح المعترف به في الخارجية الأمريكي لوصف العالم العربي والدول المجاورة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 7/تشرين الأول/2010 - 27/شوال/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م