كفى تلميعاً للتاريخ

ياسر محمد

يتعرض التاريخ يوماً بعد يوم لمراجعات جديدة من شأنها إزاحة الستار عن شخصياته وإظهارها كما هي من خلال ما دونه المؤرخون في الكتب والمصادر المعتبرة، فقد يقدس التاريخ ويجل أفراداً هم في واقع الأمر في الحضيض، وقد يحط من رموز هم في الواقع من الصفوة.

وهنا نحتاج لتحليل التاريخ بتجرد وواقعية وعدم القراءة بأفكار مسبقة ورفع هالة القداسة فيما لم ينص عليه دليل من أن شخصيات بعينها معصومة من الخطأ والزلل ويجب القصاص من المتعرضين لشيء من تاريخها المحشو في بطون الكتب ومصادر الطوائف المختلفة.

ومن لطيف ما يستحق الانطلاق منه كنقطة لسبر التاريخ وأحوال رجالاته وتقبل عرضه بكل شفافية وحرية وبعيداً عن التجريح، ما يذهب إليه إخواننا أبناء المذهب السني من القول بعدم عصمة أحد عصمة مطلقة حتى الرسول (ص) الذين يرون أن عصمته في جوانب معينة.

ومتى ما استطاع أي مذهب من المذاهب أو دين من الأديان يعتقد بهذه النقطة اعتقاداً جازماً والعمل بها والأخذ بنتائجها، كلما كان تقبل أبناءه لقراءة التاريخ من المصادر التابعة له من قبل الآخرين ممن هم خارج الدائرة أكثر مقبولية وبعيداً عن ردات الفعل.

فليس من الصحيح لا من الشيعة ولا السنة عندما يخرج من ينبش تابوت التاريخ ويتحدث عن كل من لا يُعتقد بعصمته – حتى وإن لم يلتزم بقواعد الحوار العامة وأساليب الدعوة - أن تستنفر الأقلام وتخلط الأوراق بنفي شيء وإخفاء أشياء هي من الوقائع التاريخية.

نعم، أن ترد الإساءة والمغالطة التاريخية متى ما وجدت فهذا حسن، ولكن أن يصل الرد وتوضيح الرأي المغاير لما طرح موصلاً للتلميع المبالغ فيه حتى تبهت الألوان ويصبح اللا معصوم في مقام المعصوم ليُعطى الرأي العام بذلك إحياء بانتفاء كل الأخطاء وسلامة المواقف فهذا غير صحيح، وهذا ما يقع فيه بعض الكتاب وأرباب العلم وأصحاب المصالح من عامة الناس حينما يريدون تبيان الموقف ممن يقول أو يكتب أو يبحث في الشخصيات وأحوالها.

وهذا يدخل ضمن تدليس التاريخ للأجيال القادمة وتصبح كفتي ميزان التاريخ متساويتين من حيث العدالة والظلم.

باعتقادي أن ما يتعرض له التاريخ من صعقات وإن كانت قاسية إلا أنها تظل فرصة لغربلته والتعريف برموزه وقادته لاتخاذ الصالحين منهم كرموزاً بل وفتح المجال مستقبلاً للحديث عن أي شخصية غير معصومة بكل حرية تامة لجعلها رمزاً أو التنازل عن رمزيتها إن ثبتت المؤاخذات عليها وخاصة لأبناء الجيل المعاصر.

 فـ" هل من المصلحة أن يدرس أبناؤنا التاريخ الإسلامي بطريقة منتقاة، منمقة، مزيفة؟! أم انه من الأفضل أن يقرأوا ويستوعبوا التاريخ كما هو، وكما حصل، حتى لو أدى ذلك إلى أن يصدموا، فلا شيء كالصدمات يقوي المناعة، ويحفز على النقد، ويبحث عن الأفضل" (1).

فقد قام الإعلام الديني المسيس والمتطرف بمساعدة المناهج التعليمية في العديد من البلاد بتضليل الناس من خلال تنصيع صفحات من التاريخ الغابر والطعن في عقائد فئات من المسلمين ومنهم الشيعة على وجه الدقة في الوقت الذي يهضم رموز أهل البيت (ع) ويخفي دورهم المشرف في قيادة الأمة وتربيتها.

فعشرات الفضائية الدينية التي تجاوزت الثلاثين وبعض المراكز المسماة بالدعوية "المتشددة" تتعدد أدوارها بين تكفير وتحقير رموز الشيعة ومراجعهم وعلماء دينهم، وتلاحق خطبهم المنبرية وحسينياتهم وكتبهم وتهزأ من معتقداتهم وتظهرهم على أنهم فئة مارقة ينبغي محاربتها وعدم العيش معها و..و.. الخ، وبصمت من الشيعة في الرد المباشر والانفعالي لسنوات وسنوات، فإن حدث وظهرت فضائية شيعية أو برنامج واحد قبالة ذلك السيل من الفضائيات آنفة الذكر وردّت بالمثل قامت القيامة وأقيمت الدعوات والمطالبات من الرموز لتعرية ما قيل ومن قال وإن كان مغموراً، بل المطالبة بالتبرؤ الكامل من المراجع والمصادر التي استند إليها في البحث وبالتالي نفي كل ما تحويه، مطالبات ينجر لها البعض تعقبها مطالبات تلو مطالبات لا تنتهي مع الدخول في غمرتها.

المشكلة التي تواجه المواقف التاريخية هي القوة بمختلف أشكالها وأدواتها الإعلامية و السياسية والفكرية، و" مـن القواعـد العامة المستقاة مـن روح التاريخ ولها مدخلية أيضاً فـي الديمقراطية والاستبـداد، أنّ هناك تنازعاً دائماً بين القوّة وبين الحقيقة سواء كانت القوّة قوّة مال، أو قوّة عشيرة، أو قوّة سلاح، أو قوّة علم غير مستقيم. فالقوّة تريد تزييف الحقيقة واستخدامها في سبيل تحقيق مآربها؛ كما يفعله الديكتاتوريون والمستبدّون، والعلماء المنحرفون" (2).

والمشكلة الأخرى هي في نفس أبناء المذهب الواحد وعلمائهم عندما يعرضون الأمور مجزأة دون عرض رؤية متكاملة في الحدث التاريخي ودون توضيح المؤاخذات التاريخية عليه بشكل هادئ وشامل في عرض يدخل ضمن باب الاختلاف وحرية الرأي والمعتقد، فتراهم سبباً في تفاقم ردات الفعل والصدمات التي يتعرض لها جماهير الطوائف الأخرى، فلا تسمع من ابن طائفتك إلا خيرا عندما يُسأل أو يطالب ببيان في ما هو مختلف فيه، فيُضلل المتلقين من كل الطوائف والمذاهب إلا أن تلقي الصدمة يكون كبيراً عندما يعرف الآخر شيء من الحقيقة أو عندما يسمع عكس ما ضلل به.

فمن يتحمل مسئولية التاريخ؟

.......................................

(1): مشعل السديري، صحيفة الشرق الأوسط 28 أبريل 2007، مقال بعنوان: اكتبوا التاريخ كما هو.

(2) السيد محمد الحسيني الشيرازي، من كتاب: فلسفة التاريخ.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 6/تشرين الأول/2010 - 26بش/شوال/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م